في ظل تراجع إيرادات السينما في السعودية خلال هذه الفترة، لابد لنا الإشارة إلى أن هذا الانخفاض الذي تعاني منه بالفترة الحالية تعاني منه السينما عالمياً، فالإحصاءات تشير إلى انخفاض عدد مرتادي دور العرض في كبرى الأسواق العالمية بنسبة تصل إلى 30 % مقارنة بما قبل الجائحة، وسط صعود متسارع للمنصات الرقمية التي غيرت عادات المشاهدة. لكن السعودية تقرأ هذا التحدي كفرصة، إذ تتجه السياسات الثقافية إلى تحويل دور السينما إلى مراكز ثقافية متعددة الوظائف، تُقدم عروضًا تفاعلية ونقاشات بعد العرض، وتربط الحضور بالمحتوى، كما أن التركيز على الإنتاج المحلي المرتبط بالهوية الوطنية يضمن استمرار الإقبال، ويخلق ميزة تنافسية لا تملكها المنصات العالمية. فمن المهم وحسب الدراسات أن نشير إلى إنفاق الأسر السعودية على الأنشطة الثقافية ومنها السينما سيرتفع إلى 6 % من دخلها السنوي بحلول عام 2035، وهو ما يعكس انتقال الثقافة من كونها ترفًا، إلى كونها حاجة تنموية ونفسية واجتماعية، فعندما كنا نكتب في أعوام الرؤية الأولى عن التحوّلات الثقافية في المملكة، لم نكن نحلّل واقعًا فقط، بل نستشرف قفزات قادمة، واليوم ومع اقتراب رؤية 2030 من بلوغها الكامل، يبدو أن الثقافة السعودية لم تكتفِ بالحضور، بل بدأت تجس "جودة الحياة" بمفهومها الجديد. ففي الشأن السينمائي الأعمق ثقافياً لابد أن نتناول تجربة العديد من الرواد بهذا المجال وأبرزهم المخرج السعودي عبدالله المحيسن، كونه من أوائل من نادوا من خلال تجربته السينمائية عالمياً بتمكين الثقافة، ليس كمجال ترفيهي، بل كقوة وطنية ناعمة، ففي أطروحاته المتعددة محلياً وخارجياً، ظل يؤكد أن الفنون السعودية ليست بحاجة إلى إذن للانطلاق، بل إلى بيئة تؤمن بها، تدعمها، وتفتح لها النوافذ، واليوم تتحقق هذه الرؤية، مع اتساع البنية التحتية الثقافية، وولادة جيل جديد من الفنانين والمبدعين، يجد في بلده ما كان يبحث عنه في الخارج. ومع معايشتنا للتقارير السعودية الرسمية بمجال الثقافة والفنون التي تمثل الجانب المهم برؤية 2030، تتجه التوقعات إلى أن يصل عدد زوّار الفعاليات الثقافية السعودية إلى 80 مليون زائر سنويًا بحلول 2035، بعدما كان الرقم لا يتجاوز 8 ملايين قبل الرؤية، كذلك يُتوقع أن تتوسع نسبة رضا المجتمع عن المشهد الثقافي من 13 % في 2017 إلى 85 % بحلول منتصف العقد القادم، مع افتتاح 1200 منشأة ثقافية في مختلف المناطق، مع التوقع أن تشهد 12 مدينة رئيسة إنشاء أحياء ثقافية دائمة، تحتوي على مسارح، صالات عرض، وأكاديميات إبداعية، مما يخلق بيئة متكاملة للفنان والمهتم والمجتمع. لذلك السعودية اليوم، لا تبحث عن مكان لها في العالم فقط، بل تصنع لنفسها موقعًا في ذاكرة الإنسانية، من خلال صوت القصيدة، ونغمة العود، وابتسامة المسرح، ولمسة التشكيل، ما يحدث الآن من توجس من انخفاض الإقبال على السينما وبعض الفعاليات الفنية إنما هو طبيعي ويمر بمرحلة سيتعافى فيها هذا القطاع، لأن الدراسات تشير إلى أن المجالات الإبداعية تظل مزدهرة حتى لو كانت هناك ظروف أو تحديات تقف في وجهها.!