المصالحة السعودية لوقف الاقتتال السوداني بدأت في مدينة جدة بوساطة سعودية "محادثات ما قبل التفاوض" بين ضباط من الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، بهدف التوصل إلى وقف لإطلاق النار، "الأمر الذي من شأنه أن يجنب الشعب السوداني المعاناة وضمان توفر المساعدات الإنسانية للمناطق المتضررة"، بحسب ما جاء في البيان السعودي-الأمريكي المشترك. وتأتي هذه المحادثات نتيجة للمساعي الحثيثة التي بذلتها قيادة المملكة، لوقف الاشتباكات الدامية بين الطرفين، التي دخلت أسبوعها الرابع وذلك حرصًا من المملكة على استقرار السودان الشقيق، وحماية مقدراته من الدمار وشعبه من القتل والتشريد، واستباقًا منها لمنع تحول الصراع إلى حرب أهلية، قد تؤدي إلى تفتيت السودان وانتشار الصراع إلى الدول المجاورة، بفعل التدخلات الإقليمية والخارجية. وقد كانت المملكة سبّاقة في التعامل مع إفرازات الأزمة الحالية، وقامت بإجلاء رعايا أكثر من ستين دولة في العالم، وقدمت لهم الرعاية المطلوبة وسهّلت عودتهم إلى بلادهم. وقد تجلى الدور الحضاري والإنساني للمملكة في إغاثة الفارين من الموت، وكانت المجندات السعوديات يهدين القادمين على سفن البحرية الملكية السعودية باقات من الورود، بينما كان آخرون يقدّمون باقات من سلاح الموت لتحفيز السودانيين على قتل بعضهم بعضًا. كان بإمكان المملكة أن تقف متفرجة على ما يجري في السودان، ولكنها لم تفعل. لقد انفجر الصراع في السودان في الوقت الذي حققت فيه قيادة المملكة إنجازات كبيرة، لإطفاء الحرائق في المنطقة العربية، لتهيئة الأجواء لانعقاد الدورة 32 للقمة العربية في المملكة في 19 مايو الجاري، وهي القمة التي تحمل معها استحقاقات كثيرة، منها عودة سوريا إلى الجامعة العربية ضمن منظور سعودي لإصلاح هذه المنظمة، التي لم تعّد تمارسها دورها كما هو مطلوب منها. قيادة المملكة تعرف بأن هذه الجامعة لم تعد جامعة، ولم يعد أحد يهتم بمواقفها لأنها بلا مخالب، ولهذا كانت دعوة وزير الخارجية الأمير فيصل بن فرحان في قمة الجزائر في نوفمبر الماضي، إلى "إصلاح منظومة جامعة الدول العربية وتطوير آليات عملها، لتكون أكثر فاعلية في تحقيق التضامن العربي المأمول، وتطلعات الشعوب العربية". وشرح رؤية المملكة مما يجري على الساحة الدولية، حيث إن "الأزمات العالمية المتتالية أفرزت تحديات مشتركة، أثرت على أمن واستقرار منطقتنا العربية، وأضعفت من وتيرة تعافيها الاقتصادي وفرص تحقيق التنمية لمواطنيها. وتفاقم حدة التنافس والصراع الجيوسياسي الدولي في الآونة الأخيرة، يُنذر بتقويض قدرة المجتمع الدولي على مواجهة تحدياته المشتركة بفاعلية". من هذا المنطلق تحرص قيادة المملكة على تهيئة الظروف الكفيلة بإنجاح هذه القمة، وقد انفجر الصراع في السودان ليضاف إلى قائمة الأزمات المستمرة في العالم العربي، فإلى جانب استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية منذ 75 عامًا، تواصلت الأزمة السياسي في السودان منذ الإطاحة بالرئيس عمر البشير في عام 2019، وما زالت الأزمة السورية مستمرة منذ عشر سنوات، وكذلك الأزمتين الليبية والتونسية منذ عام 2011. والقاسم المشترك في كل هذه الأزمات هو تعدد الأطراف المشاركة فيها، وتقاتلها على المكاسب والنفوذ والمصالح والحروب بالوكالة، وفتحها المجال للتدخلات الخارجية التي تعمل على إطالة هذه الأزمات. يضاف إلى ذلك، بأن هذه الأطراف تفتقر إلى الإرادة السياسية للدفع من أجل حلول وطنية، بدلاً من المؤتمرات الخارجية في عواصم العالم الغربي، التي لا تتمنى الخير لعالمنا العربي. واستشعارًا منها بخطورة هذا الوضع، وإدراكًا منها للعبة المصالح والتقاتل على مناطق النفوذ والثروات الطبيعية، وإصرار الدول الكبرى على فرض وصايتها على الدول الضعيفة ومواصلتها لسياسات بناء المحاور، ورفض محاولات تعددية القطبية وتهديد من يشقّون عصا الطاعة، رأت قيادة المملكة ممثلة بخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان وولي عهده الأمير محمد -حفظهما الله- أن الوقت قد حان لإحداث نقلة نوعية في العلاقات بين الدول، والتعامل معها على قدم المساواة وبشموخ وتعالٍ إذا تطلبّ الأمر. لهذا، رفضت قيادة المملكة أن تكون طرفًا في مخططات بعض القوى الإقليمية والدولية، لإدامة عدم الاستقرار في المنطقة، فكان اعادة العلاقات مع إيران برعاية صينية. وبهذا الاتفاق، مارست المملكة دورها الطبيعي كقائدة للعالمين العربي والإسلامي، ولاعب رئيسي في تشكيل السياسات العالمية. "إن عودة العلاقات مع السعودية ستغير المعادلات في المنطقة وتنظمها"، كما قال الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، مؤكدًا في أثناء زيارته الأخيرة لدمشق: "نرفض ولا نقبل أن تعدّ السعودية عدوًا لنا، أو نكون عدوًا لها أبدًا"، ونظرًا لخطورة هذا الاتفاق على تجار السلاح وأعداء الاستقرار، " فهناك من هم جاهزون لكسر اتفاق السلام هذا"، بحسب ما جاء في مقال للكاتب الصيني تشوا تشين لينغ في 24 مارس الماضي. هذا الصحفي هو الذي وصف سمو ولي العهد، بأنه ذو طوح وعزيمة ومن أفضل قيادات العالم. وضمن هذا السياق تعطي المملكة أولوية لوقف الاقتتال في السودان، من أجل وقف انتشار الفوضى ووقف التآمر على أمن المنطقة واستقراراها، حتى من دول عربية لغايات سياسية واقتصادية معروفة، للسيطرة على ثروات المنطقة ومنافذها على البحر الأحمر، ولهذا جاءت استضافة المملكة لممثلين عن الطرفين المتقاتلين في السودان، لضمان التزامهما بوقف إطلاق النار. إلا أن استضافة المملكة لممثلين عن الطرفين المتقاتلين، في غياب ممثلين عن المكوّن المدني لا يعني الاعتراف بشرعيتهما، وحقهما في حكم البلاد ضد إرادة الشعب، بل إنها تريد أن تقول لهما بأن مكان الجيش والقوى الأمنية الأخرى، هو في المعسكرات وليس في المستشفيات والأعيان المدنية وأنهما سيتحملان تبعات جريمة قتل مئات المدنيين، وتشريد مئات الآلاف إلى الدول المجاورة ليواجهوا الجوع والموت والمصير المجهول، وأن عليهما أن يسلّما السلطة لحكومة مدنية تمثل كل الأطياف السياسية في البلاد من دون إقصاء أحد. بهذا، تكون المملكة قد وفّرت للجنرالين المتقاتلين فرصة للخروج من هذه الحرب، التي لن ينتصر فيها أحد سوى المتآمرين على الأمن العربي، وسيكون السودان هو الخاسر الوحيد، وإذا ما أضاعا هذه الفرصة فعليهما أن ينتظرا حكم التاريخ الذي لا يرحم أو يجامل. .