لم تحبس مصر أنفاسها، بل خنقتها ووأدتها واعتبرتها لم تكن. فقد نجح المؤتمر الصحافي الأطول انتظاراً والأعتى شعبية والأعمق أثراً في أن يعالج ملايين المصريين، ومعهم الملايين من غير المصريين الذين انتظروا إعلان اسم الرئيس الجديد انتظاراً غير مسبوق. ويمكن القول إن هذا الانتظار دحض تماماً مقولة «انتظر على أحر من الجمر»، وذلك بعدما شهد المنتظرون احمرار الجمر وتفاقم حرارته، ثم انطفائها، وإعادة اشتعالها غير مرة، وذلك على وقع تكرار تأجيل إعلان النتيجة. حتى هذه المرة التي حانت معها لحظة إعلان النتيجة، وتجمهرت فيها شعوب أرجاء عدة من الأرض، وعلى رأسها الشعب المصري، حول شاشات التلفزيون وفي ميادين الثورة ومنصات الاعتصام أبت أن تكتفي بعنصر الجمر الحارق للأعصاب. فقد قامت اللجنة العليا للانتخابات باتباع مبدأ «داوها بالتي كانت هي الداء»، وحذت حذو اللحظات الطويلة التي سبقت النطق بالحكم في قضية الرئيس المخلوع حسني مبارك حين كاد البعض يقضي مللاً أثناء انتظار النطق بالحكم. ويبدو أن اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية تعتنق مدرسة «التدريب المللي» (من الملل)، وهو الفكر القائم على أن الاعتقاد بأن الإنسان لا يستطيع السيطرة على الملل، يساعد على مواصلة الملل وتحمله. وأثناء إعلان النتيجة التي تحولت إلى خطبة طويلة جداً أصابت القاصي والداني إصابات مختلفة تتراوح بين عصبية زائدة، واختلاق معركة كلامية مع المحيطين، أو ضرب شمس (لأولئك المتابعين في الهواء الطلق أو بالأحرى في الشمس الحارقة)، لجأ المصريون كعادتهم إلى أدوات وأسلحة شتى تعينهم على «تحدي الملل». أول تلك السبل كان دعوة صادقة وجهها كثيرون للاستعانة ب «الرجل التخين بتاع ميلودي»، وهو الممثل الذي اشتهر بإعلانات فضائية «ميلودي تتحدى الملل» للتعامل مع تلك اللحظات الحرجة. لكن حرج اللحظات أفضى إلى خيالات عدة. أحدهم تخيل سؤال مادة التاريخ في عام 2050 كالتالي: «اذكر اسم المرشح الرئاسي الذي مات من الملل أثناء انتظار انتهاء لجنة الانتخابات من إلقاء خطبة النتيجة». البعض من ناشطي «تويتر» وجد في هذا الملل خططاً سياسية محنكة وتدابير أمنية محكمة. «خطة لجنة الانتخابات لوأد أية اشتباكات عقب إعلان النتيجة هي ضرب الناس في مقتل بالملل»، لكن آخر وجد في هذا التطويل علاجاً جماعياً لشعب أعيته ألعاباً خطرة وفوازير غامضة طيلة 16 شهراً مضت، ولم يعد هناك من سبيل لإعادة توازنه النفسي إلا عبر «التنويم المغناطيسي بالملل». وكان الهتاف الموحد لأعضاء «حزب الكنبة» واحداً لا ثاني له: «الشعب يريد إنهاء الخطاب». لكن دائماً يبقى من يتمسك بتلابيب الحماسة والثورية السياسية، فمنهم من غرد مؤكداً أن «الأنظمة تقتل، إن لم يكن بالرصاص، فبالملل». عشرات تذوقوا أمس أثناء انتظار لحظة إعلان اسم المرشح الفائز طعم الموتى الصغرى، فقد خر كثيرون إما غطوا في نوم عميق، أو اقتنصوا دقائق قيلولة لا إرادية، ولم يستيقظوا إلا على وقع الصيحات الاحتفالية القادمة من ميدان التحرير أو الصراخات البكائية القادمة من طريق النصر. «أنا على القهوة وواحد نام جنبي بعد ما سب وشتم في الملل وسنينه» تغريدات لا أول لها أو آخر نقلت تفاصيل الملل الرئاسي لحظة بلحظة. لكن هناك كذلك من عبر عن مخاوفه خشية أن تنتهي الفترة الرئاسية الحالية قبل أن يتم الإعلان عن اسم الرئيس. الأدهى من ذلك أن البعض تخوف أن يقابل أعضاء اللجنة العليا للانتخابات وجه رب كريم قبل إعلان اسم الفائز، وتموت اللجنة ومعها سرها وهي تقول «الفائز هو السيد...». ويبدو أن هذا التفكير تملك كثيرين، إذ هيئ للبعض أنه ربما تشعر اللجنة أن هذه هي المرة الأخيرة التي تتحدث فيها، لذا أفرطت. أحدهم عبر عن مخاوفه من أن يتسلم الرئيس الجديد شعب شله الملل. شلل من نوع آخر، لكنه شلل مروري بمعنى خلو الشوارع تماماً من المارة والمركبات، ولم يشاهد في شوارع القاهرة سوى بضع سيارات وحفنة من المارة. وربما هذا ما دفع البعض إلى اقتراح تعيين القاضي فاروق سلطان رئيس اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية مديراً للإدارة العامة للمرور. لكن يبقى السؤال قائماً: ماذا تفعل مصر بمرورها العتيد وحملها الثقيل بعد انتهاء خطاب الإعلان عن فوز الدكتور محمد مرسي بكرسي الرئاسة؟ الإجابة ستكون بين يدي مرسي.