ربما تعبّر إقامة أول سباق لرياضة السيارات «فورمولا» في الدرعية، التي تمثل رمزية تاريخية، في عام 2019 عن اهتمام الحكومة السعودية الواضح بالرياضة والتاريخ معاً، فأرادت أن تجمع بين هذين المجالين على أرض الواقع. وقد تأكد هذا الاهتمام في موسم الدرعية 2022 الاستثنائي بفعالياته الرياضية والترفيهية، وفي الحفل الختامي للألعاب السعودية الأولمبية 2022، والذي احتضنته الدرعية. قد يُفهم من هذا الاهتمام الحكومي، وهو ما نلاحظه واقعياً، أن الرياضة أصبحت تلعب أدواراً اقتصادية واجتماعية وبدأت تتفاعل مع الثقافة سواء كانت المحلية أو العالمية، فباتت أحد العوامل المؤثرة في حياة المجتمعات وسياسات الدول. هذا الاهتمام الحكومي، والذي يسعى بكل وضوح إلى الربط بين الرياضة والتاريخ، وجعلهما من الاهتمامات الأساسية لرؤية المملكة 2030، يقودنا إلى التفكير حول كيف ندرس ونكتب التاريخ الرياضي بمنهج أكاديمي، أسوة بمجالات التاريخ الأخرى. الحقيقة أن التاريخ الرياضي لدينا تم التعامل معه عن طريق غير المتخصصين بالتاريخ أكاديمياً، كالصحفيين والإعلاميين والمهتمين بالتاريخ الرياضي، وقدموا جهودا كبيرة في هذا المجال. في المقابل يغيب بشكل تام حقل التاريخ الرياضي الأكاديمي، الذي يلتزم بمنهج علمي صارم، والسبب هو أن هذا الحقل يعد من التخصصات الحديثة التي لم تتوسع فيها الدراسات التاريخية في الجامعات العالمية الكبرى حتى الآن، لأسباب ليس هنا موضع نقاشها. ولكن لماذا التاريخ الرياضي الأكاديمي؟ السبب يكمن في دراسة «السياق التاريخي» للرياضة في ضوء منهج أكاديمي، والذي ربما يغيب عن المؤرخ غير الأكاديمي. والمقصود بالسياق التاريخي أي السياق السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي لفكرة أو حدث معين، وهذا السياق التاريخي مهم للغاية من أجل فهم شيء ما في التاريخ بشكل أفضل، فيجب أن ننظر إلى سياق الحدث التاريخي من خلال تلك الأشياء التي تحيط به في الزمان والمكان والتي تمنحه معنى خاص به، بهذه الطريقة، يمكننا أن نكتسب، من بين أشياء أخرى، إحساساً بمدى تميز حدث أو فكرة ما بالمقارنة مع الأحداث والأفكار الأخرى. التاريخ الرياضي الأكاديمي بهذا المفهوم تقريباً يُدّرس في بعض الجامعات العالمية العريقة بشكل محدود للغاية حتى الآن. فمثلاً، قسم التاريخ بجامعة ويسكنسن يقدم مقرر «الرياضة والترفيه في المجتمع الأمريكي»، المقرر يفترض، من خلال توصيفه، أن الرياضة في الأصل هي ملاذ للجماهير للابتعاد عن «العالم الحقيقي»، أي عن الهموم والمشكلات الحياتية اليومية، ولكن الفرد ما إن يصبح مشجعاً لأحد الأندية وبعض الألعاب، ويبدأ يتعايش مع العالم الرياضي، سرعان ما يكتشف أن هذا العالم أيضا غارق في مشكلاته المستمرة، مثل الخلافات بين اللاعبين وأنديتهم، المشكلات الدائمة بين الأندية والجهات المنظمة والجماهير، وانتهاك القوانين والتحايل عليها... وغيرها. والحقيقة أن هذا التوصيف قد انطلق من واقع نلاحظه بوضوح، فهناك من المشجعين من يصبح التشجيع لديه هماً واهتماما، وبالتالي مؤثراً على حياته اليومية، وبهذا يجد المشجع نفسه قد هرب من عالمه الحقيقي ومشكلاته ودخل في عالم آخر أشد ربما وقعاً على حياته العامة وصحته، وهذا واضح جداً في حالات الإغماء وأحياناً قليلة في حالات الوفيات التي تعقب بعض المباريات. كل هذا يجعلنا لا نستطيع، بطبيعة الحال، فصل الألعاب، التي نلعبها ونشاهدها، عن السياقات الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على اللعبة وعلى المشجع، ولهذا يهدف تدريس التاريخ الرياضي الأكاديمي -عادة- إلى اكتشاف كيف تشكلت الرياضة من خلال الاتجاهات الرئيسة في التاريخ الاجتماعي والثقافي والسياسي والاقتصادي لبلد ما، وبهذا يتم التركيز على خصائص المجتمع والسياسات من خلال الأحداث الرياضية، فتطرح مواضيع للدراسة والنقاش الأكاديمي مثل علاقة الرياضة بالحركات الاجتماعية وبالنظام الاقتصادي وبالثقافة المحلية وبسياسات التنمية الحضرية .. وغيرها. وبحسب طبيعة كل مجتمع، تُناقش هذه المواضيع، فمثلا المجتمع الأمريكي يناقش تلك المواضيع من خلال وجهات النظر حول سياسات العرق والجنس والطبقة والرأسمالية في الرياضة الأمريكية في القرن العشرين، والمجتمع الأوروبي تُناقش من خلال الحداثة والاستعمار والنيوليبرالية. وبطبيعة الحال، فإن تدريس التاريخ الرياضي والترفيه في المجتمع السعودي بطريقة أكاديمية، سيكون خاضعا كذلك إلى طبيعة المجتمع السعودي وثقافته وتوجهات قيادته السياسية، وأعتقد أن المجال الرياضي سيكون أحد المجالات المناسب لدراسة بعض سياسات رؤية 2030 من منظور تاريخي. علاوة على ذلك، أُؤمن بأن إثراء البحوث العلمية والأكاديمية، خصوصا الإنسانية، غالباً تتأثر بعاملين مترابطين الأول هموم المجتمع وسياسات الدولة وتوجهاتها، والثاني الباحثين في هذا المجال، فهم يتأثرون بهموم مجتمعاتهم وتوجهات حكوماتهم وبالتالي يتوقع منهم ابتكار الأفكار في دراسة الحالات بشكل مثري، بهذه الطريقة، سنجد ما يناسب طبيعة الحالة السعودية من مواضيع. إن طموحات رؤيتنا تدعونا إلى ابتكار مجالات جديدة في الدراسات التاريخية لتواكب هذا الاهتمام الحكومي والمجتمعي بالرياضة، وهذا الاهتمام لم يأتِ من فراغ للأسباب التي ذكرتها أعلاه، وهذا يدعو إلى الاهتمام بالسياق التاريخي للرياضة الذي من المتوقع يكشف جوانب عديدة منها الثقافة المحلية للمجتمع، وجوانب من علاقات الدول، وسياسات السوق والاستثمار، والتي ربما لا تتكشف بوضوح أكثر في غير المجال الرياضي. على سبيل المثال، نلحظ أهمية التاريخ الرياضي في كشف دور الرياضة في عملية العولمة والانفتاح والتثاقف بين الشعوب، وكيف هيمنت من خلال الرياضة ثقافات عالمية خصوصا الغربية. في المقابل يرصد لنا التاريخ الرياضي المعاصر، صعود الثقافات الشعبية المحلية الناشئة، غير الغربية، والتي بدأت تكسر هذه الهيمنة الغربية، وذلك من خلال دخول هذه الثقافات الشعبية عبر بوابة عالم التسويق والإعلام وشراء الأندية العالمية والاستضافات وأسلوب الضيافة. إن إقامة المناسبات الرياضية في مكان مثل الدرعية، له بعد ورمزية تاريخية، قد يكون ملهما للمؤرخين للبدء في الاهتمام بتاريخ الرياضة، وفي الوقت نفسه، إن الجمع بين التاريخ والرياضة سيكون حتماً مجالاً للدراسات والأبحاث البينية التي تجمع أكثر من تخصص لدراسة الإشكاليات القائمة ومعالجتها لغرض رفع الوعي الجماهيري وترسيخ قيم محددة، وفهم الواقع لرسم استراتيجيات للمستقبل تُسهم في تطوير الرياضة فكراً وممارسة واستثماراً. لدينا المصادر اللازمة للبدء في التفكير في دراسة هذا المجال، فمثلا لدينا الوثائق المحفوظة في الجهات الحكومية، والتاريخ المرئي والمصور والتاريخ الشفوي هم أبرز المصادر حتى الآن. لا شك أننا نحتاج إلى التنظير والتأطير والمنهج، وإلى دراسات سابقة ومناقشات أكاديمية لإثراء الدراسة من خلال ابتكار أفكار جديدة، ولكن هذا سيتوفر في المستقبل إذا خصصنا دراسات ومجلات محكمة وندوات تهتم بهذه الأبحاث، والأهم من ذلك، كخطوة أولى، هو أن يكون تعاون بين المهتمين بالتاريخ الرياضي والمؤرخين الأكاديميين وأقسام التاريخ ومراكز الأبحاث والتخصصات الأخرى التي تهتم بالرياضة. *رئيس قسم التاريخ - جامعة الملك سعود د. فارس متعب المشرافي*