ما بين عصرنا الذي نحايثه وعهد النبي عليه الصلاة والسلام قرون متطاولة كانت كفيلة بحلحلة وتغيير معالم ورسوم الإسلام الأول (إسلام النص/ الله/ النبي)، ما بين ذاك العهد القديم وعهدنا ثمة إسلامات أنتجت تحت ظروف وعوامل تاريخية، بقي منها ما بقي وتهدم منها ما تهدم. لو عدنا لتوصيف واستشراف إسلام عصر الرسالة (عصر النبي) والعصر الذهبي، (عصر الصحابة... مرحلة الخلافة وما بعدها) ثم مرحلة ما بعد الصحابة حتى عصرنا، لوجدنا أننا أمام أطباق (أطوار) عدة، والتي في صميمها تحكي فهوم وتحولات فارقة عدة في تجربتنا الروحية. الأول: طور الرسالة المتمثل بالذات المقدسة العظيمة (محمد عليه الصلاة والسلام)، المرحلة التي كانت فيها السماء على تواصل مع الأرض (فيوضات الوحي الإلهي) حيث المشرع لا يزال يعيش بين الناس، يحكمهم ويفصل بينهم ويرجعون إليه ليقطع لهم بالتشريع والأحكام التي لا تحتمل غير الصوابية، حيث الوحي يتتابع في استكمال تنزلاته لرسالة الخلود (الإسلام).كان الناس في عصر الرسالة يتماسون مع رسول السماء ويأخذون منه كفاحاً، ما جعل نزعة الخلاف والاختلاف والصراع على الدلالات قصية عن الناس والدين، ذلك أن من يمتلك توجيه الحقيقة ومعينها المقدس بين ظهراني أتباع الدين الجديد... ما يعني أن عصر الرسالة عصر الصفاء والنقاء والطهر الديني، كما هو أعظم لحظات التجربة الروحية الإسلامية ومعينها الأزلي. الثاني: طور الخليفتين الكريمين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، الذي قارب أن يتماهى مع مشكاة النبوة اتساءً وشارفها طهراً واستكملها جهاداً وتثبيتاً لأركان الدولة الفتية... كان هذا الطور مماهياً لعهد النبي من حيث تواضع الناس على متابعة المقدس، وسخونة الإيمان، وعدم التخوض في المدنس الدنيوي، والبعد عن السجالات الجدلية والوصولية. العهد الثالث: عهد عثمان الخليفة الثالث رضي الله عنه، الذي كان عهد التحول عن شرعة ومنهاج من سبقوه من ناحية تحوله عن العمومية إلى الخصوصية القبلية المتمثلة بتمكن أو تمكين القبيلة (الأموية) قبيلة الخليفة الثالث من حيث يدري أو لا يدري رضي الله عنه، حيث انحرفت طريقة الخلافة وتشكلت شآبيب الفتنة والخلاف الأزلي في الأمة التي كان ضحيتها الخليفة الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، حيث تورط في دم من سبقه من دون ذنب إلا أن يكون ضحية مؤامرة وانقلاب قبلي من لدن بني أمية ومن شايعهم من القبائل مستثمرين دم ابن قبيلتهم عثمان رضي الله عنه لصعود عتبات السلطة، ليظل علي رضي الله عنه في سجال انتهى بالانقلاب عليه في جزء من أراضي الخلافة ومن ثم مقتله... ومن لحظة مقتله دخل الإسلام في لحظات فارقة عن الإسلام الأول، لحظات انفتاح الإسلام على فضاءات الغيبة والتيه والشتات، ما مهد لتخلق إسلامات وترجمات متضادة لمرحلة التنابذ في ما بينها والتزاحم في دعوى تمثيل الإسلام وتكفير ما عداها أحياناً... ما أدرج نحوه وأتجه إليه في موضوعي هو الدعوة إلى الارتفاع عن دعاوى وتهويمات التماس والتماهي بالإسلام الأول كما يحدث من عامة النِّحل والملليات الإسلامية، وحتمية الشجاعة والصدقية من قبل المتمكنين في العود نحو مراجعة حاضر الإسلام ومدى مقاربته للإسلام القديم، ومدى اتساق الإسلاميين من خلال الآليات المعرفية التي تعتمد العقل العلمي الجريء تحرياً واستدعاءً لماهية وكنه الإسلام النقي (إسلام ما قبل المزاودات المحاكاتية السياسية والمذاهبية)، ولن يكون ذلك إلا عن طريق اختراق طبقات التاريخ وعزل القدسي عن البشري من دون توجس من ضمير المؤمنين التقليديين المحاطين بسياج اليقينية المدرسية، ذلك أن الوعي التقليدي لا يعي عن الدين إلا ما درج عليه، معتبراً أي قراءة للدين محض تحريف وتبديل بحكم توارثهم للدين بوصفه مقدساً لا يجوز المساس بأيٍ من أطرافه، وذلك ما يكرسه سدنة رأس المال الديني ومسيّرو شؤون المقدس الذين سيفقدون امتيازاتهم فيما لو تم تشريح الموروث الديني السائد. وتقريباً لمشهد مقاربة إسلامات اليوم وإسلام عصر الرسالة وكيف يمكن تحوير الدين وتحريفه/ لو عاد بالذاكرة غير بعيد من عايش إسلام ما قبل الصحوة وإسلام الصحوة، لأدرك حجم التبديل والتحوير غير المتناهي في ماهية الدين... وذلك الفرق حدث مع قرب المسافة الزمنية وفي بيئة ليست طارئة على الدين. الحصاد: الاستسلام لمسيّري شؤون المقدس الديني باعتبارهم قدوة وأنهم أعلم وأحكم بغور الدين، سيكرس الأغلال والآصار التي أضافتها الرؤى البشرية المنقوصة عبر التاريخ.... إشكال التبديل في الدين يكمن حيث تحول الدين لعلاقة طقسية بين الخالق والمخلوق، علاقة حركية اعتيادية تكرارية جافة مفرغة من العلاقة المتعالية (العلاقة الروحية الشفافة مع الذات المقدسة). * كاتب سعودي. [email protected] abdlahneghemshy@