السعادة تنطلق من السعودية إلى سوريا    NHC توقّع مذكرة تفاهم مع شركة كي هوفينيان الأمريكية لتطوير مشاريع سكنية وتجارية في وجهاتها العمرانية    أمير منطقة تبوك يرعى حفل تخريج الدفعة ال 19 من طلاب وطالبات جامعة تبوك    مُحافظ الطائف يستقبل مدير فرع هيئة التراث بالمحافظة    نائب أمير الرياض يطّلع على برامج وخطط جائزة حريملاء    بترومين راعٍ رئيسي لفريق نيسان فورمولا إي في سباق طوكيو إي - بري    وزير الرياضة يعتمد تشكيل مجلس إدارة الإتحاد السعودي للملاكمة    يايسله يكشف موقف لاعبه من مواجهة الخلود    موقف الفتح من ضم مدافع منتخب مصر    باخشوين ل"الرياض": 1200 خدمة رقمية تقدمها الوزارة عبر منصات متطورة    إطلاق النسخة الثالثة من معرض "إينا 3" للقطاع غير الربحي في الرياض بمشاركة خليجية ودولية واسعة    تجمع جازان الصحي يدشن عيادة البصريات في مراكز الرعاية الأولية    لاعب الاتفاق يجري عملية جراحية في الدوحة    "الداخلية": تأشيرات الزيارة بجميع أنواعها ومسمياتها لا تخوّل حاملها أداء فريضة الحج    التحالف الإسلامي يختتم برنامجا تدريبيا في مجال محاربة تمويل الإرهاب    نجاح عملية فصل التوأم الملتصق الإريتري "أسماء وسمية" بعد عملية جراحية دقيقة استغرقت 15 ساعة ونصفًا    رابطة العالم الإسلامي تُثمِّن إعلان رئيس الولايات المتحدة الأمريكية رفعَ العقوبات عن سوريا    الجامعة العربية تدين رفض الاحتلال الإسرائيلي الانصياع لقرارات مجلس الأمن    أسبوع الرياض للصناعة 2025 يؤكد الحراك السعودي لتشكيل مستقبل القطاع    الماجستير لعبير أبو ربعية    العمري ل"الرياض" : زلزال 14 مايو ناتج عن انزلاق صفيحة أفريقيا تحت بحر إيجة    مركز التنمية الاجتماعية في جازان ينفذ ورشة عمل بعنوان "تجهيز العروس الجيزانية"    الجمعية العمومية لجمعية الإعاقة السمعية بمنطقة جازان تعقد اجتماعها العادي الأول    ميناء جدة الإسلامي يستقبل أُولَى طلائع حجاج 1446ه    2400 مشروع لتطوير 9200 غرفة فندقية في مختلف المناطق    انطلاق "هاكاثون الابتكار الصحي الرقمي الأول"    بصمة على علبة سجائر تحل لغز جريمة قتل    أسرتا إسماعيل وكتوعة تستقبلان المعزين في يوسف    أفراح الزواوي والتونسي بعقد قران عبدالرحمن    كفيف.. فني تصليح أجهزة كهربائية    تأمين ضد سرقة الشطائر في اسكتلندا    أسرار رونالدو!!    جناح سعودي يستعرض تطور قطاع الأفلام في" كان"    "بينالي الفنون" يدعم صناعة الأفلام التناظرية    الملا يكرم العنود وحصة والصحفي في "رواية وفيلم"    برشلونة في مهمة حسم اللقب أمام الجار    وكالة الفضاء السعودية تستعد لإطلاق أول قمر صناعي    الأغذية المعالجة بوابة للإصابة بالشلل الرعاش    «الغذاء والدواء»: ضبط 1621 منشأة مخالفة خلال شهر    رفع كسوة الكعبة المشرفة استعدادًا لموسم الحج    10 مسارات إثرائية دعوية في المسجد النبوي    عظيم الشرق الذي لا ينام    رؤيةٌ واثقةُ الخطوةِ    ماركا: لابورت يعود للدوري الإنجليزي    الحدود الشمالية.. تنوع جغرافي وفرص سياحية واعدة    لا حج إلا بتصريح    فعالية «تراثنا» تبرز الهوية الثقافية للمدينة المنورة    «هيئة الأدب» تختم مشاركتها في بوينس آيرس    «الرئاسي الليبي» يدعو للتحلي بالوعي والصبر    «فهارس المخطوطات الأصلية في مدينة حائل»    تعليق الحياة ليوم واحد    77% نموا بمطالبات التأمين    عماد التقدم    الهيئة الملكية لمحافظة العلا وصندوق النمر العربي يعلنان عن اتفاقية تعاون مع مؤسسة سميثسونيان لحماية النمر العربي    مُحافظ الطائف يشهد استعداد صحة الطائف لاستقبال موسم الحج    نائب أمير منطقة تبوك يشهد حفل تخريج متدربي ومتدربات التقني بالمنطقة    ولي العهد والرئيس الأمريكي والرئيس السوري يعقدون لقاءً حول مستقبل الأوضاع في سوريا    الكوادر النسائية السعودية.. كفاءات في خدمة ضيوف الرحمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مشروع النهضة.. اتجاهات خاطئة أم صناع مخطئون؟ (2)
نشر في المدينة يوم 30 - 12 - 2010

فتحت “الرسالة” في العدد الماضي ملف المفكرون وما قدموه لأجل تحقيق النهضة، ونواصل في هذا العدد الحديث، حيث يشارك ثلة منتقاة من المفكرين ما بدأه زملاؤهم، حيث يتحدث الدكتور عبدالعزيز العسكر والأستاذ شتيوي الغيث والسفير نبيل بدر، متناولين جميع الجوانب المتعلقة بالأمر وموضحين خريطة الطريق لأجل إحداث النهضة المجتمعية الشاملة.
المفكر غيّبته السياسة
بناء الدولة اليوم هو بناء مؤسسي يقوم على الدين والسياسة والثقافة، لكن الراصد لواقعنا يجد أن هناك تجهيلًا سياسيًا متعمدًا للشعوب إلا فيما ندر،كما يوجد غياب لعمليات التثقيف السياسي بشكل صحيح وغياب للمشاركة السياسية بالشكل المطلوب بعيدًا عن الشعارات السياسية دون وجود مشاركة حقيقية للشعوب في صنع القرار على أرض الواقع، ولذلك نستطيع أن نؤكد أنه لا يمكن أن نحقق إصلاحًا حقيقيًا على أرض الواقع، إلا إذا تم إعطاء الفرصة للمفكرين العرب في المساهمة بقوة في تحقيق النهضة، لأن المفكر إذا شعر أنه صاحب رأي وأنه إذا كان في دولته مشروع حضاري أو على المستوى العربي والإسلامي العام فهو يسهم فيه بالفعل وبالرأي وبالعمل حسب ما يستطيع، والمشاركة في حد ذاتها هنا تساوي أنه لم يصبح مجرد فرد في قطيع وإنما يصبح إنسانًا حرًا يمضي في موكب حر وليس مثل الإنسان الحر قادرًا على أن يحمي وطنه ودينه وقيمه ويقدم أنموذجًا مهمًا، ويجب العلم أن هناك فارقًا هائلًا بين مفكر يعيش في شعب يتمتع بمعنويات عالية وآخر عكس ذلك؛ فالأول أكثر قدرة على الإنجاز ويستخرج من الشعب أفضل ما فيه ويستطيع أن يدافع وأن يقوم بواجبه وأن ينال الاحترام، ولن يتحقق ذلك إلا بمفكر يعرف الأرض التي يقف عليها، وهذا هو الأمن الحقيقي، ولكن للأسف الشديد كل هذه الأمور لا تمارس عندنا في العالم العربي والإسلامي بصورة متكاملة ولكن هناك درجات متفاوتة من الممارسة وليس هناك أنموذج متكامل، وهناك كثير من المشروعات الفكرية العربية، التي كان من الممكن أن تكون بناءً جيدًا لتحقيق النهضة، ولكن تم إجهاض بعضها وكثير منها ظل حبيس الأدراج.
في عالم السياسة هناك تعبير فني معروف يستخدم أيضًا أحيانًا في قضايا عسكرية وهو إعداد المسرح أو بناء الصورة، بمعنى آخر أنك اليوم تتعامل مع العالم الخارجي فما هي صورتك أمام هذا العالم وكيف يمكن أن تبني عليها، وللأسف أن صورة العالم الإسلامي هي صورة نمطية من التخلف والفقر والجمود الفكري، وللأسف الشديد كثير من المفكرين العرب اليوم أصبحوا يتخلون عن ميراثهم الثقافي والفكري العربي والإسلامي ويحاولون نقل التجربة الغربية كاملة بكل مزاياها وعيوبها، بل هناك شيء أخطر وغير مقبول وله تراكمات تاريخية وهو أن البعض أصبح يدعي كذبًا وكما لو كان الإسلام سببًا في هذا التخلف، وللأسف أنه قد استخدمت منصات إسلامية، وبخاصة خلال الفترة الأخيرة ومازال بعضها قائمًا الآن تحت مسمى الإرهاب ومحاربة الإرهاب وبين قوسين نقول إنه بالطبع نحن ضد الإرهاب، الذي نؤكد أنه وجد خلال السنوات الأخيرة لتدمير المسلمين، ولكن أعود فأقول أنه استخدم لزيادة الإساءة إلى هذه الصورة وعلينا أن نطرح طرحًا آخر يساوي ترجمة واعية لما يصلح لنا، وهنا لا نستطيع أن ننكر أن هناك إنجازات فكرية يمكن الاستفادة منها وليس في ذلك عيب وأن نكون منفتحين واثقين من أنفسنا بحيث نتقبل إعمالها وبالتالي نتحرك في مسيرة الإصلاح المطلوب ليس إرضاءً للآخر، وإنما لأننا بحاجة إلى ذلك على أرض الواقع لأن هذا هو طريق للإصلاح وللتجديد وللنهضة، ومشروع النهضة هو الذي ينبغي أن يكون الأفق الواسع أمامنا أفق إصلاحي تجديدي وليس تراجعيا أو نمطيا أو مجرد لاسترجاع للتاريخ أو اجترار للماضي، وإن قضية التوازن هنا والوعي بالدائرة العالمية والدائرة الإسلامية أمر في غاية الأهمية، وأيضًا قضية النضج والخروج من دوائر التخلف السياسي والاقتصادي والمعرفي هو تحد أساسي أمام العرب والمسلمين، وهذه الأمور هي التي توجد المسلم الذي يعرف الأرض التي يقف عليها وهي أرض صلبة ويتوازن فوقها ويحيا ويتعايش ويحترم الناس ويحترمونه وهو أمر مطلوب تمامًا في هذا العصر الذي نعيش فيه.
• مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق
***********************
فاعلية الفكر العربي المعاصر: أركون أنموذجًا
عبدالله بن إبراهيم العسكر
قابلت في مطار هيثرو بلندن الدكتور نصر حامد أبوزيد (10 /يوليو/ 1943 – 5/ يوليو/ 2010) بعد سنة من مغادرته مصر ليعيش في المنفى (هولندا) مع زوجته الدكتورة ابتهال يونس. وكان كل منا لديه ثلاث ساعات انتظار، ثم يتجه أحدنا إلى أمريكا، والآخر إلى الشرق الأوسط. وقد اهتبلت وقت الانتظار، وكان الدكتور أبوزيد لا يزال يشعر بمرارة واضحة مما تعرض له في مصر، وهو قال لي إن أربعة نفر تولوا كِبر ما حصل له وهم: عبدالصبور شاهين ومحمد بلتاجي وأحمد هيكل وإسماعيل سالم. ولما سألته عن مدى تصميمه على تطبيق منهج الهرمنيوطيقا على النصوص الدينية خصوصًا القرآن، وهو المنهج الذي ثوّر عليه كثير من علماء مصر، وبسببه صدر حكم الردة. قال: إنه لا يجد غضاضة في ذلك. وهو قال: إن القضية الأساسية التي تتناولها نظرية الهرمنيوطيقا بالدرس هي معضلة تفسير النص بشكل عام، سواء كان هذا النص تاريخيًا أم دينيًا. ولما سألته عن رأيه الشخصي حول فاعلية الفكر العربي المعاصر، وعن مدى استجابة المجتمع والأفراد لما طرحه هؤلاء المفكرون من مشاريع فكرية ونتاج معرفي. قال: إنه يشعر بمرارة، ويخطر بباله أننا (يقصد المفكرين العرب) نحرث في أرض سبخة. وهو قال: إن استجابة المجتمع ضعيفة.
وقال لي: إن معظم المفكرين والفلاسفة العرب تعرضوا للنفي المعنوي أو الجسدي. وهو قال: إن من لم يقتله أو ينفه قومه من الأرض، قتل نفسه. وهو قال: إنه قرأ في مجلة الرسالة التي يصدرها أحمد حسن الزيات، في احد أعدادها أن ثلاثة من كتاب الرسالة النابهين، وممن كان ينتظر لهم مستقبل حافل، أقدموا على الانتحار ليأسهم من المجتمع. وهم: فخري أبوالسعود وفيلكس فارس وإسماعيل أدهم أحمد.
ومثل قول الدكتور أبوزيد سمعته من الدكتور محسن مهدي (1924- 12/يوليو/2007) والدكتور محمد عابد الجابري (1936-2010) ولعل مصداق هذا القول أن أغلب المفكرين والنابهين من العرب لا يجدون لهم مكانًا في بلادهم، ويغادرونها إلى الغرب، حيث يعيشون في غربة قسرية. (محسن المهدي في جامعة هارفارد بأمريكا، ومحمد أركون في جامعة السربون بفرنسا وغيرهم كثير) والمشكلة المترتبة على هجرة المفكرين العرب القسرية أنهم يكتبون ويؤلفون بلغات غير عربية، مما يضاعف قلة تأثيرهم في مجتمعاتهم العربية.
ويذهب بعض المفكرين المعاصرين إلى القول إنهم يعيشون في ما يشبه الهامش الضيق في بلدانهم الأصلية. وهم لا يلاحظون أثرًا يذكر على فكر المجتمع العربي، وهم لا يرون أن المجتمع العربي قادرًا على الأخذ بمتغيرات العصر أو مساهمته في بناء الحضارة الإنسانية. هذا القول سمعته منسوبًا إلى الدكتور إدوارد سعيد الفلسطيني الأصل، الذي عمل أستاذًا للأدب الإنجليزي في جامعة ييل الأمريكية.
أما تجربة المفكر الجزائري الدكتور محمد أركون المتخصص في شؤون الدراسات التراثية في ميدان التاريخ والإسلاميات فهي تجربة تشي بأسى كثير. ولد الدكتور أركون عام 1928 في بلدة تاوريرت ميمون (آث يني) بمنطقة القبائل الكبرى الأمازيغية بالجزائر، وانتقل مع عائلته إلى بلدة عين الأربعاء (ولاية عين تموشنت) حيث درس الابتدائية، ثم واصل دراسته الثانوية في وهران، ثم تخرج في جامعة الجزائر. ثم أكمل دراسته العليا في جامعة السربون الفرنسية. ثم اهتم بفكر المؤرخ والفيلسوف ابن مسكويه الذي كان موضوع أطروحته.
عُين محمد أركون أستاذا لتاريخ الفكر الإسلامي والفلسفة في جامعة السربون عام 1980 بعد حصوله على درجة دكتوراة في الفلسفة منها، وعمل كباحث في جامعة برلين عام 1986- 1987. وشغل منذ العام 1993 منصب عضو في مجلس إدارة معهد الدراسات الإسلامية في لندن.
تكمن أهمية المفكر الجزائري محمد أركون في قراءته المختلفة للفكر الإسلامي وتاريخه، وهو يختلف عن المستشرقين الأوروبيين، الذين كانوا يعتمدون المنهج الفيلولوجي عند دراسة التراث والفكر الإسلاميين. ولعل هذا ما دفع أركون إلى تأسيس ما سماه بالإسلاميات التطبيقية.
ينتقد أركون الرؤية السائدة في الغرب التي تختزل العالم الإسلامي في مقولة واحدة وهي: التطرف والتزمت. ويعترف أركون أن المثقف العربي لم يتمكن من الاضطلاع بدوره الطليعي داخل المجال العربي (الشكوى نفسها يرددها معظم المفكرين العرب) ليس لأنه لم يكن عارفًا أو مدركًا لدوره التنويري، ولكن لأن المجال العربي محكوم بتراتبية متحجرة، لا مكان فيها للمثقف الليبرالي إلا في مواقع تكنوقراطية أو مواقع خدمية في بلاط السلطة السياسة. ويرى أركون أن دور المثقف التنويري أخذه الفقيه، بل إن المؤسسة الدينية تحتكر الفضاء المجتمعي العربي. ويصل أركون إلى نتيجة تقتله على حد تعبيره. وهي: غياب المفكر العربي داخل مجتمعه، باعتبار أن هذا المجتمع أضحى مجالًا محكومًا بحقائق ثابتة وسلطة مطلقة لا تؤبد غير الخضوع، ولا ترضى لغير أنموذج الشيخ والمريد.
في كتابه "الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد" سجل محمد أركون تصوره عن المفكر ودوره ورسالته. وهو قال: إن المفكر هو الرجل الذي يتمتع بروح مستقلة، محبة للاستكشاف والتحري، وذات نزعة نقدية واحتجاجية. وهو أورد أمثلة مثل: الجاحظ والتوحيدي والكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد. وهو قال: إن مصيرهم لا يختلف عن مصير أمثالهم من العرب المعاصرين. ويعزوا فشل المفكرين إلى سيادة النظرة الرجعية وتجذرها في المجتمعات العربية.
ويذهب الدكتور محمد أركون إلى أن ظهور مفكرين عرب نقديين، تلقوا دراساتهم في الغرب، لم يساهم في اختفاء هذه الرؤية الرجعية، وهي رؤية نافست كل الرؤى الحديثة والليبرالية، مما أدى لأرباب الرؤى الأخرى إلى العزلة الصامتة داخل مجتمعاتهم، بينما اختار آخرون الهجرة.
لما قابلت الدكتور أركون في مكتبه الصغير في جامعة السربون قال لي بأسى وحزن شديدين: منذ عهد النهضة العربية الحديثة (قال ضاحكًا اسم نهضة فقط) وحتى يومنا هذا، لم نشهد ظهور فئة من المفكرين النقديين المستقلين المؤثرين في مجتمعاتهم العربية. وهو قال: إن التراكمية والهيبة الفكرية لا تتشكل في وجود آحاد من المفكرين هنا وهناك، بل لابد من وجود سيادة فكرية عليا، أو مراجع فكرية وأخلاقية، على غرار المراجع الدينية العليا. لما سألته عن السبب. قال: لا يعود ذلك لأسباب سياسية بحتة، أو إلى التحالف القائم بين السياسة ورجال الدين وحسب، ولكن أيضًا إلى طبيعة الرؤية الدينية المحافظة. على أنه قال لي إن مشكلة العالم العربي أنه قصر ملكة العقل على خدمة الوحي، أو لتسطير حواش عقيمة على النص المؤسس.
لكن على الرغم من الأسى الواضح في كتابات الدكتور أركون فإنه يرى أن سطوة السياج الدوغمائي المغلق، لم تقف حجرة عثرة في طريق ظهور حركة أنسنة عربية، ولم تقف حجر عثرة في طريق ظهور مثقف عربي نقدي منفتح، مقبل على الثقافات الأخرى، ومقبل على التعلم منها، وتوسيع آفاقها داخل المجال الثقافي العربي. لكن هذا كله نقط صغيرة في بحر لجي. ورأيت الدكتور أركون يردد مقولة: الجاحظ والتوحيدي كانا أكثر حداثة من عديد من المثقفين العرب اليوم.
وكنت بحكم التخصص أحاول أن التقط أهم المفاصل الفكرية التاريخية في كتابات أركون، ووجدته في معظم كتبه يركز على دعوى كبيرة، أزعم أنه أول من قال بها صراحة ودون مواربة. وهي دعوته إلى إعادة النظر في المغامرة التاريخية التي كرست في الغرب نهاية النظام الديني. نعم أركون لا يقف أمام العلمانية موقف المؤيد غير المفكر. وهو لا يسعى كما يظن بعض من كتب عن سيرته الفكرية، إلى بخس العلمانية دورها التاريخي، والتي جاءت لتضع حدا للحروب الدينية. إنه يدعو إلى الانفتاح على صيغة جديدة للعلاقة بين الدين والدولة، أو إلى علمنة جديدة لا تتكلس في مقولاتها الرافضة للدين باسم الحيادية والموضوعية، حتى أصبحت درس الأديان محرمة في المدارس، وأضحى الناس أميين بكل ما يخص الخطاب الديني. ولهذا يفرق أركون بين الفكر العلمانوي أو اليعقوبي المتطرف في رفضه للدين والفكر العلماني المنفتح على أقاليم التفكير الأخرى.
وقد سمعته مرة يتحدث في قناة عربية أُنسيت الآن اسمها وتاريخ المقابلة. وهو قال على إجابة محاورة ما معناه: إن الفكر العلماني المنفتح يصلح للعرب والمسلمين. لكن المشكلة أن العرب والمسلمين يرفضونه. بسبب أنهم لا يفرقون بين مستويين من العلمانية. وهما: العلمانوية والعلمانية. الأولى متطرفة ومتشنجة ورافضة للآخر. والثانية منفتحة قابلة للآخر. وحاولت أن أطبق هذا المفهوم على بعض موضوعات تاريخنا الإسلامي فعجزت. وكنت أرغب أن ألقاه لأعرض له هذه المشكلة. ولكن الموت كان أسرع.
على أنني أدرك من تتبع تجليات أركون الفكرية أن لديه مشكلة لم يتوصل إلى حلها وهي كامنة في تقسيمة للعلمانية. ذلك أن المشكلة الفلسفية التي تواجه فكر النهضة العربية الحديث، تكمن هي أيضًا في مشكلة العلاقة بين العلمانية والنظرة الإسلامية التقليدية، لهذا كله نجد أن المفكر العربي يقف حائرًا عاجزًا عن تأسيس قاعدة صلبة من الفكر الحداثي التنويري، إلاّ ويصطدم بمعارضة شعبية واسعة. لهذا لا يكون أمامه إلاّ خياران أحلاهما مر. الغربة الداخلية أو الغربة الخارجية.
انتقل الدكتور أركون إلى الرفيق الأعلى مؤخرًا في باريس (14 سبتمبر 2010) التي عمل فيها مدة طويلة من حياته، وأتاحت له باريس المناخ العلمي والمعرفي لتأليف عشرات الكتب بالفرنسية والإنجليزية، في مجال نقد العقل العربي الديني ممثلًا بالعقل الإسلامي. وهو عاش ومات وأسف يلفه ويحزنه. وكنت قرأت محاورة معه أجراها: أحمد علي الزين. وهو قال لأركون: صرمت من عمرك سنوات في البحث وفي الدراسات الإسلامية، مدفوعًا بهاجس أو بهمّ التنوير وبهمّ التحديث وبهم القراءة العقلانية للنص التراثي وفق معايير التاريخ ومعايير اللغة ومعايير علم الاجتماع، فلم هذا الإصرار دائمًا على إعادة قراءة التراث والتاريخ الإسلاميين.
يقول أركون يوجد في تاريخ المسلمين حقبة يدعونها الحقبة الذهبية تبدأ من القرن السابع وتنتهي في القرن الثالث عشر الميلاديين. وهو يقول: إن تلك الحقبة غابت أو غُيبت عن التداول نهائيًا. وهناك مدارس هُمشّت وأخرى قُمعت وهذا ما أدى إلى غياب المفهوم الأساسي للفكر، مفهوم قائم على المناظرة الحرة التي تحرِّض العقل على الإبداع، وفي الوقت الذي اجتهد الغرب في تخليص العقل الفلسفي من الفكر اللاهوتي، وذهب إلى إبداعات فكرية أسست لمجتمعات حرة.
نجد المجتمع العربي يشتغل بضغوط القوى التاريخية والقوة الاقتصادية والقوة السياسية، وكلها ضغوط أثرت على بنية العقل العربي المعاصر، وخاصة في النصف الأخير من القرن العشرين، وهو نصف الحروب من أجل الاستقلال وبناء الدولة. ونتج عن هذا أن اشتغل العرب بالخطاب الأيدلوجي من أجل بناء الأمة والرد على الغرب، الذي ما زال حتى بعد الاستقلال يفرض سلطته الاقتصادية، وسلطته الفكرية، إذًا لم نعتني بتشجيع وبتكوين القاعدة العلمية الصحيحة ليتحرر العقل، ليس فقط من ضغوط الدين عليه، ولكن من ضغوط الدواعي والعوامل التي ذكرتها.
شغل محمد أركون نفسه بقراءة التراث العربي وغربلته، وفق قراءة مستفيدة من العلوم الحديثة. وهو يعترف بصعوبة التواصل مع الجمهور العربي والإسلامي العريض، حيث هناك عقبات راسخة في العقول لا تسمح بالتواصل، وكما يقول كستون بشلاخ "المعرفة الصحيحة لا يمكن أن تنهض إلا على أنقاض المعرفة الخاطئة". ويضيف أركون إن هناك خطًا أحمر موجودًا ويؤثر على جميع المواطنين العرب. وهو يقول إنه يسعى إلى أن ينطلق العقل العربي من الممارسة التقليدية التي يعيش فيها، والتي تزيده تقهقرًا.
نصل إلى نتيجة حتمية مفادها أن تأثير المفكرين العرب وفاعليتهم في مجتمعاتهم صغير مقارنة بقاماتهم العلمية. والسؤال هل الأمر لا زال كما هو. ولمحاولة إجابة هذا السؤال حاولت ما وسعنتني المحاولة سبر غور بعض مفكرينا الأحياء مثل: محمد جابر الأنصاري، وعبدالله العروي، وهشام جعيط، ومحمد شحرور، وحسن حنفي، والصادق النيهوم، ومحمد عمارة، وعلي حرب، ورضوان السيد، والسيد ولد أباه، وصادق جلال العظم، وعلي مبروك، وطه عبدالرحمن وإبراهيم البليهي. بعضهم أعرفه معرفة قريبة، وآخرون قرأت لهم. والصدق أن معظمهم يقول بتواضع فاعلية الفكر العربي المعاصر، وتواضع استجابة المجتمع والأفراد لطروحاتهم الفكرية التنويرية، وتواضع تأثير أفكارهم ورؤاهم في مجتمعاتهم التي يعيشون فيها. وكل لديه سبب وآخر. على أن الإجماع دون التطرق للأسباب هو: أنهم يعيشون في غربة داخل مجتمعاتهم العربية، وأن التأثير شبه ميئوس منه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.