مملكة اليوم غير مملكة الأمس، يخطط قادتها لبناء دولة عصرية قوية أساسها الإنسان، ويعتمد اقتصادها على ما تنتجه السواعد والعقول وليس ما يستخرج من الحقول، فالعقول باقية متجددة والحقول ناضبة وبدائلها على الأبواب.. في إحدى زيارات العمل إلى الولاياتالمتحدة الأميركية زرت حظيرة الطائرات في شركة بوينغ في مدينة سياتل، وهي من أكبر المباني على مستوى العالم، حيث تتسع لأكثر من ثماني طائرات من طراز بوينغ 747، وبها الكثير من الورش والمصاعد والروافع، كل ذلك لم يلفت انتباهي مثل رؤية الشباب والشابات الذين أنهوا المرحلة الجامعية أو كليات التقنية وبعضهم لا يزال يدرس ويعمل ساعات كل يوم ليدفع مصاريفه اليومية، حين رأيتهم يركبون معي في المصعد لم أعتقد أنهم جادون في عملهم ذلك أن بعضهم كان بشعر طويل وسراويل جينز شبه ممزقة، لكن حال دخولي إلى الورش رأيتهم منهمكين في العمل تحت الطائرات وفوق أجنحتها. المنظر الثاني رأيته عند زيارة إحدى الثانويات في نيوزيلندا، حيث تركز في السنتين الأخيرتين على التخصص، وقد تم تقسيمهم إلى تخصصات مختلفة من ميكانيكا سيارات وكهرباء وسباكة وغير ذلك، بل لقد تناولنا وجبة من مطبخ المدرسة وبأيدي طلبة تخصصوا في مهنة الضيافة والفندقة. الشاب إن لم يجد ما يشغله فقد يصبح مدمراً لما حوله، وخطراً على مرتادي الطرق لعدم التزامه بقواعد السير وتهوره، وقد يزعج المتسوقين بسوء سلوكه وتطفله، أو قد يكون مدمراً للبيئة والحياة الفطرية حين يتخذ من الصيد هواية في بيئة شحيحة مثل بيئة الصحراء في المملكة. لقد تقدم بعض المواطنين بشكاوى من سلبية بعض الشباب، وطالبوا بحلول للفراغ والبطالة، ومنها طلبهم التجنيد الإجباري مع أن معظم دول العالم قد تخلصت منه في ظل وفرة عدد المتقدمين للجيوش، وتقدم التقنية التي جعلت طائرة واحدة تقوم مقام عشرات الطائرات في الماضي، وثبوت عدم جدوى التجنيد الإجباري في تغيير السلوك، فالعادات والقيم والسلوك تزرع في سن مبكرة في البيت وفي رياض الأطفال وفي المراحل المختلفة من التعليم. الحل العلمي المجرب للاستفادة القصوى من إمكانات الشباب ومكافحة البطالة تكمن في تغييرات جذرية على مناهج التدريب المهني والتعليم وسرعة الانتقال من التلقين إلى التمكين، والتهيئة للعمل وممارسة المهن التي تكفل العيش الكريم والراتب المجزي، وهذا يتحقق بالخطوات الآتية: أولاً: إجراء إصلاحات جذرية على مناهج كليات التقنية والتعليم بشكل عام، بحيث تتحول من الكم إلى الكيف، ومن التلقين إلى التجريب والممارسة، ومن الملل والإجبار على الحفظ إلى المتعة، والتعلم عن طريق اللعب والتفكير الناقد. وقد أسعدني ما تقوم به وزارة التعليم من جهود لتحديث المناهج، والسعي للاستعانة بخبرات من سبقونا لتنشئة جيل قوي في بدنه وفكره، جيل يرتقي إلى مستوى طموحات القيادة والوطن في تحقيق الرؤية 2030، والخروج بالمملكة من نادي الدول النامية إلى العالم المتقدم، حيث الرخاء والنظام والأمن والخدمات المميزة، لكن التعليم لا يطور في عام أو عامين، خاصة تطوير أداء المعلم الذي يشكل العمود الفقري للعملية التعليمية والمنهج بشكل خاص، أما كليات التقنية فهي بحاجة إلى تغييرات جوهرية لتصبح كليات تطبيقية يتخرج منها الطالب، وقد أمضى ساعات معينة في التدريب العملي كما هو في ألمانيا واليابان وغيرها من الدول المتقدمة. ثانياً: التصنيع هو السبيل إلى تقدم الأمم اقتصادياً واجتماعياً، وهو الذي أخذ ألمانيا واليابان إلى مصاف الدول المتقدمة، وهو الذي أوجد لديهما فائضاً في التبادل التجاري مع الدول، لكنه بحاجة إلى تسهيلات كثيرة وإغراءات تقنع الشركات الصانعة بالدخول إلى المملكة كرخص الطاقة والعمالة، كما أن التركيز يجب أن ينصب على تدريب الشباب وانخراطهم بالتدريب على رأس العمل وإعطائهم الحوافز للعمل والبقاء في وظائفهم أطول مدة ممكنة، كما هو لدى الشركات الكبيرة في المملكة كأرامكو وسابك، وكما هو في القوات الجوية حين وفرت المعاهد المتخصصة والتدريب على رأس العمل والابتعاث والسكن والعلاج مما أوجد بيئة جاذبة ومنتجة. مملكة اليوم غير مملكة الأمس، يخطط قادتها لبناء دولة عصرية قوية أساسها الإنسان، ويعتمد اقتصادها على ما تنتجه السواعد والعقول وليس ما يستخرج من الحقول، فالعقول باقية متجددة والحقول ناضبة وبدائلها على الأبواب، كل ذلك بحاجة إلى تكاتف الجهود من كل الجهات وخاصة التعليم والتدريب، فجولات ولي العهد في أوروبا وأميركا أوضحت التوجه الذي ستسير عليه المملكة مستقبلاً، مما يحتم علينا جميعاً بذل الجهد لنكون عند مستوى تطلعات القيادة، وما يستحقه هذا الشعب المخلص الأبي. Your browser does not support the video tag.