عرف التاريخ الإسلامي مفكرين وفلاسفة جغرافيين اهتموا بموضوعة المناخ وتأثيره في سلوك وطبيعة البشر. ويستند هذا الاهتمام إلى مرجعية دينية وأخرى دنيوية. فبالنسبة للمرجعية الدينية، فالدين الإسلامي يحث المسلمين على «التفكر في خلق السموات والأرض» والنظر إلى الكون واختلاف المناخ على أساس أنه دليل على عظمة الخالق. ففي القرآن الكريم توجد آيات كثيرة تتحدث عن الكون وعن النجوم والنباتات والأحوال الجوية. وتضم هذه الآيات دعوات صريحة للمسلم للاهتمام بالطبيعة والمناخ والطقس. ومن بين الكتب التي عالجت موضوع المناخ من منظور ديني في إطار مبحث «الإعجاز العلمي في القرآن»، نجد على سبيل الذكر لا الحصر، عبد العليم خضر في كتابه «الظواهر الجغرافية بين العلم والقرآن ظاهرة المطر كما وردت في القرآن» الصادر عام 1987م، وحسن أبو العينين 1996م في كتابه «من الإعجاز العلمي في القرآن الكريم في ضوء الدراسات الجغرافية الفلكية والطبيعية»، الصادر عام 1996م. وأما السبب الدنيوي وراء الاهتمام بموضوع المناخ بشكل خاص وبالجغرافية بشكل عام فيتجلى في امتهان المسلمين التجارة بحراً وبراً حيث كانوا يجوبون الصحارى والبحار البعيدة وهو ما دفعهم إلى الاهتمام بأحوال المناخ واستثمار تلك المعارف مهنياً كما فعل الرحالة ابن بطوطة وغيره. وألف المفكرون المسلمون كتباً تتحدث عن الجغرافية العالمية والإقليمية وعن أنواع المناخ والأحوال الجوية. وتندرج تلك الكتب في غالبيتها في إطار الجغرافية الاستطلاعية لاعتمادها على الوصف فقط، إذ يغيب عنها عنصر التحليل وربط المناخ بالأحوال البشرية كما سيحدث لاحقاً مع بعض المفكرين. أبو إسحاق الزجّاج قبل المفكرين البارزين في مجال تأثير المناخ في الثقافة والسلوك البشري ابن خلدون والمسعودي سبق للأديب العربي من العصر العباسي الجاحظ الإشارة إلى تحليل لأبي اسحاق الزجاج يربط فيه الظاهرة الشعرية عند العرب بالمناخ الصحراوي الذي يعيشون فيه. وكتب الجاحظ في كتاب الحيوان (طبعة دار صعب ط3 1982، م2، ج6، ص 474 - 476): «وكان أبو إسحاق يقول في الذي تذكر الأعراب من عزيف الجنان، وتغول الغيلان: أصل هذا الأمر وابتداؤه، أن القوم لما نزلوا بلاد الوحش، عملت فيهم الوحشة، ومن انفرد وطال مقامه في البلاد والخلاء، والبعد من الإنس - استوحش، ولا سيما مع قلة الأشغال والمذاكرين. والوحدة لا تقطع أيامهم إلا بالمنى أو بالتفكير، والفكر ربما كان من أسباب الوسوسة.... وإذا استوحش الإنسان تمثل له الشيء الصغير في صورة الكبير، وارتاب، وتفرق ذهنه، وانتقضت أخلاطه، فرأى ما لا يرى، وسمع ما لا يسمع، وتوهم على الشيء اليسير الحقير، أنه عظيم جليل. ثم جعلوا ما تصور لهم من ذلك شعراً تناشدوه، وأحاديث توارثوها فازدادوا بذلك إيماناً». وينظر أبو إسحاق الزجّاج إلى الظاهرة الشعرية كنتاج للبيئة الوحشية والخلاء التي أدخلت «الوسواس» إلى عقول ساكني هذه المناطق ودفعتهم إلى إلقاء شعر مليء بالاستعارات والصور الشعرية والخيال واختلاق الأحداث والقصص. ويضيف أبو إسحاق الزجّاج أن تلك الظاهرة يتم توارثها من جيل إلى آخر بين سكان تلك البيئة. لكن أبناء تلك البيئة يحبذون اختلاق القصص ويقدرون من كان خياله/ كذبه أوسع: «ونشأ عليه الناشئ، وربي به الطفل، فصار أحدهم حين يتوسط الفيافي، وتشتمل عليه الغيطان في الليالي الحنادس - فعند أول وحشة وفزعة، وعند صياح بوم ومجاوبة صدى، وقد رأى كل باطل، وتوهم كل زور، وربما كان في أصل الخلق والطبيعة كذاباً نفاجاً، وصاحب تشنيع وتهويل، فيقول في ذلك من الشعر على حسب هذه الصفة... وما زادهم في هذا الباب، وأغراهم به، ومد لهم فيه، أنهم ليس يلقون بهذه الأشعار وبهذه الأخبار إلا أعرابياً مثلهم، وإلا عامياً لم يأخذ نفسه قط بتمييز ما يستوجب التكذيب والتصديق، أو الشك، ولم يسلك سبيل التوقف والتثبت في هذه الأجناس قط، وإما أن يلقوا راوية شعر، أو صاحب خبر». تأثر المفكرين المسلمين بنظريات المناخ من بين المفكرين الذين تناولوا موضوع المناخ تناولاً تحليلياً نجد المسعودي 896 - 957 م في كتابيه «مروج الذهب» و «التنبيه والإشراف» إذ عالج فيهما تأثير المناخ في السلوكات وطبائع الشعوب. كما نجد مفكرين آخرين أشاروا إلى نفس الموضوع كإخوان الصفا (في الرسالة الثانية من الجسمانيات الطبيعيات)، القلقشندي، وابن حوقل، والمقدسي وغيرهم. ويعتبر كل من اليعقوبي والمسعودي إلى جانب العالم والمؤرخ ابن خلدون من بين السباقين إلى ربط المناخ بعادات الشعوب وتقاليدهم وطباعهم مؤسسين بذلك لنظرية الحتمية البيئية التي انطلقت بوادرها مع الفيلسوف والطبيب اليوناني أبوقراط الذي عاش بين 370 و460 قبل الميلاد في كتابه «الهواء، الماء والأقاليم». وقد أفرد اليعقوبي (توفي عام 897) كتابه «تاريخ اليعقوبي» لشرح نظريات أبو قراط في المناخ. ونقرأ في هذا الكتاب: «ثم يذكر أبقراط اختلاف صور الناس في أحوالهم واعتدال خلقهم، والسبب الذي أشبه بعضهم بعضاً، وإن ذلك باتفاق الزمان والمطالع، ويذكر حال الرجال والنساء في كثرة الأولاد وقلتهم، وما يوجب النسل ويقطعه» (صفحة 44). المسعودي خصص أبو الحسن علي بن الحسين المسعودي في كتابه «التنبيه والإشراف» حيزاً يتحدث فيه عن «الرياح الأربع ومهابها وأفعالها وتأثيراتها وما اتصل بذلك من تقريظ مصر والتنبيه على فضلها وما شرفت به على غيرها» (من الصفحة 16 إلى الصفحة 22). يرى المسعودي أن الربع الشرقي للأرض يتميز ب: «طول الأعمار، وطول مدد الملك والتذكير وعزة الأنفس وقلة كتمان السر وإظهار الأمور والمباهاة بها، وما لحق بذلك، وذلك لطباع الشمس وعلمهم الأخبار والتواريخ والسير والسياسات والنجوم». وأما أهل الربع الغربي ف»أهله أهل كتمان للسر وتدين وتأله، وكثرة انقياد إلى الآراء والنحل، وما لحق بهذه المعاني إذ كان من قسم القمر». أما أهل الربع الشمالي الذي تقل فيه الشمس ويغلب عليه البرد فطباعهم وأمزجتهم وأحوالهم تتأثر بذلك. والأكثر من هذا فعملية الفهم والإدراك وطريقة الكلام هي نتيجة حتمية لغلبة مناخ معين في هذه المناطق: «قل مزاج الحرارة فيهم فعظمت أجسامهم وجفت طبائعهم وتوعرت أخلاقهم وتبلدت أفهامهم وثقلت ألسنتهم، وابيضت ألوانهم حتى أفرطت فخرجت من البياض إلى الزرقة ورقت جلودهم وغلظت لحومهم، وازرقت أعينهم أيضاً، فلم تخرج من طبع ألوانهم وسبطت شعورهم، وصارت صهباً لغلبة البخار الرطب ولم يكن في مذاهبهم متانة. وذلك لطباع البرد وعدم الحرارة ومن كان منهم أوغل في الشمال فالغالب عليه الغباوة والجفاء والبهايمة وتزايد ذلك فيهم في الأبعد فالأبعد إلى الشمال». وفي ما يتعلق بأهل الربع الجنوبي ويقصد بهم المسعودي الزنج وسائر الأحابش فإن نوعية الرياح والهواء الموجدين عندهم تؤثر في بشرتهم وطباعهم ونفوسهم: «فاسودت ألوانهم واحمرت أعينهم وتوحشت نفوسهم وذلك لالتهاب هوائهم وإفراط الأرحام في نضجهم حتى احترقت ألوانهم وتفلفلت شعورهم لغلبة البخار الحار اليابس، وكذلك الشعور السبطة إذا قربت من حرارة النار دخلها الانقباض ثم الانضمام ثم الانعقاد على قدر قربها من الحرارة وبعدها عنها». يربط المسعودي بين نوعية تربة الأرض في البلدان وبين طبائع الناس. فكل نوع من أنواع التربة له طريقته الخاصة في التفاعل مع البرد والحرارة مما ينعكس على نوعية الهواء، الرياح، وبالتالي على الأمزجة البشرية ونوعية البشرة. «فمتى كانت تربة الأرض صخرية جعلت ذلك البلد أبرد وأجف، وإن كانت تربة البلد جصية جعلته أسخن وأجف، وإن كانت طينية جعلته أبرد وأرطب» (صفحة 25). ابن خلدون يستند ابن خلدون في نظرياته - (المقدمة، طبعة الدار الذهبية للطبع والنشر والتوزيع، القاهرة. 2006) - حول المناخ إلى الفلاسفة اليونانيين كباطلموس، أرسطو طاليس وأبوقراط وأيضاً إلى فلاسفة مسلمين كابن سينا وابن رشد واسحاق الخازني والشريف الإدريسي الذين يطلق عليهم بالمتقدمين. ففي الوقت الذي اقتصر فيه الإدريسي في كتابه «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق» على تقسيم الأرض إلى سبعة أقاليم وفق مناخها وجغرافيتها فإن ابن خلدون استثمر تلك المعارف للبحث عن العلاقات المحتملة بين المناخ والطبيعة البشرية. يقسم ابن خلدون الأقاليم إلى أقاليم معتدلة وأقاليم منحرفة ويربط بين المناخ كالهواء وأخلاق البشر وأعطى مثالاً بسكان السودان الذين وصفهم ب «الخفة والطيش وكثرة الطرب والولع بالرقص والحمق» مستشهداً في قصيدة لابن سينا في أرجوزته في الطب يقول فيها( صفحة 98): بالزنج حر غيّر الأجسادا حتى كسا جلودها سوادا / والصقلب اكتسب البياضا حتى غدت جلودها بياضا ويواصل ابن خلدون شرح أثر المناخ في أحوال البشر متخذاً من أهل السودان مدخلاً لذلك يقول: «ولما كان السودان ساكنين في الإقليم الحار واستولى الحر على أمزجتهم وفي أصل تكوينهم كان في أرواحهم من الحرارة على نسبة أبدانهم وإقليمهم فتكون أرواحهم بالقياس إلى أرواح أهل الإقليم الرابع أشد حراً فتكون أكثر تفشياً فتكون أسرع فرحاً وسروراً وأكثر انبساطاً ويجيء الطيش على أثر هذه وكذلك يلحق بهم قليلاً أهل البلاد البحرية لما كان هواؤها متضاعف الحرارة بما ينعكس عليه من أضواء بسيط البحر وأشعته كانت حصتهم من توابع الحرارة في الفرح و الخفة موجودة أكثر من بلاد التلول والجبال الباردة». ويفند ابن خلدون ما ذهب إليه المسعودي ويعقوب بن إسحاق الكندي اللذان أرجعا «خفة السودان وطيشهم وكثرة الطرب فيهم» ل «ضعف أدمغتهم وما نشأ عنه من ضعف عقولهم». ويقارن ابن خلدون بين سكان السودان وسكان مدينة فاس المغربية. فبينما يميل سكان السودان إلى الطيش والطرب فإن سكان فاس يجتهدون في الادخار بسبب الجو البارد الذي يسود في المنطقة: «ولما كانت فاس من بلاد المغرب بالعكس منها في التوغل في التلول الباردة كيف ترى أهلها مطرقين إطراق الحزن وكيف أفرطوا في نظر العواقب حتى أن الرجل منهم ليدخر قوت سنتين من حبوب الحنطة ويباكر الأسواق لشراء قوته ليومه مخافة أن يرزأ شيئاً من مدخره». وسبق لأرسطو في كتابه «السياسة» عقد مقارنة بين سكان المناطق الباردة في أوروبا وسكان آسيا. حيث ربط المناخ الأوروبي بالجرأة والشجاعة وغياب التنظيم وربط المناخ الأسيوي بالمهارة والتنظيم بينما تغيب عنه الشجاعة. وكان الإغريق - وفق أرسطو - يجمعون بين خصال الأوروبيين والأسيويين لكون اليونان تقع وسط أوربا وآسيا. وفي كتاب «روح القوانين»، الصادر عام 1748م ربط مونتيسكيو (1689-1755) الحيوية والنشاط والشجاعة والثقة في النفس بالبلاد الباردة. ويرى ابن خلدون أن الأقاليم ذات المناخ المعتدل يكون فيها كل شيء معتدلاً بما في ذلك الفكر والتدين وتعج أرضها بالخيرات. * كاتب مغربي مقيم في ألمانيا