هي لحظات احترتُ فيها، ليس لشيء مُرْبك أو محيِّر أو مُقْلِق، وإنما بسبب الفرح الغامر الذي أعادني إلى لحظات الطفولة التي أضحك على بعضها بخجل كلما تذكَّرتها؛ ففي الريف، ونحن نشاهد التلفزيون بالأبيض والأسود، كنا نستغرب أناشيد الأطفال في (بابا فهد) - رحمه الله - إذ كانت كلمة (بابا) عجيبة على أطفال القرية؛ فما لدينا من مصطلحات هي من قبيل: (أُبوي)، أو (أُبويه)، أو (يُبه)... المهم كنا نشعر أننا لسنا مثل هؤلاء الأطفال الذين يغنون في مليك البلاد - رحمه الله - ؛ لأننا لا نقول: (بابا) مثلهم؛ فظننا أنهم - وحدهم - يفهمون لغة حب المليك ويُتقنونها، فكنا نحاول التمرُّس على كلمة (بابا) فيما بيننا وبين سرائرنا، ولا تخرج كما نريد؛ لأننا نظن أننا لن نتقنها. في السنوات الماضية التي رحلنا فيها إلى المدينة؛ طلباً لمواصلة التعليم العالي، بدأت أشياء كثيرة ترق وتتغيَّر، وربما كان أكثر شيء مزعج هو ما تشرَّبناه من مقولة شائعة غير صحيحة بإطلاقها حول حياة التيه ومشاعر الضيق التي يعانيها المهاجرون من الأرياف والبدو إلى المدينة، ولكن الحمد لله أنْ وُجِد في طريقنا مَن يستثمر ميزات الإنسان الريفي في الجد في تنمية حياته، وتطويرها، والحفاظ على ثرائها الطبعي الجميل؛ فبدأنا ننطلق من مشاعر الاستقرار المدني الممزوج بروح البداوة والريف والحفاظ على الأرض وخضرتها، واستكشاف مصادر المياه الغائبة في جوف الأرض ذات السطح القاحل، والوفرة في الحنان على مخلوقات الله التي لا تعقل من أنعام وغيرها، مما ولَّد روحاً مغامرة جديدة اندمجت مع روح التحضّر محتفظة بجوهر الصحراء الذهبي، تماماً مثل مدينة الرياض ليلة الثلاثاء 20 - شوال 1426ه، ونحن نجزل الرحمات على مليكنا الراحل، ونرحِّب بأصدق الدعوات القلبية بمليكنا عبدالله بن عبدالعزيز وولي عهده الأمين - حفظهما الله وأطال عمريهما في الخير - ونغلظ العهد، ونعلن الولاء لهما، والسمع والطاعة وتلبية النداء إذا هتف المنادي. تغيَّرنا كثيراً، وكبرنا كثيراً، وكبرت لغتنا، وكبرت مشاعرنا، وكبرت مهماتنا ووعودنا لهذا الوطن الذي تلبَّس كياناتنا وآمالنا ومواهبنا.. لقد تعلَّمنا من المواقف الصعبة التي مرَّت بها بلادنا في مواجهة الإرهاب - لا أعاده الله -، وفي الثبات في المصاب بفقد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله -، وفي صدق الاحتفاء بخادم الحرمين الشريفين: الخلف الملك عبدالله بن عبدالعزيز - حفظه الله -.. تعلَّمنا قوة الأمل، واستيقنا من أثر ثباتها الفاعل، واشتعلت فينا حماسات كبيرة عملية واعية تنطلق من الحرص على فقه الأنظمة والقوانين الشرعية والوضعية التي لا تخالف الشرع، وعلى الهدوء وعمق التأمل في محاورة العالم الذي يحاول أن يجد الصيغة المناسبة ليحاورنا بها، ويُقدِّرنا بها أيضا. تعلَّمنا أن نكون مسؤولين بحب كبير دون أن يكون هناك عقد ورقيٌّ يُلْزِمنا بذلك، تعلَّمنا أن يكون الانتماء للوطن بديلاً للانتماءات التي تثير عصبيات ضيِّقة جاهلية وغير محمودة، تعلَّمنا أن نكون الوطن، وأن نعيش في أجواء التصاق به وبهمومه، واحتواء لأفراحه الكبيرة وجراحاته الصغيرة بين أضلعنا وأحضاننا، وتعلَّمنا أن نكون إنجازات تمشي على الأرض بقدمين من نخيل سامقات، وتحلِّق في السماء بأجنحة من غيوم ممطرات، وتعلَّمنا أن نرتِّب آمالنا العِذاب، وأن نُصدِّق أنها ستكون حقيقة - بإذن الله - ما دامت جميلة؛ ففي شمس الوطن أقرأ كل آمالي. ومن فِيِّ خادم الحرمين الشريفين أقرأ الخير الذي يبشِّرنا به دوماً، وهو يبتسمُ؛ فتحلِّق آمالي وأقرؤها، وهي تبتسمُ..