قبل أن يدخل الهاتف الذكي حياتنا وربما أبعد، كنا نضطر لحفظ عشرات أرقام الهواتف.. كان ذلك سباقًا في مجال التباهي بالذاكرة القوية وربما مقياسًا للمحبة ومكانة الشخص لديك؛ أما اليوم، فإن مجرد محاولة حفظ رقم هاتف تبدو وكأنها مضيعة للوقت ومجهود لا مبرر له، إذ أصبحت الهواتف الذكية تؤدي هذه المهمة بدقة وسرعة لا تقارن.. وهذا مثال على ما يحدث اليوم مع الذكاء الاصطناعي، الذي تقوم فكرته على اختصار الكثير من العمليات الذهنية التي كانت تستنزف منا وقتًا وجهدًا. الفرق مع الذكاء الاصطناعي أن مهمته هذه المرة ليست في عملية حفظ رقم أو استدعاء معلومة كما هو الحال مع محركات البحث، بل في القدرة على القيام بعمليات أكثر تعقيدًا، تعتمد اعتمادًا رئيسًا على "ذكاء المستخدم" في توظيف أدوات الذكاء الاصطناعي واستخدامها باحترافية للرفع من جودة المخرجات. بالتالي فإنه لا يكفي امتلاك أدوات الذكاء الاصطناعي وتحميلها دون امتلاك مهارات التفكير النقدي، والتحليل، أو أضعف الإيمان القدرة على طرح الأسئلة الصحيحة.. فهذه المهارات هي التي تمنح هذه الأدوات معناها وتحقق الاستفادة القصوى منها؛ فالمستخدم المتميز لا يبحث عن إجابة جاهزة فحسب، بل يعرف كيف يحفّز الذكاء الاصطناعي على تقديم إجابات إبداعية وحلول مبتكرة، حيث يرى في هذه الأداة وسيلة للتعمّق والإبداع، لا وسيلة لتوفير الجهد فقط. وهنا تحديدًا، تتضح الفجوة الحقيقية بين المستخدم العادي الذي يستهلك الذكاء الاصطناعي كأداة استخدام كسول، وبين المستخدم المحترف الذي يوظفه كأداة لتعزيز تفكيره النقدي، وتسريع إنتاجه، وتوسيع مداركه.. فالوعي، والثقافة، والإدراك لحدود الاستفادة من الذكاء الاصطناعي، هي التي تصنع الفرق والمستقبل. ولا ينبغي الخجل من استخدام الذكاء الاصطناعي، ولا النظر إليه كأداة مشبوهة أو محرّمة ما دام المستخدم يلتزم بأخلاقيات الاستخدام ويحترم الضوابط؛ فالتقنية في ذاتها محايدة، والفيصل هو في كيفية توظيفها.. والتردد أو الرفض لها ليس دليل ورع ونباهة، بل غالبًا ما يكون عائقًا عن التطور، وتفويتًا لفرص يمكن استثمارها لصالح ما تعتقده أو تتقنه. بمعنى أن المستقبل سيكون للأكثر وعيًا وقدرة على توظيف هذه الأدوات، والمكانة المهنية العالية، ستكون من نصيب أولئك المحترفين الذين يتقنون استخدام الذكاء الاصطناعي وتوظيفه لدعم الإنتاجية في مجالهم، لا لأولئك الذين يترددون في استخدامه أو يحاربونه أو يعتقدون أنه لا يمكن أن يقوم بأعمالهم؛ فسباق المهارة والتميز اليوم لا يقتصر على إتقان ما هو موجود، بل على القدرة على التكيف والاستيعاب السريع لما هو قادم، فكل أداة جديدة تتطلب فهمًا أعمق، وكل جديد يحمل معه فرصًا أكبر لمن يسارع إلى تعلّمه والتكيف معه.