لم تأخذ القرية في السرد السعودي وظيفتها، بوصفها حدثاً، بالإحالة إلى تأريخيتها، بقدر انبنائها سردياً، بما يحيل إلى موقعها النصي الذي يبنيها بناء ذا خصوصية تفجر فيها دلالات عديدة، وتترامى بها إلى معان مختلفة لا باختلاف الكتاب فقط، بل وباختلاف نصوصهم وتشكيلاتهم القصصية والروائية. كثافة حضور القرية في القصة السعودية لا يمكن تفسيره من زاوية تاريخية واجتماعية بالركون إلى نقلة المجتمع وتحولات المعيشة وصيرورة الزمن إلا بالقدر الذي تغدو فيه هذه الظروف مدلولا للمعاني التي يخلقها الوعي وتتجدد بها الثقافة، وهكذا تغدو القرية معنى تلده علاقات ثقافية وإنسانية وتستتر فيه مرامي القص وأسراره الدفينة والمستعصية على الإحاطة والاختزال. لقد توارد معظم كتاب القصة السعودية في التعاطي مع القرية، وتشكلت القرية إطاراً سردياً لمعانيهم، ولن تخطئ أعيننا هذه الحقيقة في أبرز نصوص: عبدالعزيز مشري، محمد علوان، عبده خال، حسن النعمي، علي الدميني، عبدالله باخشوين، مريم الغامدي، أحمد الدويحي، نورة الغامدي، وأحمد أبو دهمان... وغيرهم. وبالرغم من أن وهم المطابقة والتوازي يغري القارئ، دوما، بالإحالة إلى الواقع، خاصة وأن هؤلاء الكتاب قرويون، والقرية جزء من تكوينهم التاريخي والثقافي والاجتماعي - رغم ذلك فإنهم لا يتطابقون، دلاليا، فيما بينهم، وأحياناً، فيما بين نصوص أحدهم، فضلا عن أن تتطابق نصوصهم مع القرية، لتتنزل منها منزلة الاستعادة السيرية، أو التوثيق التاريخي، على ولع عبدالعزيز مشري - رحمه الله - بالدندنة على هذا الوتر. ليس للقرية، إذن صيغة دلالية ثابتة، وليس لها خاصية قيمية مطلقة، إنها لا تحضر لتُمدح أو لتُهْجى، ولا تُسْرد لتعيين هذا أو ذاك، وإذا استحضرنا ما علق في الذاكرة من القصص والروايات، فإننا نحار أمام دلالة القرية الملتبسة التي تصنعها شبكة من العلاقات المتعارضة والمتناقضة على المستوى الأفقي وعلى المستوى الرأسي، وفي النص الواحد وفي النصوص المختلفة. ويمكن أن نستعرض دلالة القرية من خلال ما تقيمه النصوص السردية من تعارض بين الغرابة والرتابة، والماضي والحاضر، والمرض والصحة، والبدائية والتمدين، والتخلف والتحضر.. حيث لا تغدو القرية أفقا بل سجنا، ولا تمثل الطموح بل اليأس، إنها حافز التمرد الذي يستثمره السرد في الولوج الى المغامرة والإرهاص بالضوء، هكذا لا تمثل القرية مداراً للحركة بل نقطة سكون. وعلى عكس ذلك، تبني النصوص للقرية، في وجهة أخرى، دلالة حركية مدهشة وذات مدى زاخر بالحرية والتشارك والتعاون والبساطة والصدق والوضوح والعدالة والبراءة.. في مدار لا يعارضها بالمدينة فقط، بل يقف بها في قبالة العصر، وأحياناً التاريخ، مخرجاً إياها من خسة الخداع ونذالة الكذب والظلم، ومتمرداً بها على الاستهلاكية، لتغدو ملاذاً يستبدلها بالغموض والتعقيد والتدجين والقولبة، ويقرأها بما يكشف عن زيف الحضارة التي استعبدت الإنسان وقصت جناحيه وأورثته القلق والكآبة. في الحالين، ليست القرية واقعة تسجيلية، بقدر ما هي يوتوبيا الفن أو جحيمه، الذي يهرب إليه أو منه السرد الحديث، وفق دلالته الشمولية التي تروم التحرر وتتوق إلى المعاني الإنسانية. القرية مكان، والمكان، دوماً، ظرف إحاطة مادي، من هنا تنشأ الذات في علاقة تلازم مع المكان، فليس هناك ذات مجردة عن المكان. المكان - إذن - متحيز بوصفه جهة، ومغلق بوصفة ذاتاً، وهكذا تنشأ أسئلة تصنيفية في العلاقة بين السرد والمكان تحيل حينا إلى (الكلاسيكية) التي اهتمت بالمكان «ونظرت حتى إلى الأدب بمدلولات الفنون التشكيلية وحينا آخر إلى (الرومانتيكية) في عودتها الى المنبع، وغرامها بالمحلية، وحينا ثالثاً إلى (الواقعية) التي عوَّلت على الضمير القومي لكل ثقافة، ورأت الثراء في خصوصيته الشعبية والاجتماعية والتاريخية. فأين تقف سيرة القرية من كل هذا؟! لاشك أن كثافة حضور القرية في القصة السعودية دال من دوال وعي أدبنا المحلي بثراء ضميرنا الثقافي الشعبي والاجتماعي والتاريخي، هذا الثراء الذي يؤهل هذا الأدب للعالمية، ويطلقه في فضاء الإنسانية، فالدخول إلى ساحة العالمية الواسعة يبدأ من القرية التي هي معدن واقعنا وجوهر حقيقتنا. أحمد أبو دهمان يحتمي بقريته في باريس، قريته التي أدخلته الى العالمية عبر (الحزام)، وهو يقول: «من لا يعرف نسبه لا يرفع صوته»، نسبه، هنا، قريته، ولأنه لا يعرف نفسه إلا بها، فإنه مؤهل أن يرفع صوته، صوته ليس إلا حكاية قريته، أليست هي إياه؟!. إنها لا تسكن روحه وذاكرته وصوته فقط، بل تمتد إلى خارطة جسده لتدمغها ببصمتها التي لا تمحى. أبو دهمان، رغم ذلك، لا يستعيد قريته، ولا يحيل إليها في الواقع بقدر ما يحيل إلى نصها الذي يبنيها بناء ذا خصوصية تفجر فيها وبها دلالات عديدة، إنه يخلقها في باريس، قرية أبي دهمان هذه مركب سردي مدهش تأخذ فيه الغرابة والماضي والمرض والبدائية والتخلف والجنون.. شكلها الإنساني. إنها تنفصل عن مدارها الزماني والمكاني بما يتيح أن نكتشف فيها وبها معانٍ أخرى غير تاريخية وغير منفصلة عن الإنسانية في وحدتها العضوية.