يبدو أن مقومات الحوار المباشر مع المحيطين من أقارب و أصدقاء و زملاء عمل في قضايا الساعة أو الاهتمامات المشتركة تجعل الكثير منا يتفاداها لافتقارها لأدبيات الحوار ، فلا أحد يسمع أحداً، و تكثر المقاطعات ، و ينضم له كثير من السطحيين المجبولين على سوء الظن و تصيد خيانة التعبير أو قصور الفهم ، و على الضفة الأخرى يتحفظ الآخرون تفادياً للتصنيف و الإساءات ممسكين عن الخوض في التفاصيل ، فيصبح الحوار مشوهاً مبتورا سطحيا لا شيء يغري لخوضه ، حيث تتعالى خلاله الأصوات و يشتد التركيز على نقاط الاختلاف و اتخاذ المواقف المستقبلية ، ما يجعل الانضمام إليه محفوفاً بالتوتر و التبعات ، و حين نسترخي في الظروف التي نصنعها لأنفسنا في خلوتنا يجد الكثير منا رغبة في التنفيس عن معمعة الحوار التي حصلت صباحاً ، فيفتح باب النقاش مساء بارتياح أكبر و بقدر كبير من الحرية في التعبير و القدرة على استكمال المداخلات دون مقاطعة مع كائنات العالم الافتراضي عبر وسائط التقنية المختلفة ، فلا يصبح للنقاش ثمرة غير ( الفضفضة ) حيث لا توجد صلات و لا يجمع متحاوري التقنية إلا الرموز و الأسماء الحركية ، ويبقى الحوار على أرض الواقع معتلاً في أوله ووسطه و آخره ، و تاريخ مرض الحوار يمتد للنشأة الأولى حين كان الصغار يُنهرون حين يتحدثون بحضرة الكبار ، و لا يُمنحون فرص التعبير في المدرسة حيث يكتظ الصف بالتلاميذ و يكاد المعلم أن يشق جيبه ، فيمارس إخراس الأصوات لأن الوقت لا يكفي إلا للدرس ، و كبر الصغار لا يعرفون الحوار ولا يمارسونه ، ووفرت لهم التقنية الحوار مع العالم الافتراضي و المجتمع البديل ، ففضلوه على الواقع و أخذوا به و عاشوا معه أكثر مما يعيشون مع والديهم ، و على كثرة الساعات التي يقضونها معه بارتياح و استرخاء يزداد توترهم حين يحدثهم شخص ينتمي للواقع قاطعا خيطا من حبل الاتصال مع العالم الافتراضي فنجدهم ميالين للشجار مع الواقع و مكوناته، نافرين منه ، لا يمنحونه دقيقة إلا و هم كارهون . ربما هي جناية التربية القمعية و ضريبة التقنية ، و يبدو أن عملية التصحيح تحتاج عمراً مديداً و إجراءات تنازلية ، و خطة إستراتيجية للعودة لأرض الواقع بدءا من تحرير الأبناء من سيطرة التقنية ووسائطها و تقنين تعاطيهم معها و تحديده بوقت قصير بحيث يصبح الواقع قريبا منهم على مدار الساعة فلا يحسنون مغادرته ، مع إدارة الحوار الحر معهم و تدعيم أدبياته و الاستمتاع به .