وفد سعودي يشارك في تمرين إيطالي لمحاكاة مخاطر البراكين ويبحث تعزيز التعاون في الحماية المدنية    الذهب يتجاوز 4200 دولار وسط مخاوف الديون الأمريكية وخفض "الفائدة"    تجمع الرياض الصحي الأول يحتفي باليوم العالمي للجودة ويستعرض منجزاته في تحسين الرعاية وسلامة المرضى    اليماحي يثمن الدور الرائد لدول الخليج في تعزيز مسيرة العمل العربي المشترك والدفاع عن القضايا العربية    مدة غياب بونو وكوليبالي عن الهلال    سوق الموسم ينطلق من منطقة الطوالع التاريخية ب "النجناج"    وزارة الداخلية تحصل على جائزة أفضل جناح وتفاعل ومشاركة في مؤتمر ومعرض الحج 2025    هطول أمطار رعدية على معظم مناطق المملكة من يوم غدٍ الجمعة حتى الاثنين المقبل    مفتي عام المملكة يستقبل وزير العدل    خوارزميات الإنسان    نائب وزير الخارجية يستقبل سفير جمهورية فرنسا لدى المملكة    خبراء: السجائر الإلكترونية تقوض حقوق الأطفال الإنسانية    توازن كيميائي يقود إلى الرفاه الإنساني    غرفة القصيم توقع تفاهمًا مع الحياة الفطرية    منسوبو وطلاب مدارس تعليم جازان يؤدّون صلاة الاستسقاء    "محافظ محايل" يؤدي صلاة الاستسقاء مع جموع المصلين    ارتفاع الإنفاق على البحث والتطوير بنسبة 30.4% خلال عام 2024م    نجاح فصل التوأم الملتصق الجامايكي «أزاريا وأزورا» بالرياض    محافظ صبيا يؤدي صلاة الاستسقاء تأسياً بسنة النبي واستجابة لتوجيه خادم الحرمين الشريفين    التضخم في السعودية يبلغ 2.2% في شهر أكتوبر 2025    أمير القصيم يؤدي مع جموع المصلين صلاة الاستسقاء في جامع الأمير عبدالإله بن عبدالعزيز ببريدة    تقني الشرقية تختتم "راتك 2025"    شراكة مجتمعية بين ابتدائية قبيبان وجمعية «زهرة» للتوعية بسرطان الثدي    أول اجتماع لمكتب المتقاعدين بقوز الجعافرة    مصرية حامل ب9 أجنة    أمير حائل يدشّن عددًا من الحدائق الجديدة بالمنطقة .    الثقوب الزرقاء ورأس حاطبة.. محميتان بحريّتان تجسّدان وعي المملكة البيئي وريادتها العالمية    محافظ محايل يزور مستشفى المداواة ويطّلع على مشاريع التطوير والتوسعة الجديدة    أمانة نجران تطلق حملة موسم التشجير لعام 1447    تحذير فلسطيني من تهجير قسري في قلنديا ينتهك القانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف    المصلون يؤدون صلاة الاستسقاء في جميع مناطق المملكة    عقد شراكة بين فرع الهلال الأحمر السعودي وبيت الثقافة بمنطقة نجران    ورشة استراتيجية مركز الملك سلمان لأبحاث الإعاقة 2026–2030    ذاكرة الحرمين    الشلهوب: الرسائل المؤثرة.. لغة وزارة الداخلية التي تصل إلى وجدان العالم    كمبوديا وتايلاند تتبادلان الاتهامات بالتسبب بمواجهات حدودية جديدة    ستة معايير سعودية تقود عملية تطوير مؤسسات التعليم العالي عربيًا    الرياض تحتفي بانطلاق البطولة العربية للجولف للرجال والرواد    كريستيانو رونالدو: المونديال القادم هو الأخير لي    رئيس برشلونة ينفي تقارير عودة ميسي    وسط مجاعة وألغام على الطرق.. مأساة إنسانية على طريق الفارين من الفاشر    وسط جدل سياسي واسع.. الرئيس الإسرائيلي يرفض العفو عن نتنياهو    في دور ال 32 لكأس العالم للناشئين.. مواجهات صعبة للمنتخبات العربية    في الميركاتو الشتوي المقبل.. الأهلي يخطط لضم الألماني«ساني»    تعزز مكانة السعودية في الإبداع والابتكار.. إطلاق أكاديمية آفاق للفنون والثقافة    «مغن ذكي» يتصدر مبيعات موسيقى الكانتري    160 ألف زائر للمعرض.. الربيعة: تعاقدات لمليون حاج قبل ستة أشهر من الموسم    تصفيات مونديال 2026.. فرنسا وإسبانيا والبرتغال لحسم التأهل.. ومهمة صعبة لإيطاليا    أوروبا وكندا تدعوان لتنفيذ اتفاق غزة    الوكالة الذرية تفقد القدرة على التحقق من مخزون اليورانيوم الحساس    تجربة الأسلحة النووية مرة أخرى    القيادة تعزي رئيس تركيا في ضحايا تحطم طائرة عسكرية    وفد رفيع المستوى يزور نيودلهي.. السعودية والهند تعززان الشراكة الاستثمارية    يجتاز اختبار القيادة النظري بعد 75 محاولة    شهدت تفاعلاً واسعاً منذ إطلاقها.. البلديات: 13 ألف مسجل في مبادرة «الراصد المعتمد»    النويحل يحتفل بزواج عمر    السعودية تقود اعتماد أول مواصفة عالمية للتمور    «محمية الإمام» تطلق تجربة المنطاد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د .محمد بن ناصر الكثيري
نشر في الجزيرة يوم 24 - 11 - 2000

للتفكير المبدع بيئته الخاصة التي من خلالها ينشط فيبدع عندما تتهيأ عوامل نشاطه وتحفيزه، إلا أنه قد يخمد نشاطه وينطفئ بريقه ويذهب لمعانه عندما تفتقر بيئته لهذه العوامل المهمة التي مر ذكر بعضها ونستكمل بعضها الآخر:
خامساً: تنديد الإسلام بالتقليد الأعمى:
لقد عاب القرآن على المشركين تقليدهم الأعمى لآبائهم دون تفكير إرادي مسؤول وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، أوَ لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون (1) ، وليس في الإسلام تقليد أعمى بأي صورة كانت، إذ لا يمكن إن يكون العمى خيراً لذاته أبداً، فما قد يردده البعض مفتخراً من شعارات زائفة ليس لها في الواقع أي رصيد مثل الطاعة العمياء أو الحب الأعمى وغيرها فهو شر لا خير فيه مادام متسماً بالعمى الذي لم يرد في سياق القرآن الكريم أو الحديث الشريف أو كلام العرب إلا مذموماً، والأولى أن تكون الطاعة مبصرة والمحبة منضبطة، وتأمل هذين الحديثين الشريفين:
الأول: عن علي قال: بعث النبي سرية، وأمّر عليهم رجلاً من الأنصار، وأمرهم أن يطيعوه، فغضب عليهم, وقال: أليس قد أمر النبي أن تطيعوني؟ قالوا بلى، قال: قد عزمت عليكم لمّا جمعتم حطباً، وأوقدتم ناراً، ثم دخلتم فيها، فجمعوا حطباً، وأوقدوا ناراً، فلما همّوا بالدخول، فقاموا ينظر بعضهم إلى بعض، فقال بعضهم: إنما تبعنا النبي فراراً من النار، أفندخلها؟!! فبينما هم كذلك إذ خمدت النار وسكن غضبه، فذكر للنبي فقال: لو دخلوها ما خرجوا منها أبداً، إنما الطاعة في المعروف (2) ، وعند مسلم:وقال للآخرين قولاً حسناً (3) , لم يكن هذا الأمير يقصد دخولهم النار حقيقة، ولكن أراد معاقبتهم وتذكيرهم بعقوبة الآخرة على المعصية، كما ذكر العلماء, فالطاعة مطلوبة عندما لا يكون في الأمر معصية أو مفسدة متحققة.
الثاني: عن أبي هريرة قال: أحبب حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما (4) .
سادساً: ندرة أو غياب التفكير الخيّر:
المفكرون لخير الناس قليل من قليل من قليل، إذ أن الأكثرية في أي مجتمع لا تفكر، لا تفكر التفكير الإيجابي الذي يتخلص من قيود مشكلات الحياة اليومية الخاصة إلى فضاء الإبداع الرحب الذي يمكّن العقل من القضاء على الشوائب الفكرية والتخلص منها، بل إن هذه الأكثرية غالبا ما تحكمها أعراف وعادات تسيّر حياتها دون أدنى إحساس إلى التفكير في التغيير أو التطوير، إذ إن مسايرة المجتمع والسير في ركابه تورث الأمان والسلامة وتحقيق رضا العامة وهو ما تميل إليه النفوس غالباً, وإذا كانت الأكثرية كذلك فإن البقية المفكرة ليست كلها ذات تفكير خيّر، فمنهم من يسخّر تفكيره وقدراته العقلية ومهاراته الذهنية للمكر والكيد والإفساد والإيقاع بالآخرين وإفساد ذات البين وتشتيت الشمل ودق الإسفين بين الناس، حيث لا يهنأ له بال إلا في بيئة تغرق في الرذيلة، أو يسودها التشرذم وتلفها النزاعات وتسيطر عليها الخصومات ولو لأدنى الأسباب، وأنّى للتفكير أن يزدهر في مثل هذه البيئة؟ ولهؤلاء أساليب شتى في تحقيق مآربهم ومقاصدهم الخبيثة، وهم شر الناس كما حكم عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم حيث يقول في أشباههم فيما يرويه عنه أبو هريرة:
,, وتجدون شر الناس ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه (5) .
ويقول تعالى فيهم: وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون (6) .
وهذا النوع من التفكير عدمه خير من وجوده ، وكم هي المجتمعات التي تكتوي بنار هذا النوع من التفكير وتصطلي بلهيبه, أما الأقلية الباقية أعني ذوي التفكير الخير، فيعوز كثير منهم منهجية التفكير وسلامة أساليبه وأنماطه وطرقه، والقدرة على إثرائه وتطويره ورفع كفاءته، فتبقى إذن الندرة التي لا تمتلك القدرة على التفكير مع القصد الحسن والباعث الخيّر له فحسب بل تضيف إلى ذلك العمق والسلامة المنهجية العلمية المتميزة في التفكير، فهم إذن قليل من قليل من قليل، وعلى الرغم من قلتهم هم الذين تحتاجهم المجتمعات حاجة الرضيع لأمة، وحاجة الظامئ للماء البارد، ولا غنى لأي مجتمع عنهم البتة، وهم الذين تقع عليهم مسؤولية الرقي بمجتمعاتهم وتبعاتها مهما كانت، فكم من الشقاء الذي تجلبه المجتمعات المتخلفة لمفكريها وعقلائها؟ وكم كابد ويكابد أصحاب الأفكار بسبب التعامل مع الناس على اختلاف ثقافاتهم ومفاهيمهم ونفسياتهم وما جبلت عليه من طباع وخصائص؟
سابعاً: وفرة عوامل تحطيم التفكير أو إجهاضه:
عوامل تحطيم التفكير وتثبيطه عديدة ومتنوعة جداً، فمنها ماجبلت عليه النفوس من صعوبة الاعتراف بالخطأ فضلاً عن الرجوع عنه حفاظاً على الكبرياء الشخصية أو الاحترام الذاتي أن يمس أو ينتقص، وإن من خصائص الطبيعة الإنسانية مقاومة التغيير ولو كان للأفضل، لا سيما إذا كان في التغيير تأثير على المصالح الشخصية، ومنها التمسك بالعادات ولو كانت سلبية، على أن التمسك بالعادات ليس سلبياً دائماً، بل من العادات ماهو ضروري لبقاء المجتمع وانتظامه، كما أن منها ما يشكل عقبة أمام التطوير والإصلاح، فهي أشبه بالآلات فإما أن تكون لنا السيادة عليها وإلا أصبحنا عبيداً لها، فلابد من الرقابة الواعية عليها وفحصها بين وقت وآخر، لكيلا تتحول إلى ثوابت ومسلمات لا تقبل المناقشة والنقد وتختلط بالعقائد والحقائق التي لا تستقيم الحياة إلا بها, كما يجب التفريق بين العادات التي كسبناها عن طريق التأمل الواعي والقناعة التامة والعادات التي تسربت إلينا دون وعي منا وبصورة لا شعورية أو بفعل عوامل الإيحاء دون انتباه منا.
ومن عوامل تحطيم التفكير شيوع أسلوب التبرير، ليس لدى عامة الناس فحسب بل حتى لدى بعضعلمائهم ومفكريهم الذين يملكون التحكم في عقول الناس ويشكلون تفكيرهم، وما أشد سلطانهم وأعظم خطرهم! وصور التبرير ليس لها حصر لكنها لا تخفى على النابه لاسيما عند حدوث الأزمات حيث يقوم التبريريون بتسليط الضوء على جوانب محددة وزوايا ضيقة يفقد الناس خلالها شمولية النظر والمعالجة، وعندما يصاب الناس بعسر الفهم تشبثاً بأقوال النخبة المستولية على العقول والأذهان يجد المفكرون المخلصون صعوبة في توضيح الأمور وتجلية الحقائق.
وكم هم الذين يجيدون تزييف الوعي وتسميم التفكير وشل العقل وتعطيله بوسائل وطرق غاية في الدهاء والخبث لتحقيق مآربهم وأهدافهم الخاصة، حيث لا يزعجهم أكثر من أن تستثار العقول وينضج التفكير ويتحقق الوعي لكي يمارس الإنسان دوره في تحقيق النهضة وتخفيف المعاناة بألوانها, فنحن بحاجة ماسة للتفكير لاستكشاف هذه الطرق والأحابيل التي تسعى لتهميش التفكير أو تسميمه، سواء كانت سلوكاً أو مفاهيم أو عادات وتقاليد، فالخمول، والتكاسل والتثاقل والتسفل والترف واللهو والاهتمامات الهزيلة وعبادة المتعة والمادة وغيرها مما يخنق التفكير أو يعيقه ويقلل كفاءته.
ثامناً: التفكير من أجل رفع المعاناة عن الإنسان:
إن ما تعانيه الأمم اليوم بحاجة إلى التفكير العميق والمضني لتخليص الإنسان من المكانة الوضيعة التي هوى فيها بسبب القيم المادية المعاصرة والأخلاق البهيمية، فما عاد فرق كبير بين الإنسان فيها والحيوان، إن لم يتفوق الحيوان أحيانا قال تعالى:,, والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام,, (7) وقال أيضاً: أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام، بل هم أضل سبيلاً (8) وذلك عندما انقطعت الصلة بالله عز وجل فلم يعد هناك رسالة أو هدف سام يسعى له الإنسان في الحياة.
والناس بحاجة إلى التفكير لرفع المعاناة المريرة التي يعانون منها عندما وقعوا ضحية للنظم الرأسمالية أو الشيوعية وغيرها من الأنظمة المادية الظالمة، التي سحقت الناس واستأثرت بقدراتهم واستبدت بخيراتهم وتركتهم يرزحون تحت المشكلات الاقتصادية والاجتماعية وغيرها من البطالة والفقر والمرض والحروب الأهلية والتخلف والجهل والأمية والظلم الاجتماعي بشتى صوره.
تاسعاً: التفكير من أجل القضاء على التخلف ومظاهره:
يقف التفكير الموفق وراء كل الإنجازات البشرية في مسيرة الإنسان قديماً وحديثاً، وهو نشاط عقلي، وبقدر ثراء المجتمع بالأفكار الناضجة يكون رقيه ونضج أفراده, ولقد كان هذا التفكير النشط ما تميز به الرواد المبدعون الذين نشأت على أيديهم الحضارات، ومما يكرس أهمية التفكير ودوره الحيوي أنه غير قابل للبيع أو الاستيراد فهو نتاج بيئته ونبع واقعه، لذا كان لزاماً على أي أمة تريد النهوض أن تنتج فكرها وتنمّيه وتبحث عن بواعثه ومحفزاته، وتسعى في إقامة كل ما من شأنه الرفع من خصوبته ونضجه، والتخلص من عوامل إفساد التفكير وتبلده.
وللتفكير دور حيوي وحاسم في الحد من مظاهر التخلف في المجتمع والرقي به في مدارج الأمم المتقدمة؛ وذلك أن التقدم العلمي وبناء الحضارات لا يقوم على العقول المتميزة فحسب، بل هو بحاجة ماسة إلى مناخ فكري متكامل ينهض بمجموع أفراد المجتمع ويرقى بتفكيرهم ويسمو باهتماماتهم بعيداً عن مظاهر التخلف الاجتماعية أو شوائبه الفكرية من الأنانية والتعصب والحسد والأثرة والنميمة والانتهازية وضيق النظر وإعجاب كل ذي رأي برأيه، وهذا المناخ للعقول والمواهب بمثابة العش الآمن للطائر، فبدونه تلجأ العقول والمواهب المتميزة إلى الهجرة بعيداً عن هذا الخضم المتلاطم من المظاهر المتخلفة مهما كلفها الثمن باحثةً عن هذا المناخ لتحقيق الذات وإشباع الاحتياجات النفسية من العطاء المثمر والإنتاج المتميز، أو تتخلى عن مواهبها وتتكيف مع مناخ لا يناسب موهبتها فتخسر وتُخسر.
ومن سمات المناخ الملائم لإنتاج الأفكار وإبداعها التوافق الفكري ولو على نطاق مجاميع علمية مصغرة فريق بحث تتعاون وتتكامل وتتعمق في التخصصات المختلفة لتحقيق مزيد من الفهم والعمق وبعد النظر والتقارب والائتلاف ونضج الطرح في التفكير, وإلا فإن السطحية والسذاجة وتشتت الجهود وضيق النظر والخلافات الفكرية هي النتائج الطبيعية للتشرذم والفرقة والفردية.
وعندما تنشأ الأجيال على احترام التفكير وإعلاء شأنه وتعلم طرقه ومناهجه ومعرفة حدوده وضوابطه، فإنها تصبح على درجة من الحس المرهف المبدع والإنتاج المثمر، ينعكس ذلك على واقع الأمة ومستقبلها، حيث لا استثمار افضل من الاستثمار في الإنسان، ولا ثروة أعظم من ثروة العقل التي أنعم الله بها عليه، ولئن عرف عنا تضييع الثروات المادية وإساءة توظيفها فما اشد خسارتنا وما أعظم غبننا عندما نفرط في أعز ثرواتنا المادية وأغلاها: عقول الرجال، إن مثل من لا يستفيد من عقله كصاحب مصنع يشتري جهازا باهظ الثمن ثم يضعه في مكان أنيق ويضرب عليه حراسة مشددة حتى لا تتم سرقته أو العبث به ويمنع العاملين بالمصنع من الاقتراب منه خوفا عليه لغلاء ثمنه، ألا يمثل ذلك خسارة على المصنع لا نظير لها؟ إننا بحاجة ماسة إلى مزيد من التوظيف الراشد للعقل وذلك لمواجهة الأخطار التي تهدد مجتمعنا وأمتنا بل والبشرية قاطبة لأننا أصحاب رسالة عالمية شرفنا الله بها وما أرسلناك إلّا رحمة للعالمين (9) ، وللرقي بالإنسان إلى المستوى والمكانة التي شرفه الله تعالى بها: ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضّلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً (10) .
عاشراً: مكافحة الخرافة:
إن تعطيل التفكير السوي يطيل عمر الخرافات في المجتمعات؛ فلا يزال بعض الناس يلمسون الخشب طمعاً منهم في اتقاء خطر العين والحسد! وما علاقة هذا بذاك؟! فقد يعلق البعض تعويذة على صدره أو في معصمه اتقاء لشر محتمل الوقوع! أو يضع مصحفاً في السيارة أو في مكان بارز فيها للهدف ذاته، أو يتجه إلى ميت مقبور ليطلب نفعاً أو دفعاً منه!!
وفي المقابل قد تجد من يضفي قداسة عجيبة للآلة من حيث التعلق بها للدرجة نفسها التي لدى أهل الخرافات والدجل، فيظن بعضهم أن الآلة وحدها في الطب مثلاً هي التي تقدم الشفاء للناس، أو يحكم على مصنع أو عيادة أو مختبر بالتفوق أو ضده من خلال كثرة آلاته ومعداته فقط.
حادي عشر: منح العقل منزلته ومكانته المحددة له:
وتبرز أهمية التفكير والحاجة الماسة إليه من خلال فهم مهمته ودوره وحدوده ومجالاته دون إفراط أو تفريط, فمن أكبر موانع التفكير عند بعض الناس موقف بعضهم الآخر من العقل الذين يغلون فيه؛ فينزلونه أكبر من منزلته أو يقحمونه في غير مجاله ويطالبونه بما ليس من عمله، ويجعلونه حاكماً على كل شؤون حياتهم، فما لا يقدر العقل على استيعابه لعجزه لا يقبلونه مهما كان مصدره فهم يجعلونه في مواجهة الدين فيقدمونه على الوحي أحياناً، ويرون أن ما تتقبله عقولهم من الأحكام أو النصوص الشرعية هو المعقول والمقبول لديهم، ويرفضون كل ما تعجز عقولهم عن فهمه وإدراك أبعاده.
فمن المهم جدا تحديد مهمة العقل بوضوح، وإدراك حدوده والمجالات التي يجب أن ينطلق فيها، والمجالات التي لا يمكنه الخوض فيها بحكم طبيعته وإمكاناته، بهذه النظرة المتزنة تتحقق الفائدة القصوى من هذه المنحة الإلهية العظيمة، وتنعكس بشكل إيجابي على واقع الأمة ومستقبلها ويمكنها التخلص من ربقة التخلف التي تعيش فيها، رغم المقومات الحضارية التي تمتلكها من القيم والأخلاق السامية والنظام التشريعي المتكامل اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا والموارد البشرية الضخمة والموارد المادية الهائلة والموقع الجغرافي المتميز وغيرها مما يؤكد على الجميع أن يعملوا ثرواتهم العقلية وتوظيفها إلى الدرجات القصوى لاستثمار هذه المقومات الحضارية الكبيرة، ويمكن إيجاز الأدوار التي يقوم بها العقل فيما يلي:
1 أنه يسهم في الكشف عن حقائق جديدة.
2 يساعد في استثمار المعلومات المتاحة بطرق جديدة, لاسيما في عصرنا هذا الذي اصبح يعرف بعصر المعلومات للكم الهائل من المعلومات المتوفرة، فلم يعد غياب المعلومة يشكل عقبة في طريق التقدم بقدر ما يشكله غياب العقل الذي يحسن توظيف المعلومة واستثمارها.
3 يسهم في التغلب على المشكلات المتجددة والتي تتعقد مع مرور الوقت مما يستدعي تفكيرا ينمو ويتحسن.
ويبقى السؤال الكبير: رغم كل هذه المحفزات والبواعث على التفكير التي تمتلكها هذه الأمة ضمن مقومات نهضوية عديدة، كيف تبقى في الوضع المتخلف والواقع المرير الذي تعيشه؟ أوليس جديراً بها أن توظف عقول جميع أبنائها دون استثناء، وتستفيد من هذه الثروة التي تهدر يومياً، بل وتكرس وسائل هدرها وتضييعها، ويصدق فيها وصف الشاعر:
كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ
والماء فوق ظهورها محمول!
الهوامش:
1- سورة البقرة: 170.
2- رواه البخاري 7145، 4340، 7257.
3-رواه مسلم 4765.
4 رواه الترمذي 60/1997 .
5 متفق عليه : البخاري 3494،6058،7179 مسلم 6454،6630،6632,6631.
6 سورة البقرة: 11،12
7-سورة محمد : 12
8 سورة الفرقان: 44
9 سورة الأنبياء: 107.
10 سورة الإسراء: 70.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.