يجب ألا نتعجل الإجابة عن هذا السؤال، حتى لو طُرح بتلقائية حدثية ساخنة، واسمحوا لي بأن أشتت اهتمامكم المنصب والحنق المنعقد على القاتلة الأخيرة، (أقصد العاملة الإندونيسية)، أن أقول ليست هي القاتلة الوحيدة، وإن كانت المنفذة للعملية، فليس من العدل التجني وتحميل أثقال الجريمة البشعة على واحد بعينه، فثمة شركاء صنعوا أدوات الجريمة، وآخرون مهدوا لها الظروف الملائمة للقتل، ومن الناس من باع ضميره للشيطان ببضعة دراهم مقبوضة ليأتي بأمثال هذه القاتلة. لكي أصل معكم إلى رؤية واضحة، لنبدأ بتفتيت هذا الحجر الكبير الذي سد منافذ الرؤية أمام أعيننا، حتى لحقت التهمة بكل الإندونيسيين العاملين في السعودية، حتى دفع بالبعض، بلا تبصر أو بصيرة، للمطالبة بوضع ملف إندونيسيا في سلة النفايات، كرد فعل سريع يحمل تبعاته المثقفون، وبدورنا نحن الأبرياء المضطهدين، الأشقياء بغيرنا، لنبدأ من حاجة المجتمع السعودي الذي عجز بجدارة عن تنظيم بيته الداخلي إلا بمعاونة آخرين، الذين يفترض أن يكونوا مثلنا في كل شيء إلا اليسر الذي نرفل بحلته، المجتمع السعودي الذي انطلقت شرارة تكوينه مع الطفرة التي اجتاحت البلاد واستركضت العباد، وأصبحنا كالسكارى، وما نحن بسكارى، ولكن كنز علاء الدين أنسانا أنفسنا برهة من الزمن، حتى تبعثرت بعض القيم، وغدا مفهوم الأسرة السعودية باهتاً، وتفككت أواصر القربى، وانمحت قيمة الجار من خريطة العلاقات الاجتماعية، حتى أصبحت البيوت السعودية، بحاجة ماسة إلى عاملة منزلية وسائق، استكمالاً لحلقات الحاجة الموهومة، ولربما تكون تلك الحاجة مصطنعة، فأسرة تبالغ في توسيع مساحة البيت، لعدد قليل من الأفراد من بينهم فتيات يافعات، أصبح عاجزاً عن إدارة نفسه بلا مبرر مقنع. لم يدخل في حيز التربية مفهوم «اخدم نفسك بنفسك»، بالاعتماد على الذات، فيما نتبجح بقدراتنا الفذة الخارقة، المضحك في تركيبة مجتمعنا السعودي بأن شبابنا وفتياتنا المتبطلين في منازلهم يقتحمون مجالات تسمى مؤسسات المجتمع المدني، كخدمة ذوي الاحتياجات الخاصة والمعوقين، ألسنا مجتمعاً معوقاً بشكل من الأشكال، لدرجة العجز بتدبر أمور بيوتنا، لننظر إلى أي مرحلة وصل إليها مجتمعنا من النفاق الاجتماعي المكشوف، ثمة بيوت مكدسة بالفتيات والشباب، ولديهم أكثر من عاملة منزلية، شباب متبطلون تهدر أوقاتهم بين الطرقات، وفتيات يعانين من سمنة جراء الجلوس الطويل والأكل بلا شبع، وساعة تكتشف الزوائد بواسطة بنطال جينز مقاس «medium» تحل الكارثة وتسارع بالتسجيل في نادٍ رياضي، تدفع من أجل عمليات التخسيس مبالغ كبيرة، ولربما ستدعو الحاجة لقرب موعد السفر الصيفي للتعجيل بعمليات الكشط والتخسيس، ولو بربط المعدة الباهظ الثمن، بينما لا ترفع صحناً من طاولة الأكل في بيتها، ناهيك عن غسله ووضعه في مكانه، هذه حقيقة مجتمعنا الذي يبحث عن عاملات منزليات وسائقين ثم نبكي ونتباكى على حالات الجرائم المرتكبة من بعض هؤلاء. أنا لا ألتمس لهؤلاء مبرراً، ولكن أبحث عن العقل الذي فقدناه في خضم زحمة الحياة المصطنعة، تلك الأزمة التي دفعت الجشعين من مكاتب الاستقدام لاستغلالها بالبحث عن عمالة زهيدة الثمن والكلفة حتى ولو جيء بهم من أدغال الغابات الاستوائية ومجاهل العالم الموغل بالفقر والجهل، وهكذا فعلوا، فالجاهل الفقير المعتقد بالخرافات، المتمسك بعرى السحر لحماية حياته غير مسؤول بشكل مباشر عن كل هذا، ما لم نقم بتأهيل كامل له من خلال تعليم مكثف، وهذا سيضطر مكاتب الاستقدام لدفع مبالغ إضافية يربؤون بأموالهم عنها، لذلك يدفعون بهؤلاء الأغراب في كل شيء إلى الناس بلا ضمير أو حتى وازع ديني، حتى اختلط علينا الحابل بالنابل فلا نعي الأشياء على حقيقتها حتى تقع الكارثة. العجب العجاب الذي عجزت عن فهمه هو كيف تُسلم متعلمة أو متعلم قياد وزمام أطفالهم لعاملة منزلية، عملها محصور بين تنظيف وكنس وغسيل، ثم نضيف إليها رعاية زهرات أفئدتنا؟ تجاوزنا عن استلام الشغالة ملف الطبخ وقلنا دفعت لذلك الحاجة، لم يسقط في وعينا ولو سهواً أن الأطفال يحتاجون إلى رعاية خاصة ما دامت الأم لا تمنحهم إياها في أوقات معينة، ويجهد العقلاء بالبحث عن مربيات متخصصات أو حاضنات متمرسات، لساعات قليلة من النهار، أما المتعلمون، خصوصاً المعلمات مع الأسف، فيدفعن بأطفالهن ل«العاملة» لتقوم بشؤون الأطفال الأبرياء، وكم من طفل عانى من نزلات معوية حادة، وأطفال آخرون يتم استغلالهم جنسياً من دون علم الآباء. أعيد السؤال الآن: من المسؤول مباشرة عن قتل هؤلاء الاطفال الأبرياء؟ هل هو المجتمع الذي بحث عن الرفاهية حتى نسي دوره الأسري وأصبح عالة على شعوب تأتينا من بعيد؟ هل هو جهل المتعلمين؟ هل هو الانتقاص من أهمية عمل المربية المنزلية، هل هو الشح في دور الحضانة والتربية لأوقات جزئية؟ هل هم أصحاب مكاتب الاستقدام الذين لا يهمهم سوى المال فقط؟ هل هو النظام الذي ترك إدارة ملف الاستقدام لهذه المكاتب العشوائية؟ أخيراً أقول: كل هؤلاء مسؤولون، ولكن المسؤولية الأكبر تقع على عاتق المراكز البحثية التي لم تقم حتى اليوم بدورها المنوط بها تجاه المجتمع كما ينبغي، وتبحث عن وسائل لترقية مستوى وعي المجتمع وتلمس حاجاته الحقيقية، وكيفية القيام بها من دون اللجوء لمساعدة الآخرين، وهذا لا يأتي عبر الخطب والنصائح ولا عبر اللطم والتباكي، بل من خلال إجراءات علمية وعملية يمكن تطبيقها من خلال الأنظمة، التي يأتي على رأسها إعادة تأهيل الإنسان السعودي، وتطوير وعيه بذاته ليستطيع التخلص من أنانيته ويعمل في بيته ولأبنائه قبل أن يعمل خارجه، ما لم نفعل ستقتل أكثر من «تالا»! * كاتب وروائي سعودي. [email protected] @almoziani