توقف الخدمات الصحية في أكبر مستشفيات جنوب غزة    لندن: تقديم رجل مسن للمحاكمة بتهمة مساعدة روسيا    هزة أرضية بقوة 3.9 درجات تضرب نيو ساوث ويلز الأسترالية    مواجهة الهلال والوحدة بين الطائف والرياض    البليهي: تبقى لنا مباراة لإنهاء الدوري بلا هزيمة    الأهلي يتعادل سلبياً مع الرائد في دوري روشن    الفتح يتغلب على الحزم بهدفين في دوري روشن    الاتحاد يتغلب على ضمك برباعية في دوري روشن    مصدر هلالي ل "الرياض": إصابة مالكوم غير مقلقة    حظي عجاجه والحبايب (قراطيس) !    هل بقيت جدوى لشركات العلاقات العامة؟    نمو الجولات السياحية ودعم الاقتصاد الوطني    «الحونشي»    الدكتوراه لفيصل آل مثاعي    القمر يقترن ب «قلب العقرب» العملاق في سماء رفحاء    «الثقافة» و«التعليم» تحتفيان بالإدارات التعليمية بمختلف المناطق    سفارة المملكة في إيرلندا تحتفي بتخرج الطلبة المبتعثين لعام 2024    الاستثمار الثقافي والأندية الأدبية    د. رائد الحارثي: الذكاء الاصطناعي هو الحل للجدولة    "منشآت" تختتم أسبوع التمويل بمناقشة الفرص والحلول التمويلية لروّاد الأعمال    جدول ترتيب الدوري السعودي بعد نهاية الجولة 33    تنوع أحيائي    مشروعات عصرية    مجدٌ يعانق النجوم    ثانوية السروات تحتفي بتخريج الدفعة الأولى من نظام المسارات    نزاهة: حادثة التسمم الغذائي بأحد مطاعم الرياض لن تمضي دون محاسبة    إثراء يختتم قمة الاتزان الرقمي "سينك" بنسختها الثانية    فيصل بن خالد يرأس اجتماع الجهات الأمنية والخدمية المشاركة في منفذ جديدة عرعر    فيلم "نورة"يعرض رسميا في مهرجان كان السينمائي 2024    فرع وزارة الشؤون الإسلامية بالمنطقة الشرقية يكرم موظف سوداني    انطلاق الهايكنج في الحريق    مستشفى أبها للولادة والأطفال يُنظّم فعالية "اليوم العالمي للربو"    مستشفى الحرجة يُنظّم فعالية "التوعية عن ارتفاع ضغط الدم"    القبض على وافد بتأشيرة زيارة لترويجه حملات حج وهمية ومضللة    علامة HONOR تكشف عن بنية الذكاء الاصطناعي المكونة من 4 مستويات وتمضي قدماً مع Google Cloud من أجل مزيد من تجارب الذكاء الاصطناعي في VivaTech 2024    الداخلية: دخول مكة والبقاء فيها ممنوعان للزائرين    بن زقر يسلّم أوراق اعتماده لإمبراطور اليابان    دفعة جديدة من العسكريين إلى ميادين الشرف    السعودية تدعم عمليات الإنزال الجوي الأردني لإغاثة الفلسطينيين في غزة عبر مركز الملك سلمان للإغاثة    إصدار 54 ترخيصاً صناعياً جديداً خلال مارس 2024    أمير حائل يشكر جامعة الأمير محمد بن فهد    السعودية تفوز بعضوية مجلس منتدى النقل الدولي ITF    رفع كسوة الكعبة المشرَّفة للحفاظ على نظافتها وسلامتها.. وفق خطة موسم الحج    أدبي الطائف يقيم الأمسية السودانية ضمن لياليه العربية    تمكين المرأة.. وهِمة طويق    برعاية وزير الداخلية.. تخريج 142 مجندة من الدورة التأهيلية    جنة الأطفال منازلهم    معرض «لا حج بلا تصريح» بالمدينة المنورة    آل مجرشي وآل البركاتي يزفون فيصل لعش الزوجية    الخريجي يقدم العزاء بمقر سفارة إيران    الاستعداد النفسي أولى الخطوات.. روحانية رحلة الحج تبعد هموم الحياة    توريد 300 طن زمزم يومياً للمسجد النبوي    الأمير سعود بن مشعل ترأس الاجتماع.. «الحج المركزية» تستعرض الخطط التشغيلية    دشن هوية «سلامة» المطورة وخدمات إلكترونية.. الأمير عبدالعزيز بن سعود يتفقد سير العمل في الدفاع المدني    الكاتب العقيلي يحتفل بتخرج إبنه محمد    "أبرار" تروي تحديات تجربتها ومشوار الكتابة الأدبية    استشاري: حج الحوامل يتوقف على قرار الطبيب    جناح الذبابة يعالج عيوب خلقية بشرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هذا ما فعله «البؤس القومي» ببلد اسمه سورية
نشر في الحياة يوم 22 - 11 - 2014

ما يجري في سورية يبدو تراجيدياً بالنسبة إلى بعثييها الذين حكموا البلد سنوات، فكيف لهم أن يتخيلوا عبور قوات مسلحة كردية عراقية بعتادها الكامل الأراضي التركية لتذهب إلى مدينة كوباني الكردية السورية، وتدافع عن الأكراد المحاصرين هناك؛ ولا تستطيع قيادة الحزب القومي –البعث السوري- أن تحرك ساكناً، سوى أن بعض التعليقات الخجولة.
قبل نصف قرن بالضبط، كاد هذا المشهد أن يكون معكوسا تماما. كان الانقلاب البعثي الثاني قد حدث في سوري وقتها، بعد شهر واحد بالضبط من نظيره العراقي، الذي حدث في شباط (فبراير) 1963. كانت القيادة القومية لحزب البعث موحدة وقتئذ، وكانت الرومانسية القومية ممزوجة بروح «ثورية» عنفية طافحة. لم يرَ البعثيون الأوائل أنسب من حركة التمرد القومية الكردية في كردستان العراق لمواجهتها، إظهاراً لوحدة الحال القومية. أرسل البعثيون السوريون ألوية مسلحة من الجيش السوري بقيادة اللواء فهد الشاعر، ودك الطيران السوري مواقع الثوار الأكراد بقيادة الملا مصطفى بارزاني. لم تمض سوى شهور قليلة حتى انقلب عبد السلام عارف على رفاقه البعثيين العراقيين وعاد الآلاف من الجنود السوريين مقطعي الأوصال من هناك، وعلى عداء كامل للنظام الحاكم في العراق، الذي قفز إلى الضفة الناصرية، المعادية بدورها للنظام البعثي في دمشق.
حين فشل البعثيون السوريون في تسطير «صفاء قومي» مع نظرائهم البعثيين العراقيين، التفتوا إلى الداخل السوري لفعل ذلك، وبدأوا بالقضاء على شركائهم القوميين الناصريين. فقد كان الانقلاب البعثي في ربيع عام 1963 نتيجة شراكة بين الناصريين والبعثيين السوريين لإنهاء ما سمّي»حُكم الانفصال». قضوا على جاسم علوان وباقي الضباط الناصريين الذين معه، وكان ذلك افتتاحاً لعصر قانون الطوارئ الذي دام نصف قرن كامل وصحّر البلاد كلها.
بالتقادم، وبعد سنوات قليلة، باتت تلك القوموية البعثية الطافحة غشاء لتصارع طائفي عنيف بين أجنحة البعث الحاكم نفسه؛ قضى الجناح العسكري على نظيره المدني، وبطش الجناح «العلوي» بنظيره «السُني». فاض الريف السوري على مدنه التاريخية من دون ترتيبات هيكلية أو اقتصادية، وتكرست الزعامة المطلقة لشخص حافظ الأسد. وفي الطريق إلى ذلك، خسرت سورية كل موجهاتها المسلحة مع إسرائيل وفقدت أهم وأخصب هضابها في الجنوب، وتنازلت في ما بعد بشكل غير رسمي عن أراضيها في لواء الإسكندرون.
بدأ البعثيون «نهج المجازر» بالهجوم على المتظاهرين المدنيين في جامع السلطان في حماة عام 1964، ولم تتوقف مجازرهم الصغيرة حتى بداية الثورة السورية الحديثة، مروراً بما فعلوا طوال سنوات في حماة وجسر الشغور وسجن تدمر ومدينة القامشلي. أرهبوا مجتمعاً كاملاً، كمموا كل الحساسيات السياسية السورية، الليبرالية واليسارية والبورجوازية والقومية السورية والوسطية الدينية؛ روضوا وأفسدوا الجو الثقافي والنُخب البيروقراطية والمالية والتجارية؛ سمحوا لعمران العشوائيات بأن يطفح على بهاء المدن، وأجبروا ملايين السوريين بأن يفروا من بلادهم. في المحصلة، تحول الكيان السوري إلى حطام مثقل بكل شيء، طافح بالمعضلات البنيوية العويصة، ونظام أمني فظيع، يوزع أعماله التخريبية على كل جيرانه، ويفيض. نظام مستعد للتخلي عن كل شيء، حتى عن السيادة الوطنية والتراب الوطني، فقط لتبقى النواة الصلبة للنظام سالمة.
لم تكن النزعة القومية العربية، بأدبياتها وخطابها البعثي شبه الفاشي، في معزل عن كل ذلك طوال تلك السنين. فهي كانت على الدوام تمارس ديناميات متراكبة:
كانت القومية رؤية كلانية ترى المجتمع ككتلة هلامية متصالحة ومتطابقة. فبحسب المخيلة القومية هذه، ينتمي كل الأفراد للذات والشخصية والهوية نفسها، وبالتالي للأهداف والميول والرغبات ذاتها. وهذا بالضبط هو الدافع التأسيسي لرفض ونبذ أية حساسيات ونزعات مناهضة ل «الرؤية الكلية» المتوهَمة.
من جهة أخرى، القومية نزعة فوقية معبأة بالغرور والثقة بالذات، نزعة تاريخانية ترى في القادم من الزمان ما يحقق رؤيتها وأهدافها من دون أي شك. لذا فهي لا تبالي بالتفاصيل والمعضلات والآلام الموضوعية، فكل شيء يمكن تحمله واستمراؤه وعبوره، لأنه في المحصلة ما هو «نبيل» و»أعلى» يمكن تحقيقه. ذلك أن النظرية القومية تستطيع أن تتجاوز وتقبل ما يصيب مجتمعاتها وجغرافيها، حتى لو باتت حطاماً.
أخيراً، فإن القومية العربية، حين تراكبت مع حالة الكيان السوري وموقعه، فإنها تحولت إلى مرجل للعدوانية المستمرة من دون هوادة. لأن من المستحيل أن تتصالح مع حركة التاريخ وأن تقبل بحل موضوعي غير «مثالي» للقضية الإسرائيلية-العربية من جهة؛ ومن المستحيل أيضاً أن تعترف بالسرديات والوجود الفعلي لغير العرب في هذه الكيانات الحديثة، لذا فإنها ستبقى في صدام دائم ومفتوح.
في البال أمران ملحان: بعد كل هذا الخراب العميق الذي أصاب المجتمع والجغرافيا السوريين، ثمة من يعتبر بأن المعضلة ليست في النظرية أو الخطاب القومي البعثي، بل في جوهر النظام السوري نفسه، من دون أي وعي بأن الأمور متراكبة، وأن النظام السوري ما كان له أن يصل إلى هذه الحال لولا ذلك التأسيس النظري والخطابي في تلك النظرية ونزعاتها. الأمر الآخر يتعلق بجماعات وتكوينات مجتمعية سورية أخرى غير عربية، تريد من جديد أن تعيد لوك كل البؤس القومي، وكأن شيئاً من أوجاع ذوي القوميات الأخرى لم يطلها!
* كاتب سوري


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.