إن الأسباب التي اخرت دخول المطبعة العربية الى الدولة العثمانية متعددة. فمنها ما هي اسباب دينية، ومنها ما هي اسباب سياسية، ومنها ما هي أسباب اجتماعية. 1 الأسباب الدينية لقد جرى صراع طويل بين العالم الاسلامي والعالم الغربي، ادى الى فقدان الثقة بين الطرفين. وكان طبيعيا أن ينظر العلماء في الدولة العثمانية الى ما هو قادم من العالم الغربي بعين الشك والريبة. خصوصا إذا كان هذا القادم يمس شيئا يتعلق بطبع الكتب الدينية. ولعل هذا هو السبب الذي حرك أنصار المطبعة العربية الأولى في الدولة العثمانية، لكتابة تقاريظ من اثني عشر عالماً، بالاضافة الى فتوى شيخ الإسلام، يبيّنون فيها فوائد المطبعة. وقد تصدر أول كتاب من مطبعة ابراهيم متفرقة بذلك الفتوى وتلك التقاريظ. وهذا الامر لم يتجاسر أحد على الإقدام عليه من قبل، وهو طبع الكتب باللغة العربية. إذاً، لولا الخوف من إدخال تحريفات على الكتب الدينية التي تطبع بالمطبعة، لم يكن هناك اعتراض على الاستفادة من فن الطباعة لدى العلماء. 2 الأسباب السياسية يذكر أن الدولة العثمانية كانت تخاف من انتشار المعرفة والوعي الثقافي بين المواطنين، حماية لمصالحها، وخوفا من فضح سياسة التجهيل والتوهيم التي تتبعها، حسب هذا الزعم. إذ إنها وعت منذ وقت مبكر النتائج السلبية، التي ستعود عليها من خلال تبادل الافكار، ولاسيما الفتنة التي حصلت بن البروتستانت والجزويت، في توزيع الكتب الدينية على أراضي الدولة العثمانية في أوائل القرن الحادي عشر الهجري، (السابع عشر الميلادي). فقد بيّن الإكثار من الكتب، بواسطة أساليب الطبع للسلطات العثمانية، الخطر الذي ينتج من نشر الكتب التي تحمل آراء جديدة بسرعة وتوزيعها، بالإضافة الى أنها ستُدخل الاضطراب إلى هياكل الدولة العثمانية، وذلك لأن الكتاب المطبوع سيسهم في تعليم الشعوب، ونشر آراء تدعو إلى التخلص من الحكم العثماني. 3 1 لأسباب الاجتماعية من خلال الاستقراء التاريخي لسير الطباعة في تركيا يبدو أن وجود أعداد هائلة من النسّاخ والخطاطين في مدينة إستانبول، كان سببا اجتماعيا مهما في تأخر دخول المطبعة العربية الى الدولة العثمانية، فقد كان في إستانبول في أثناء دخول المطبعة إليها عشرون ألف ناسخ وخطاط، كانوا يعتمدون في مورد رزقهم على نسخ الكتاب المخطوط. ويرفع باحث غربي ذلك العدد إلى تسعين ألفاً، كما يؤكد ذلك مصدر آخر عن مؤرخ تركي. ومهما يكن من أمر، فإن وجود هذا العدد الهائل من الخطاطين في إستانبول، كان سبباً وجيهاً في القيام بمنع دخول ما يؤدي إلى قطع أرزاقهم. ومعلوم أن تعطل هذا العدد الكبير، كان سيؤدي إلى مشكلات اجتماعية وسياسية، كانت الدولة العثمانية في غنى عنها. ولما صدرت الموافقة على إنشاء المطبعة العربية عام 1726م، قام هؤلاء الخطاطون بمسيرة جنائزية، وضعوا فيها آلات الكتابة وأدواتها في تابوت، وساروا به إلى المقبرة. غير أنهم لما علموا باشتراط السلطات العثمانية، على القائمين على المطبعة عدم طبع الكتب الدينية، والسماح فقط بطباعة كتب علوم الآلة والعلوم البحتة، فإنهم لم يكملوا المسيرة وساروا إلى منازلهم. ومعلوم أن الرواج في تلك الفترة كان على الكتب الدينية، ولاسيما تلك التي تدرّس في المدارس الشرعية. بالإضافة الى كل تلك الأسباب، فإن السماح بالطباعة كان سيقضي على مصدر الرزق للمشتغلين بفن التزيين والتذهيب والخط والتجميل. وكان ذلك الفن متوافرا في الكتاب المخطوط دون المطبوع في ذلك الوقت، خصوصاً إذا علمنا أن العثمانيين في ذلك العهد كانوا يمتازون بالإبداع في تلك الفنون، وكانت رغبتهم في اقتناء المخطوطات التي تمتاز بنفاستها، أكثر من المطبوعات. فإذا أضيف عدد العاملين بتلك الفنون إلى من كان يشتغل بالنسخ والتخطيط، اتضح أن الوضع العام للمجتمع العثماني في ذلك الوقت لم يكن مساعدا للاعتماد على المطبعة في طباعة الكتب. والحقيقة أن اقتصار المطبعة العربية على طباعة سبعة عشر كتابا في الفترة الواقعة بين تاريخ تأسيس المطبعة، وهو سنة 1139ه (1726م) وتاريخ وفاة مؤسسها إبراهيم متفرقة، وهو سنة 1158ه (1745م)، ليدل دلالة واضحة على ان المجتمع العثماني لم يَرُق له الكتاب المطبوع، ولم يهتم به مثل المخطوط، وهذا يجعلنا نفكر في أن المجتمع العثماني، إلى ذلك الوقت، لم يعرف قيمة المطبعة، ولا وعَى الفوائد التي تعود على المجتمع من خلال نشر العلم والمعرفة.