في ظل التحولات الجيوسياسية المتسارعة، بما في ذلك التحديات الاقتصادية والتجارية العالمية المتشابكة، احتضنت العاصمة السعودية الرياض، قمةً خليجية أمريكية التي تُعد مفصلية في توقيتها ومضمونها. تأتي هذه القمة في وقتٍ يشهد فيه النظام الدولي تغيرات جوهرية في موازين القوى، وتَشكُّل نظام عالمي متعدد الأقطاب، مع بروز اقتصادات ناشئة في عدد من دول العالم، وظهور تكتلات وتحالفات اقتصادية قوية، مثل مجموعة دول البريكس وغيرها من المجموعات والمنظمات الاقتصادية، التي أحدثت تغيرات جوهرية في موازين القوى، وبالذات القوى الاقتصادية والتجارية. وقد زاد من تعقيد المشهد الاقتصادي العالمي، لا سيما على مستوى التبادلات التجارية، القرارات الأخيرة التي اتخذها البيت الأبيض برفع الرسوم الجمركية على الواردات إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية، في خطوة تندرج ضمن سياسة «تحرير الاقتصاد الأمريكي» و»جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى»، وهو ما أثار من تفاعلات واسعة النطاق وأشعل حروب تجارية بين الولاياتالمتحدةالأمريكية والعديد من الدول الصديقة والحليفة، وبالذات دولة الصين، التي تُعد ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الاقتصاد الأمريكي,، بحجم ناتج محلي يبلغ 17.7 تريليون دولار أمريكي في عام 2024، مقارنة بحجم الناتج المحلي الأمريكي الذي يبلغ 26.9 تريليون دولار أمريكي. شكّل انعقاد القمة نقطة تحول وعودة تاريخية ومفصلية في مسار العلاقات الخليجية الأمريكية، لا سيما في ظل توجهات الإدارة الأمريكية الحالية نحو تعزيز الأمن والسلام العالمي، وإرساء الاستقرار الدولي بما يتيح للاقتصاد العالمي فرصًا أوسع للنمو والازدهار. ويَعكس هذا التوجه من جانب واشنطن جهودًا أمريكية ملحوظة على عدة جبهات، من بينها السعي لوقف الحرب الروسية الأوكرانية، ومحاولات التهدئة مع إيران، وأيضًا التهدئة بين الهند وباكستان، إضافة إلى الدفع نحو وقف الأعمال العسكرية في اليمن، مقابل التزام جماعة الحوثي بوقف استهداف السفن الأمريكية. ويُشير هذا النهج إلى رغبة أمريكية في أداء دور أكثر توازنًا وانخراطًا مسؤولًا في معالجة القضايا الدولية والإقليمية الحساسة. ومما لا شك فيه أن هناك توافقًا واضحًا بين التوجهين الخليجي والأمريكي نحو بناء عالم خالٍ من الحروب، والنزاعات، والمناوشات العسكرية، التي لا تُسهم بأي حال من الأحوال في تعزيز الاستقرار أو في دعم نمو الاقتصاد العالمي بوتيرة مستدامة. ويأتي هذا التوافق في وقتٍ لا يزال فيه الاقتصاد العالمي يعاني من تباطؤ ملحوظ، حيث توقعت منظمة الأممالمتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد) أن ينخفض معدل النمو الاقتصادي العالمي إلى 2.3 % خلال العام الجاري، نتيجة للتوترات التجارية وحالة الضبابية الجيوسياسية المتزايدة، والتي تُهدد بدفع الاقتصاد نحو موجة من الركود. من الواضح جدًا أن زيارة الرئيس دونالد ترمب إلى المملكة العربية السعودية ودول خليجية أخرى تحمل رسالة سياسية قوية مفادها أن الولاياتالمتحدة تولي اهتمامًا متزايدًا بالمنطقة، وخصوصًا بدول مجلس التعاون الخليجي. كما وتأتي المملكة العربية السعودية في مقدمة هذه الدول نظرًا لما تتمتع به من ثقل سياسي واقتصادي إقليمي، وهو ما يجعلها شريكًا استراتيجيًا رئيسيًا لواشنطن في الشرق الأوسط. وتؤكد هذه الزيارة، التي خُصّصت لتكون أول محطة خارجية للرئيس الأمريكي، على رغبة الإدارة الأمريكية في إعادة تعزيز حضورها وانخراطها في شؤون المنطقة بشكل أكبر مما كان عليه في السابق. من اللافت للانتباه أن هذا التوجه يعيد إلى الأذهان المشهد ذاته في بداية الولاية الرئاسية الأولى للرئيس دونالد لترامب عام 2017، حين اختار أيضًا الرياض كأول وجهة له في جولاته الخارجية، في دلالة على استمرار النهج ذاته في التعامل مع قضايا الشرق الأوسط وتحالفاته. ومما لا شك فيه أن زيارة الرئيس الأمريكي للمملكة العربية السعودية ودول خليجية أخرى ستسهم في تعزيز ملفات الأمن الإقليمي، لاسيما في الجوانب الدفاعية، إلى جانب فتح آفاق أوسع للتعاون في مجالات حيوية مثل الطاقة، والاستثمار، والتكنولوجيا، وغيرها من القطاعات الاستراتيجية ذات الاهتمام المشترك. تجدر الإشارة إلى أن زيارة الرئيس الأمريكي إلى المملكة العربية السعودية ودول خليجية أخرى، جاءت في توقيت بالغ الأهمية، في ظل تصاعد التوترات الناجمة عن الحروب التجارية التي تخوضها الولاياتالمتحدة مع عدد من القوى الاقتصادية العالمية. وفي هذا السياق، تكتسب الزيارة بعدًا استراتيجيًا، إذ إن المملكة ودول الخليج الأخرى ليست طرفًا في تلك النزاعات التجارية، ما يمنح واشنطن فرصة لتعزيز شراكاتها الاقتصادية والتجارية مع هذه الدول بعيدًا عن الضغوط والتوترات الدولية. ومن شأن ذلك أن يسهم في توسيع آفاق التعاون التجاري والاستثماري بين الولاياتالمتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي، وبخاصة مع المملكة العربية السعودية. في المجمل، عَكست زيارة الرئيس الأمريكي للمملكة العربية السعودية ودول خليجية أخرى، عمق الأهمية الاستراتيجية التي تُوليها واشنطن لهذه المنطقة المحورية، سواء على الصعيد الأمني أو الاقتصادي. كما تؤكد هذه الزيارة على رغبة الولاياتالمتحدة في ترسيخ شراكاتها مع حلفاء موثوقين في وقت يشهد فيه العالم تحولات سياسية واقتصادية متسارعة. وبالنظر إلى ما تحمله هذه الزيارة من دلالات ورسائل، فإنها تشكل نقطة انطلاق جديدة نحو تعاون أوسع وأكثر توازنًا بين الجانبين، يسهم في تعزيز الاستقرار الإقليمي وفتح آفاق واعدة للتنمية المشتركة.