في المجالس، في بيئة العمل، وحتى بين الأقارب، دائمًا ما نصادف ذلك الشخص الذي تُوجَّه له الانتقادات، وتُملى عليه النصائح، ويُمارَس عليه التوجيه والاستعلاء، وكأن حياته مشاعة للجميع؛ ولا تكتمل إلا بموافقتهم وآرائهم؛ دون أي اعتراض منه، بل على العكس فهو ينصت للجميع، يوافق الجميع، ويتقمّص دور التلميذ أمام الجميع، حتى أصبحت خصوصياته وقراراته مجرد مسودة قابلة للتعديل. وفي الجهة الأخرى، ترى من لا يجرؤ أحد على انتقاده، رغم وضوح أخطائه وفداحة قراراته؛ فلا أحد يجرؤ على إهدائه نصيحة، ولا أحد يتطوع لتقويمه.. لديه هالة غريبة يحيط بها نفسه لردع الفضول، والوصاية، والنقد المجاني.. وقد لا يكون أكثر كفاءة، لكنه أكثر وعيًا بكيف تُصنع الهيبة، وكيف تُرسم الحدود. فالمسألة لا تتعلّق بالكبر أو الهروب، بل بحماية المساحة الآمنة داخلك.. تلك التي لا يدخلها أحد إلا بإذن، ولا يطّلع عليها أحد إلا بوعي منك.. فليس كل من اقترب يستحق أن يعرف، ولا كل من نصح أُعطي مفاتيح القرار؛ فالحياة لا تحتمل كثرة المراجعين، ولا القرارات الجماعية.. أنت وحدك من يعرف تفاصيلك، ومن يدفع ثمن خياراتك، ومن يتحمّل تبعات صمتك أو بوْحك. لا تكن الجدار القصير، ولا تجعل طيبتك مدخلًا للتجاوز، ولا تواضعك فرصة للتطاول؛ فبعض الصمت هيبة، وبعض الغياب حضور.. وكونك تصغي للآخرين، لا يعني أن تتنازل عن خصوصياتك وكيانك المستقل.. ولا تجعل خصوصياتك متاحة ولا خططك مشاعة، ولا تشارك أفكارك في كل مجلس.. استتر بصمتك، واستعن على قضاء حوائجك بالكتمان؛ فالناس شركاء نجاحك إن تحقق، وخصومك إن تعثر.. إن أصبت، نسبوا الفضل لنصيحتهم، وإن أخطأت، قالوا: لو استشرتنا لما حدث ذلك! فمن الخطأ أن تعود الناس على وجودك، أو على قدرتهم الدائمة على الوصول إليك، أو على حقهم غير المعلن في مراجعة قراراتك وتصحيح مسارك؛ فالحكمة أن تحيط نفسك بسياج، لا يتجاوزه إلا من يعرف قيمتك ويؤمن بخصوصيتك واستقلالك ولديه ما يضيفه لك. تأكد أن الناس بطبيعتهم لا يحترمون من يخبرهم بكل شيء، بل من يضع الحدود لمشاركتهم ويتقن فن الصمت.. وهم أيضاً لا يتوقفون عند من يستجدي إعجابهم واحترامهم، بل يتوقفون عند من يفرض ذلك عليهم دون أن يطلبه. التواضع خُلق جميل، لكن حين يتجاوزك الآخرون، يتحول إلى ضعف.. والصبر فضيلة، لكن تكراره مع من لا يقدّره عبث؛ فاختر صمتك كما تختار كلماتك، وكن متاحًا بقدر، واضحًا بوعي، وغائبًا حين يستدعي الأمر؛ فبعض المسافات تحميك، وبعض الصمت يصونك.