من أكثر مقومات العصر حساسيةً وأهميةً الوطن بما يشكله هذا الاسم الكبير من مجموعة المقومات التي تُشكِّلُ الفَرْقَ بين الوجود والعدم، وبين العزةِ والهوان؛ ولهذا يُعدُّ من صميم الأمن الفكري الإخلاص له والانكفاف عن كل ما يُسيءُ إليه أو يضرُّ بأمنه ومقدراته.. لن يأتي اليوم الذي يرعوي فيه جميع المبطلين، ولن تطاوعهم القلوب الزائغة والعقول المنغلقة على الإجماع على وضع أيديهم في أيدي أهل الحق مذعنين، بل ستظل للباطل طوائفه التي تُوضِعُ فيه، وتنشط لترويجه غير مدخرة جهداً في تزويقه وتمويهه، تُفرِّقُ بينها الأسماء والرؤى والأزمنة والأمكنة والمصالح الجزئية، ويجمعها كره الحق واستثقاله والانحراف عن الاعتدال إلى طرف الإفراط أو التفريط، ولا يسع أهلَ الحق إلا الإدمان على التيقظ وتجهيز وسائل الدفع في صدور المبطلين، واستحضار شرف الدفاع عن الثوابت الدينية والوطنية وقيم المجتمع، وما ينبني على الحفاظ عليها من قيام مصالح البلاد ومنافع العباد المتعلقة بمعاشهم ومعادهم، وإنما يحصل ذلك بتوفيق الله تعالى ثم بتحصين الأفكار وتأمينها من الأهواء المضلة والنزعات المتطرفة، بحيث يتمتع موقف المجتمع بصلابةٍ تصدُّ عنه -بإذن الله تعالى- صدمات الفتن والأهواء والبدع، فلا تخترقه دعاية زائفة ولا يؤثر فيه تضليل، ولا يستجيب لصوت ناعقٍ، ولي مع الأمن الفكري وقفات: الأولى: التأمين ضد الخطر فطرةٌ فطر الله عليها الكائنات الحية، حتى إن الحيوانات لتتخذ من الحيطة والتحرز من التهديدات ما أُلهمتهُ مما تتوقى به الخطر المحدق بها، ومن فرَّطَ في التأمين اللائق بحاله فقد نَصَبَ نفسه هدفاً لسهام الأخطار وطوارق الآفات، ولا يُقدمُ على هذا إلا موصوفٌ بالخرق موصومٌ بالحمق، ومِنْ ذمِّ العرب للمفرِّط أياً كان جنسه: وصفُهُمْ لبقلة الرجلة بالحمقاء، قال اللغويون: إنما سميت حمقاء؛ لأنها تنبت في مجاري السيل، وأفواه الأودية، فإذا جاء السيل قلعها، وفكرُ الإنسانِ أهم ما احتاط له وبذل الغالي والنفيس لتأمينه؛ إذ به يميز بين المصالح والمضارِّ، وسعادته في الدارين مرهونةٌ بتحصيل العافية الفكرية بضبط أفكاره بالتقيد بتعاليم الملة الحنيفية والتزام معية جماعة المسلمين وإمامهم، فمن حصَّلَ العافية الفكرية فحسبه فخراً أنه مع الجماعة، ويد الله على الجماعة، ثم هو قد نظر لنفسه بما فيه صلاح الدارين، ونَصَحَ لأئمة المسلمين وعامتهم، وهو حريٌّ بأن يُسهم في عمارة الأرض وإصلاحها، ومن باع فكره لسماسرة الأحزاب وأهل الفتن وتنكر لوطنه وقيم مجتمعه فقد استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، والصنف الثالث من لم يُؤمِّنُ فكره لكنه لم يُلوِّثه، وهذا في خطرٍ عظيمٍ، وهو ملومٌ على تغريره بنفسه سواء سَلِمَ أم لا. الثانية: التأمين الفكري يحصل بواسطة الاهتداء بالهدي النبوي والتصميم على التمسك بغرز جماعة المسلمين وإمامهم، ففي ذلك -بإذن الله تعالى- أمانٌ من تيارات الأهواء، وتخلُّصٌ من الاغترار بزخارف دعاة البدع، فعن حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ رضي الله تعالى عنه: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَكُونُ دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا» ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا، قَالَ: «هُمْ قَوْمٌ مِنْ جِلْدَتِنَا يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا» ، قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: "فَالْزَمْ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِمَامَهُمْ، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ، وَلَا إِمَامٌ؟ قَالَ: فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ، حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ، وَأَنْتَ كَذَلِكَ" متفق عليه، فالمسلم مأمورٌ بمجانبة الفرق التي تشقُّ صفوف الأمة، وتسلخ الناس من قيمهم وتُشكِّكُهم في ثوابتهم ومبادئهم، والانضمام إليها ليس سائغاً بحالٍ كما يُصرِّحُ به الحديث المذكور آنفاً، فليكن مبدأ المسلم راسخاً في حنيفيته حريصاً على السنة والجماعة، وفيّاً ببيعة سلطانه، عازماً على عدم الانخراط في فرقةٍ من الفرق بأي اسم تسَمَّتْ، مطمئناً على معيَّة الجماعة، وعظُمت عنده هويته ووطنه، وعزم على أن يكون لبنةً صالحةً ثابتةً في مكانها داخل بنيان المجتمع، فإذا فعل هذا فقد اتخذ خطواتٍ مهمةً في سبيل التحصين الفكري. الثالثة: لكل عصرٍ من العصور مقومات قوة باستيفاء الأمة لها تكون قوية، ومن شأن تلك المقومات أن تكون حساسةً مصونةً بما أُوتيت الأمة من قوةٍ، ويعرف أهلُ الفرقِ وصناعُ الفتنِ أن المساس بها ضربٌ في المقتل، فيركزون على محاولة النيل منها، ومن أكثر مقومات العصر حساسيةً وأهميةً الوطن بما يشكله هذا الاسم الكبير من مجموعة المقومات التي تُشكِّلُ الفَرْقَ بين الوجود والعدم، وبين العزةِ والهوان؛ ولهذا يُعدُّ من صميم الأمن الفكري الإخلاص له والانكفاف عن كل ما يُسيءُ إليه أو يضرُّ بأمنه ومقدراته؛ لأن مُسمِّمي الأفكار لا يحرصون على شيءٍ كحرصهم على أن يتنازل لهم المرء عن الولاء لبلاده، وأن يبتعد لهم عن وطنه الذي هو حصنه الواقي له من الأسواء لو بقي تحت مظلته؛ وإنما يحرصون على هذا لأن امتلاكهم لرقبته لا يتم إلا إذا فارق الجماعة، وأهل الفرق ذئابٌ، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية.