الطاقة الدولية: الطلب العالمي على النفط سيواصل الارتفاع حتى نهاية هذا العقد    صواريخ إيرانية جديدة على إسرائيل وترمب يلوح بإنهاء تخصيب اليورانيوم    رئيس الاتحاد الآسيوي: نثق في قدرة ممثلي القارة على تقديم أداء مميز في كأس العالم للأندية    بطولة حائل للدرفت 2025 تنطلق الخميس    العناية بالحرمين تدعو لتجنب التدافع عند صحن المطاف    أمير جازان يتسلّم التقرير السنوي لهيئة تطوير وتعمير المناطق الجبلية    ميلان مهتم بالتعاقد مع تشاكا    من رود الشعر الشعبي في جازان: محمد صالح بن محمد بن عثمان القوزي    "نوفا" تطلق رحلة زراعة 200 ألف شجرة بالتعاون مع مركز تنمية الغطاء النباتي ومكافحة التصحر    مرصد "التعاون الإسلامي": 508 شهداء فلسطينيين خلال أسبوع    انعقاد المؤتمر العالمي ال75 للاتحاد الدولي للعقار في نيجيريا بمشاركة سعودية ورعاية من "عين الرياض"    ترمب يريد تخلي إيران تماما عن الأسلحة النووية    محافظ عفيف يترأس اجتماع اللجنة الفرعية للدفاع المدني بالمحافظة    أمانة منطقة تبوك تصدر أكثر من 1400 قرار مساحي    أمير الشرقية يستقبل سفير جمهورية الفلبين لدى المملكة    مركز صحي مدينة الحجاج ببريدة يخدم أكثر من 500 مستفيد في موسم الحج    "مسار الإصابات" ينقذ حياة شابين في حالتين حرجتين بالمدينة    أمين مجلس التعاون وأمين الأمم المتحدة يبحثان مستجدات الأوضاع في المنطقة    مكتبة الملك عبدالعزيز ببكين.. تفاعل ثقافي عربي-صيني    "عدل العقارية" و"مجموعة عبدالله فؤاد" تطرحان "خليج عدل" في مزاد علني 23 يونيو    ضبط 294 ألف قضية احتيال عبر الإنترنت في الصين    اختتام مبادرة ( عيدنا أنتم ) بنسختها الخامسة بالمنطقة الشرقية    عائلة ترامب تطلق شبكة "ترامب موبايل" وتصنع هاتفا محمولا    المملكة تقفز 60 مرتبة عالميًّا في ريادة الأعمال    فلامنجو البرازيلي يفوز على الترجي التونسي    اغبرة تخفض مدى الرؤية عل اجزاء من عدة مناطق بالمملكة    انسيابية في حركة الزوار من باب السلام بالمسجد النبوي تبرز تكامل التنظيم والجهود الميدانية    الضربات المتبادلة تستمر لليوم الرابع.. إيران وإسرائيل.. نيران بلا حدود    موجز    " الحرس الملكي" يحتفي بتخريج دورات للكادر النسائي    الدفاع المدني: لا تتركوا المواد القابلة للاشتعال في المركبات    القبول الموحد في الجامعات وكليات التقنية    أنا لا أكذب ولكني أتجمل    دعا لنهج واقعي في التحول العالمي ..الناصر: أوقات الصراعات أظهرت أهمية النفط والغاز لأمن الطاقة    جهود سعودية مستمرة لخفض التصعيد.. مجموعة السبع تدعو لضبط النفس والتهدئة    "متحف السيرة النبوية" يثري تجربة ضيوف الرحمن    المباراة بين القدم والقلم    التقطيم    بعد إقالته.. الجمعان يقاضي النصر    مجموعة الأهلي المصري.. الكل متساوٍ بنقطة من دون أهداف    تفقد مقار إقامتهم في مكة المكرمة.. نائب وزير الحج يبحث ترتيبات راحة حجاج إيران    وزير الخارجية يبحث مع نظيره الإيطالي وممثلة الاتحاد الأوروبي المستجدات    «الطاقة الذرية»: لا أدلة على تضرر منشأة نطنز السفلية    السعودية رائد عالمي في مجال القطاع الدوائي    خبير: انتقال"الميربيكو" إلى البشر مسألة وقت    أمير القصيم يستقبل المشاركين في خدمة ضيوف الرحمن لموسم حج 1446ه    أخضر السيدات يواصل تحضيراته في معسكر تايلاند استعداداً للآسيوية    "تحدي الابتكار الثقافي" يربط المجتمع بالسياسات    لندن: مترويلي أول رئيسة للاستخبارات الخارجية    الحج.. راحة وأمان وسلام واطمئنان    الحج نجاحات متتالية    علماء روس يتمكنون من سد الفجوات في بنية الحمض النووي    أمير تبوك يستقبل مدير فرع الديوان العام للمحاسبة بالمنطقة    أمير تبوك يعزي الشيخ عبدالله الضيوفي في وفاة شقيقه    الأمير سعود بن نهار يطلع على سير الإختبارات في الطائف    أمير منطقة تبوك يكرم غداً المشاركين في أعمال الحج بمدينة الحجاج بمنفذ خاله عمار    مواسم تمضي… وحصاد ينتظر    سعوديات يستوحين تصاميمهن من النخلة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تغييب العقل وأزمة غياب الإنسان
نشر في الرياض يوم 19 - 04 - 2012

أدرك أنني أطلت في هذه المقالات المتتالية عن العقل . وتبعاً لذلك أدرك أن كثيرين قد يتململون من هذه المقاربات التي تتناول العقل حضورا وغيابا ، وخاصة أولئك الذين يتصورون الإشكالية العقلية ، بكل علائقها ، مجرد مسألة معرفية خالصة ، مسألة ترفيه ، لا علاقة لها بما يجري على أرضية الواقع المعاش . أقصد تحديداً : أولئك الذين لا تتجاوز رؤيتهم الفكرية حدود رصد الوقائع في حضورها العيني المباشر ، وهو الحضور الحقيقي في تصورهم ، ومن ثم فهو الحضور الوحيد الجدير بالاهتمام .
لابد أن يكون العقل محور اهتمامنا ومآل اشتغالنا ، منه نبدأ وإليه نعود ؛ لأنه هو مصدر كل معنى ، بما فيه معنى الإنسان ، أي حتى ذلك المعنى المرتبط وجودياً بهذا الإنسان .
العقل ليس إضافة إلى الإنسان أو على الإنسان . العقل هو الإنسان ؛ من حيث كون العقل هو حرية الإنسان التي تبدأ بحرية التفكير ، تلك الحرية التي تجد مشروعيتها الواقعية في حرية التعبير . أي أن الإنسان وجودياً هو حريته ، وحريته هي عقله ، وغياب العقل يعني - بالضرورة - غياب الحرية ، وهو الغياب الذي يعني - بالضرورة أيضا - غياب الإنسان
العقل ليس إضافة إلى الإنسان أو على الإنسان . العقل هو الإنسان ؛ من حيث كون العقل هو حرية الإنسان التي تبدأ بحرية التفكير ، تلك الحرية التي تجد مشروعيتها الواقعية في حرية التعبير . أي أن الإنسان وجودياً هو حريته ، وحريته هي عقله ، وغياب العقل يعني - بالضرورة - غياب الحرية ، وهو الغياب الذي يعني - بالضرورة أيضا - غياب الإنسان .
الإنسان بلا حرية يتحوّل إلى (شيء) ، أي يفقد جوهر إنسانيته . وهذا أمر واضح وبدهي ، أمر وعته الإنسانية منذ فجر تاريخها ؛ إذ كانت العبودية ، كما تجلت في عبودية الرق (وهي انعدام الحرية بالكامل) ، تعني تحوّل الكائن الإنساني إلى (شيء) يُباع ويُشترى كما تباع وتشترى الأشياء .
لهذا السبب ، كانت القوانين في معظم المجتمعات الإنسانية تربط بين الحرية والعقل على نحو واضح ، تربط مساحة الحرية المتاحة للإنسان بتوقعات النضج العقلي . مثلًا ، يُمنح الفرد حرية التصرف بنفسه مستقلا عندما يبلغ سناً محددة يتوقع فيها أنه قد امتلك الحد الأدنى من التعقل (طبعا هو تعقل مشروط باختلاف المكونات الثقافية لكل مجتمع) .
وهذا يعني أنه قبل ذلك لم يكن جديرا باستخدام عقله ، ومن ثم لم يكن جديرا بأن يمنح حريته في التصرف المسؤول .
من هنا ، كانت إجابة الفيلسوف الألماني العظيم : كانط
(وكانط هو - في رأي كثير من المتخصصين في الفلسفة وتاريخ الأفكار - أعظم عقل بشري ظهر على امتداد التاريخ الإنساني الطويل) عن سؤال : " ما هو التنوير ؟ " إجابة تستحضر العلائق بين هذا الثلاثي المتوحّد : العقل والحرية والإنسان . فهو (= كانط) يرى أن التنوير يتحدد في الجرأة على استخدام العقل ، أو هو بلوغ الرشد الإنساني الذي يمنح الإنسان حرية استخدام عقله بكل شجاعة . ومن هنا رأينا كيف كان عصر العقل ( = القرن الثامن عشر الميلادي) هو عصر التنوير ، وهو - كما يعلم كلّ دارسي التاريخ - عصر الإنسان .
من هنا ، كان البحث عن العقل وفي العقل ، هو بحثاً عن الإنسان وفي الإنسان . تفعيل العقل هو رفع لدرجة الحضور الإنساني في الإنسان ؛ من حيث هو تفعيل لحريته التي تمنحه التمايز والاستقلال عن عالم الأشياء ، الأشياء الفاقدة للحرية ، الأشياء التي تباع وتشترى ، أو التي تستخدم - كموضوع فعل - على نحو من الأنحاء .
إذن ، مستوى حضور العقل هو المعادل الموضوعي لمستوى حضور الإنسان ، وهو (= الإنسان) الذي لايمكن له بحال أن يحضر إلا من خلال حريته المرتبطة ضرورة باستقلاله العقلي . وعلى ضوء هذا ، من الواضح جدا أن البحث عن العقل ، وفي العقل - وفق هذه الرؤية - هو محاولة لانتشال الإنسان (من حيث هو كائن متفرد) من عالم القطيع المُتَشيئن الذي كثيرا ما يتجلى في جماهير التقليد المبرمجة على امتثال ما تقوله الرموز الجماهيرية المُصنّمة .
وقديماً ، وصف الفيلسوف اليوناني : هرقليطس ، الجماهير بأشد الأوصاف احتقارا ؛ لأنهم (كما في وصفه) ينساقون وراء غيرهم من المشاهير كالأنعام . وهو ذات التوصيف القرآني لمن لا يستخدمون عقولهم على نحو مستقل ؛ بعيدا عن السائد النمطي الذي قد ينتهي بتأليه الأشياء ، بعد تأليه الأشخاص والمقولات .
كانط ألمح إلى الشجاعة في استخدام العقل . والشجاعة - كغيرها من الفضائل - عملة نادرة لايمكن أن تنال بالكسل والاتكال . إنها ذات ثمن باهظ . وكما يقول حكيم الشعراء أبو الطيب المتنبي :
لولا المشقة ساد الناس كلهم
الجود يفقر والإقدام قتّال
ولا جدال - على المستوى الإنساني - أن أعظم وأبهى وأنبل وأصدق صور الشجاعة هي الشجاعة العقلية ؛ لأن شجاعة الصراع والقتال العضلي شجاعة يشترك فيها الإنسان مع الحيوان ، بل ويتفوق فيها الحيوان المتوحش على الإنسان . ولولا العقول - كمايقول المتنبي أيضا - لكان أدنى ضيغم ، أدنى إلى شرف من الإنسان .
ليس من السهل أن تستخدم عقلك ؛ مهما تصورته سهلا ؛ بل ومهما تخيلته مرتبطا منك بمجرد قرار في لحظة انتشاء أو انبهار . القدرة من جهة ، والأثمان الباهظة من جهة أخرى ، تحدان من إمكانية أن يستخدم الإنسان عقله على النحو العقلاني المستقل ، أي على النحو المستقل المرتبط بفردانية واستقلال الإنسان .
استخدامك لعقلك هو قرار ذاتي مرتبط بك شخصياً . ولكن لا يعني هذا أنك قادر على تحمّل مرحلة الإعداد العقلي والنفسي لهذا القرار ، ولا على أنك مستعد لدفع الثمن الغالي ، الثمن الذي قد يكون الحياة ذاتها . ثمة ثمن ما ، ثمن باهظ لابد من دفعه لحظة اتخاذ قرار الاستقلال العقلي .
ولهذا يقول ويل ديورانت في مباهج الفلسفة : " ليس القانون هو الذي ينتزع منا حريتنا ، بل عدم استعمالنا عقولنا إيثارا للسلامة " . والسلامة هنا ليست السلامة من الأخطار الخارجية التي ستطالنا من الآخرين ، وخاصة ممن يرون حريتنا العقلية تتهدد مصالحهم ، ليست الخطورة من هؤلاء فحسب ، بل حتى من أنفسنا التي ليس من اليسير عليها أن تتحمل مسؤولية الحرية التي تعني أن علينا في كل لحظة أن نقوم باتخاذ قرارات مصيرية خارج سياق القطيع ، أي خارج نطاق التفكير العام .
طبعا ، العقل المقصود بخطابنا ، والذي عليه مدار كلامنا هنا ، هو العقل الحر المتحرر من كل شيء إلا من العقل ذاته . إنه عقل التنوير ، العقل الجدلي المرتبط بالصيرورة أكثر من ارتباطه بالبُنية ، إنه العقل النامي والمتطور إلى ما لا نهاية ، العقل المتجاوز لنفسه باستمرار .
ما يدعوني إلى تأكيد هذا التفريق بين عقل العقل، وعقل النقل ، أن المنظومة النقلية التقليدية تطرح دائما ما تسميه عقلا . وهو لديها عقل النقل الاتباعي ، أي العقل المشروط بالمقولات المسبقة ، أي العقل المحدود بحدود التقليد .
إن ما تطرحه هو العقل الاتباعي المُدعّم للتقليد ، العقل القائم على تفريغ العقل من محتواه ، أي من كونه نشاطا إبداعيا حرا مرتبطا بمهمة صناعة أكبر قدر ممكن من الحرية لهذا الإنسان .
العقل الاتباعي الذي تطرحه التقليدية ليس عقلا حقيقيا ، بل هو تفعيل لمقولات وتصورات تتغيا ترسيخ الاتباع من جهة ، وقمع كل صور الابتداع أو الإبداع من جهة أخرى .
إن العقل الاتباعي ليس أكثر من محاولة تنظيم مقولات النقل لمحاصرة حرية العقل التنويري المتحرر . إنه (= العقل الاتباعي) مجرد آلية لتثبيت الفهم (فهم المقولات) عند لحظة زمنية ما ، لحظة زمنية يدّعي التقليدي أن العقول فيها كانت على أتم ما يمكن أن تكون ، وأنها بعد ذلك أخذت تتآكل وتضمر وتعتريها كل صور التشوهات إلى أن انتهت إلى الإفلاس ! .
لهذا ، عندما تقول التقليدية إن العقل الصريح لا يعارض مع النقل الصحيح ، فهي لا تطرح العقل الحر ، ، العقل النامي المتطور ، العقل المُتحرّر والمُحرّر ، بل العقل المعتقل ، العقل المكبل بالقيود ، والمحاصر بالمحصنات والمقدسات والمُصنّمات . أي العقل المحكوم لا الحاكم ، العقل المُقاد لا القائد ، العقل التابع الذليل الذي يستحيل عليه أن يكون حراً ، ومن ثم يستحيل عليه أن ينتج إنسانا حرا . إنه عقل الاتباع ، العقل المُسْتَعبَد ، والمُسَتعبِد ، إنه عقل الاستعباد الداعم للاستبداد ، والمناهض لكل أنشطة التحرر ولكل صور الاستقلال .
العقل الاتباعي (وتسميته عقلا مجرد تجوز في التعبير) عقل مغلق ، عقل انغلاقي ، عقل يرى مقولاته هي الصواب الكامل ، هي الحق المطلق ، ويشتغل على تأكيد هذا الادعاء ، بل ليس له من شغل إلا تأكيد هذا الادعاء الدغمائي ، الذي يعكس حقيقة مرض عقلي أكثر من كونه يعكس حقيقة عقل بشري واع لنسبية الإنسان ، ومن ثم لنسبية كل ما يتصل بالإنسان من مقولات وتصورات ومعقولات .
يقول فيلسوف التنوير الأعظم فولتير : " هناك دائما احتمال بسيط ، وهو أننا نحن الفرنسيين مخطئون ، وأن بقية العالم على صواب " . هذا هو العقل الإنساني الذي يضع نفسه في سياق الإنسانية ، كما يضع نفسه في سياق الاحتمال . ومن ثم ، فهو العقل المنفتح على التفكير في كل الاحتمالات ، العقل الذي يرى التفكير الحر ضرورة ؛ لأن ما لدينا ليس هو اليقين ، وحتى لو تضمن بعض اليقين ، فليس ثمة يقين بالكامل ، ليس ثمة يقين يضع نقطة في آخر السطر ، ويعلن انتهاء مهمة التفكير.
إن هذا العقل الفولتيري التنويري هو العقل المضاد للعقل الاتباعي المتعصب والمنغلق ، العقل الذي لا يرى أن ثمة احتمالًا للخطأ عند الذات ، بمستوى أن ليس ثمة من صواب عند الآخرين . ومن ثم لا داعي للانفتاح ، كما لا داعي للتفكير . وهذا هو مشروع إخواننا التقليديين الانغلاقيين الذين يرون العقل أخطر ما يتهددهم ، حتى وإن زعموا - كاذبين - أنه أخطر ما يتهدد الدين .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.