الجيش اللبناني يعلن اعتقال نوح زعيتر أخطر تاجر مخدرات في لبنان    أوكرانيا: زيلينسكي سيتحدث مع ترمب في الأيام المقبلة    الأخضر يُعلن قائمته لكأس العرب    القبض على مصري في نجران لترويجه مادة الحشيش المخدر    تركي آل الشيخ يلتقي الشيخ منصور بن زايد في أبوظبي    مدرب الهلال يعقد مؤتمراً صحفياً غداً    NHC توقّع اتفاقية لتنفيذ وحدات سكنية لمشروع "بوابة رسن" في وجهة بوابة مكة    "8" فعاليات مصاحبة تخاطب زوار كأس نادي الصقور السعودي 2025 بالظهران    رفاد وهيلتون توقّعان اتفاقية لإطلاق فندق «كونراد» ضمن مشروع «مركان كوارتر» في الخبر        الدور الملهم للأمير محمد بن سلمان في تحقيق السلام في السودان    الأنصاري: 87% من خريجي جامعة محمد بن فهد يلتحقون بسوق العمل    الفتح يكثّف تحضيراته قبل موقعة الهلال وسط موجة إصابات تضرب صفوفه    نائب أمير حائل يستقبل د.عبدالعزيز الفيصل ود.محمد الفيصل ويتسلم إهدائين من إصداراتهما    هامات للنقليات تعزز حضورها في أكبر منصة لوجستية وطنية وترسم ملامح شراكات المستقبل    التخصصي و"عِلمي" يوقعان مذكرة تعاون لتعزيز التعليم والابتكار العلمي    العوالي توقع اتفاقية مع سدكو لإنشاء صندوق عقاري بمليار ريال    هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تنظم لقاء بعنوان (تحديات الأمن الوطني)    أمير تبوك يرفع التهنئة للقيادة بمناسبة نجاح الزيارة التاريخية لسمو ولي العهد للولايات المتحدة الأمريكية    نائب أمير منطقة مكة يستقبل القنصل العام لجمهورية الصومال    القادسية ينظم دورة "الذكاء الاصطناعي في الإعلام الرياضي" بالشراكة مع هيئة الصحفيين السعوديين    أمير تبوك يكرم شقيقين لأمانتهم ويقدم لهم مكافأة مجزية    مُحافظ الطائف يلتقي مُديرة التطوير والشراكات بجمعية الثقافة والفنون    الأمير سعود بن نهار يشهد شراكة بين تجمُّع الطائف الصحي وجمعية "روماتيزم"    المتأهلون إلى كأس العالم 2026.. 42 مقعداً حسمت.. والملحق يحدد آخر 6 منتخبات    فلسطين تبلغ الأمم المتحدة باستمرار الانتهاكات الإسرائيلية    وسط غموض ما بعد الحرب.. مشروع قرار يضغط على إيران للامتثال النووي    الجوازات تستقبل المسافرين عبر مطار البحر الأحمر    تعمل عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي.. درون وروبوت لمكافحة الحرائق بالمباني الشاهقة    إبراهيم إلى القفص الذهبي    الاتحاد الأوروبي يدعو لوقف القتال.. السودان.. معارك متصاعدة في كردفان    ثمن جهودهم خلال فترة عملهم.. وزير الداخلية: المتقاعدون عززوا أمن الوطن وسلامة المواطنين والمقيمين    تامر حسني يكشف تفاصيل أزمته الصحية    مهرجان الديودراما المسرحي يحتفي بالثنائية الفنية    «وسم الثقافي» يكرم المعيبد    محافظ جدة وأمراء يواسون أسرة بن لادن في فقيدتهم    انطلاق النسخة ال9 من منتدى مسك.. البدر: تحويل أفكار الشباب إلى مبادرات واقعية    ترخيص فوري للبيع على الخارطة    دراسة: دواء السكري يقلل فوائد التمارين    «جامعة سطام» تطلق «خيمة ثقافات الشعوب»    «فنون العلا 5» ينطلق في تنوع فني وتجارب أدائية غامرة    أمير الرياض يستقبل سفير المملكة المتحدة    14 ألف جولة رقابية على المساجد بالشمالية    فيصل بن مشعل يتسلّم تقرير لجنة الحج الفرعية    «بيئة مكة».. جولات رقابية على الخضار والأسماك    عطارد يمر بين الأرض والشمس... اليوم    يايسله: المهمة أمام القادسية صعبة    «الجوف الصحي» يقدّم الفحوصات الدورية المتنقلة    لماذا يبدع ضعيف الذاكرة؟!    "سورات وميرونك" يتصدّران افتتاح بطولة السعودية الدولية 2025 للجولف    120 ألف شخص حالة غياب عن الوعي    وزير الرياضة: رؤية 2030 أحدثت تحولًا جذريًا ورفعت عدد الاتحادات إلى 97 اتحادًا    استثمارات جديدة في27 متنزها ومشتلا وطنيا    عبء العلاقات الاجتماعية ثقل يتزايد بصمت    من تشجع في مباراة الفضاء؟    تداول ينخفض إلى أقل من 11 ألف نقطة    حسن الظن بالله أساس الطمأنينة    استقبل وزير الحج ونائبه.. المفتي: القيادة حريصة على تيسير النسك لقاصدي الحرمين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دفاعاً عن الذاتية... دفاعاً عن الحرية
نشر في الحياة يوم 09 - 03 - 2013

تزايد أعداد القتلى والجرحى والمعوقين والمعتقلات والمعتقلين والمهجرات والمهجرين في الداخل وإلى الخارج، والمدن والبلدات ومعالم الحضارة والمدنية المدمرة، وتهتك النسيج الوطني، وفقدان أبسط مقومات الحياة الإنسانية، فضلاً عن التاريخ الدموي السابق، أبلغ من أي وصف للسلطة التي جاءت بها ثورة الثامن من آذار (مارس) 1963، والحركة التصحيحية المجيدة، فلم يعد لدينا ما نقوله أكثر مما قلناه في وصفها، وتحليل بنيتها، ووظيفتها الإقليمية، التي عانى منها الفلسطينيون واللبنانيون والأردنيون والعراقيون وغيرهم من العرب، ما يعرفونه أكثر منا.
ولكن، لا بد من أن نضيف، من قبيل النقد الذاتي، أننا لم نكن نقدر مفاعيل الطائفية المذهبية الدينية، حق قدرها، في بينتها التسلطية، على نحو ما قدرنا مفاعيل الطائفية المذهبية الإثنية والأيديولوجية. لذلك سنذهب إلى تلمس خلفيات هذه البنية من أجل المستقبل، إذ نعتقد أن النرجسية الجماعية، والتنكر للذاتية والمعرفة الشخصية وحقوق عقل الفرد، أنثى وذكراً، وحقوق الروح الإنساني المتعين فيهما، أساس التنكر للحرية، حرية الفرد، ولحقوق الإنسان والمواطن.
الذات التي توضع في مقابل الموضوع، والأنا التي توضع في مقابل الأخرى والآخر، أو في مقابل أنا أخرى، كلتاهما تتقاطعان في ملكة الحكم وملكة الفهم، وسائر الملكات والاستعدادات أو القابليات. وكلتاهما تعبران عن الشخصية، شخصية المرأة فلانة والرجل فلان. وإذ لا جدال ولا مراء في كون الملكات فردية وشخصية، ومشتركة بين سائر الأفراد، فإن المعرفة فردية أو شخصية، و «كل تفكير خالق هو تفكير شخصي بالضرورة»، بتعبير الفيلسوف الروسي، نيقولاي برديايف. وهذا لا يقتضي أن يكون الشخص «العارفة» أو «العارف» أنانية أو أنانياً، بل على العكس من ذلك تماماً، لأن من طبيعة المعرفة أنها تواصلية، منفتحة على الأخرى والآخر انفتاحها على الموضوع، إذ لا قوام لها من دون الأخرى والآخر، ولا قوام لها من دون الموضوع.
فلو أننا فحصنا الأنانية اليوم لوجدنا فيها عنصراً نرجسياً مترسباً في أعماق الكينونة، من العصور البدائية، يتظاهر في التمركز على الذات، والأثرة والنزوع إلى الاحتكار، والنزوع إلى العدوان، والتفاعل السلبي مع العالم، على صعيد الأفراد والجماعات، وإلا كيف نفسر السلطة الشخصية المستبدة والطغيانية، والعصبيات الإثنية والمذهبية في أيامنا؟
لعل جذور الأنانية والنرجسية تضرب عميقاً في الميول الموصوفة بالموضوعية، أي في النظر إلى أي موضوع من مواضيع المعرفة والعمل على أنه موضوع خارجي، يقع خارج الذات، يمكن تعرُّفه، والسيطرة عليه، وإعادة تشكيله، أو استهلاكه وتدمير خصائصه. والنظر إلى الأخرى والآخر، على أنهما موضوعان خارجيان، بالصورة نفسها، والنظر إلى الإنسان، الفرد، على أنه موضوع للسلطة، وسماد لمجد الأمة (= الجماعة)، ووسيلة لتحقيق أهدافها. وقد كان، ولا يزال للسلطة الشخصية والدين الوضعي المتضامنين، إضافة إلى المركزية الذكورية والمركزية الإثنية، المسماة وطنية أو قومية، والمركزية الطبقية، أثر حاسم، في تعزيز هذه الميول، حتى غدت الموضوعية، ويمكن أن نضيف إليها «العلمية» و «الواقعية» علامات على التخارج، تخارج الذات والموضوع، العاطفة والعقل، الروح والجسد، الأنا والأخرى والآخر، الحاكم والمحكوم، السيد والتابع، أو الراعي والرعية، المرأة والرجل، المتن والهامش، الله والإنسان.
فلا نستطيع أن ننظر، على الصعيد العالمي، إلى علاقات المجتمع الصناعي وما بعد الصناعي، وديكتاتورية السوق، والعولمة الإمبريالية، وسيطرة التنكولوجيا على الإنسان، المؤسسة كلها على الموضوعية والعقل الأداتي والعقلانية النفعية، والواقعية الكلبية، إلا على أنها أشكال مختلفة من أشكال التخارج. لذلك نرى أن الدفاع عن الذاتية والمعرفة الشخصية اليوم دفاع عن الحرية، وانثناء أو انعطاف إلى أولية الوجود الإنساني، وأولية الكينونة الإنسانية على جميع محمولاتها ومنجزاتها، لإعادة الاعتبار للذات الإنسانية والمعرفة الشخصبة الخلاقة.
في سورية وغيرها من البلدان المتأخرة إنسانياً تحولت «الموضوعية» (بلا عقل) و «العلمية» (بلا علم) و «الواقعية» (بلا أخلاق) إلى شعارات وأيقونات ودعاوى أيديولوجية، تشير كلها إلى وضعية التخارج: تخارج الفكر والواقع، الوعي والوجود، القول والفعل، الدولة والمجتمع، السلطة والشعب، شعارات وأيقونات ودعاوى تقنِّع التأخر الإنساني، الذي لم يلتفت إليه أحد، وتبرر الهمجية، لا سيما همجية السلطة الفاشية، والسلوكات الطائفية المذهبية، الدينية منها والإثنية، التي ينسبها الجهلة والمغرضون إلى العلمانية، ويحمّلون أوزارها للحداثة.
في سورية، أيضاً، وفي غيرها من البلدان المتأخرة إنسانياً، لا يزال الكثيرون يجادلون في فاشية حزب البعث العربي الاشتراكي والعقيدة القومية، ومبدأ الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة، وفاشية الجماعات الإسلامية، والطائفية المذهبية، بدءاً من جماعة الإخوان المسلمين (المعتدلة) إلى فاشية آيات الله وأحزاب الله، مروراً بالسلفيات الجهادية، على اختلاف أسمائها، وفاشية الشيوعية على اختلاف مذاهبها وألوانها. وللمجادلين عذرهم في ذلك، لأن كرامة الإنسان الفرد لا تدخل ضمن معاييرهم، ولأنهم يعتقدون أن الذاتية ضد الموضوعية والعلمية والواقعية، وضد العقل والعقلانية، وحرية الفرد مبدأ ليبرالي مدان من العتبة، وحقوق الإنسان بضاعة مستوردة من بلاد الكفار، والعلمانية كفر وزندقة وإلحاد، والديموقراطية لا تناسب مجتمعنا وخصوصيتنا العربية الإسلامية، وتناقض حاكمية الله. للمجادلين عذرهم أيضاً لأن معاييرهم «موضوعية» و «علمية» و «واقعية»، «عقلية وعقلانية» لا يبزُّهم فيها أحد.
في ضوء ذلك، لا بد من أن يكون مستهجناً وغريباً قول من يقول إن العقل ذاتي وفردي، أو شخصي، وأنه مصدر الفعل عَقَلَ، المؤسِّس للمفهوم (المصدر اسم يدل على حدوث فعل)، وأنه عملية تعقُّل فردية وشخصية، وأن أحكامه قابلة للتصديق، لأنها قابلة للتكذيب، وأنه عملية، فحسب، من العمليات الإدراكية، ومؤسس في الكوجيتو الديكارتي: «أنا أفكر إذاً أنا موجود»، وأن العبرة دوماً في طريقته أو منهجه أو مذهبه وأدواته، لا في أحكامه، وأن هذه الأخيرة مستقلة عن المنهج وأدواته، ما يغري بعضنا باعتبارها حقائق ناجزة ونهائية، كالحقائق اللاهوتية. فالجدال اليوم ينصب على المناهج والأدوات أكثر مما ينصب على الأحكام، لأن هذه الأخيرة تتغير بتغير الأولى، أو تختلف، باختلافها، قليلاً أو كثيراً، على الأقل. العقل صورة المعقول في نفس العاقل، كما عرَّفه أبو حيان التوحيدي.
ثورة الحرية والكرامة والحياة الإنسانية لا تتأسس في الوعي والضمير، ولا تنبسط في الواقع قبل رد الاعتبار للذاتية، أي للاستقلال والحرية، وللمعرفة الشخصية، التواصلية والتفاعلية، والوجدان الفردي، والعقل الفردي، والروح الإنساني المتعيِّن في كل فرد، لكي تمكن مواجهة ثقافة التمركز على الذات النرجسية، الذكورية والعنصرية، بالتلازم، والتي تعيد إنتاج التسلط والاستبداد وإهانة الكرامة الإنسانية. الدفاع عن الذاتية في الوضع السوري، كما في غيره بالطبع، دفاع عن كل فرد، عن كل طفلة وطفل وعن كل شابة وشاب وامرأة ورجل، في وجه الهمجية والطغيان، دفاع عن حق كل فرد في أن يفكر كما يشاء، ويؤمن بما يشاء، وينحاز إلى الجهة التي يريد، ويعبّر عن رأيه وموقفه بكل الوسائل الممكنة، وإلا فإن حربنا لن تنتهي في المدى المنظور.
* كاتب سوري


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.