ظلت صورة الأميركي متغيرة على الدوام في المخيلة العربية. هو الملاك الذي يرفرف بأجنحته في الحلم عندما تستولي على عقل العربي فكرة الهجرة أو السفر للتعليم. وهو الشيطان الذي يتخلق من نار جهنم عندما يعلن صراحة دعمه لخصومنا. هو الغازي الصليبي عندما يأتي إلى بلادنا على صهوة مصالحه. وهو الفارس المحرر الذي يتقلد سيفه المهنّد عندما ينقذنا من ظلم ذوي القربى. نحبه مرة ونكرهه مرات. نكرهه مرة ونحبه مرات. نتقاتل مع ظله سنوات. ونحتضن تأثيره سنوات. نشتمه في العلن. ونمد له أيدينا في السر. ونظهر له المودة ونخفي سكاكين الضعف خلف ظهورنا. نتلون ونتشكل و«نتحربن». نكبر ونصغر. ندخل في العاطفة ونخرج منها. نراهن على المروءة والشهامة وننتهكهما. ننحاز إلى أخلاقنا وننغمس في خيباتنا وخياناتنا، فيما الأميركي واقف على الطرف الآخر من العالم ينظر إلى تحولاتنا بعين الشفقة. الأميركي هو الأميركي منذ أن بدأت خطوط سياسته الخارجية تتماس بشكل متزايد مع سياساتنا الداخلية والخارجية في منتصف القرن الماضي. كان ولا يزال مخلصاً لمصالحه وتابعاً لها ومكيفاً علاقاته الخارجية معها. كان الأميركي ولا يزال يتعامل مع موجودات منطقتنا، البشرية وغير البشرية، بعين المصلحة العليا للأمة الأميركية، وكنا وما زلنا لا نعرف كيف نواجه هذه الحقيقة ونضعها في ميزان مصالحنا، بل إن الكثير منا كان ولا يزال لا يعرف هذه الحقيقة أصلاً! ظل موقفنا العروبي يتغير ويتشكل وفقاً لمصالح جماعات محدودة وأوليغارشيات متسيدة، في الوقت الذي يتخبط فيه المجموع العربي في فوضى عواطفه حيناً، وفي صحراء جهله أحياناً كثيرة. ورصد الموقف العربي، الجماهيري والنخبوي، من أميركا خلال نصف قرن، يحتاج ربما إلى بحث مطول، لكن فحصه فقط خلال ال20 شهراً الماضية – فترة الربيع العربي - يعطينا صورة مصغرة عن الحقيقة الكبيرة. العرب (باستثناء عرب النظام السوري) غاضبون الآن من أميركا، أو عاتبون بالأحرى لأنها لم تقدم على المستويين الديبلوماسي والعسكري ما يثبت أنها جادة في وقف نزيف الدم السوري. الجماهير العربية وبعض النخب الحاكمة تضغط باتجاه تدخل أميركا عسكرياً لوقف المجازر اليومية التي ترتكبها كتائب الأسد في سورية، وأميركا حائرة تجاه هذه الدعوات الحاتمية لإنهاء نظام طالما وُصف في الأوساط العربية بالمقاوم. أميركا لديها حسابات كثيرة في هذه المسألة. والعرب لا يريدون أن يفكروا في أي شيء آخر عدا إسقاط بشار والقضاء على أسطورة (شبيحته) الذين بلغوا في الوحشية والإجرام ما لم يبلغه أيٌ من ميلشيات الطواغيت العرب عبر التاريخ! الإدارة الأميركية تضع في سلة مصالحها العديد من المتغيرات: الحساسية الشديدة لجيوسياسية المنطقة وتأثير أي تدخل خارجي على أمن إسرائيل واستقرارها، وإمكانية نشوء جماعات إسلامية مسلحة بعد سقوط نظام بشار، تصبح بمثابة قوى ضغط إقليمية على المصالح الأميركية والوجود الإسرائيلي في المستقبل. ورد الفعل غير المعروف للشعب الأميركي في ظل اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية. والحسابات المعقدة التي تقف خلف محاولات الالتفاف على الدعم الروسي الصيني لنظام بشار أو حتى كسره أو تجاهله. وأخيراً عدم الجزم بإمكانية تحديد نوعية النظام الذي سيخلف النظام القائم. كل هذه المصالح (المانعة) لا تقابلها مصلحة واحدة كبيرة للتدخل العسكري، بحيث تعادلها أو ترجحها، كمصلحة ضمان تدفق النفط للعالم مثلاً، كما كانت الحال في ليبيا القذافي، التي لم تشهد جرائم مروعة بحجم ما يحدث الآن في سورية. وفي المقابل، يعتبر العرب الآن أميركا (ملاكاً) متخاذلاً، يستطيع أن ينقذهم من السطوة الأسدية لكنه يماطل ويسوّف ويشتري الوقت خوفاً من التورط غير المحسوب. ينادونها ولا تجيب. يتوسلون إليها أن تتدخل في الشؤون الداخلية العربية وهي تتمنع. بعض العرب يؤمن أن الحل بيد أميركا، وهم يضعون أيديهم على خدودهم بانتظار صحوة الملاك، وبعضهم الآخر يظن أن هذا الملاك الذي بإمكانه إنقاذ الأرواح العربية، يضع يده في يد الجمهورية الإسلامية الإيرانية من تحت الطاولة وإن تقاتل معها صوتاً فوق الطاولة! يظنون أنه شيطان يلبس رداء الملاك وأجنحته، ويتآمر على الشعوب العربية من خلال محاصرتهم بالأداة الفارسية القابلة للتوجيه تبعاً للمصالح الدنيوية التي تتدثر هي بدورها باللبوس الديني! جزء كبير من العرب يمسك الخيط من هذا الطرف، ويمده باتجاه مناطق الجزم بأن إيران من جانبها لا تخفي دعمها للإخوان المسلمين في مصر، أملاً بمعادلة الضغط الأميركي على المنطقة. يظن الإيرانيون – من وجهة النظر العربية هذه – أن فوز الإخوان في مصر سيأتي بعدو جديد لأميركا في المنطقة وبالتالي ستتنفس إيران الصعداء وتبدأ في ترتيب أولوياتها من جديد. الإخوان – الذين وقف عندهم الخيط – لم يتعرضوا خلال حملاتهم الانتخابية لأميركا نهائياً، لا بوجهها الملائكي ولا بوجهها الشيطاني. تجاهلوها تماماً وكأنها غير موجودة على الخريطة، لا احتجاجاً كما فعل وزير الخارجية السوري وليد المعلم، وإنما لأنهم لا يعرفون هل عليهم الظهور بمظهر الأبطال في نظر المصريين الذين يكرهون أميركا أم عليهم الظهور بمظهر الإدارة الموثوق بها على المستوى العالمي. هم واقعون تحت مطرقة الواقع الاقتصادي الداخلي الرديء من جهة، ومطرقة الاتفاقات والالتزامات والمعونات الدولية من جهة أخرى، ولم يقرروا، ولن يقرروا، إلى أي المطرقتين سيميلون! كان المصريون الثائرون قبل سقوط نظام حسني مبارك بأيام يرفعون – بتحريض من الإخوان - اللافتات التي تدين الرئيس بالعمالة لأميركا، لكنهم بعد سقوطه قدموا أول فروض الطاعة للأميركي البعيد من خلال السماح بالسفر للأميركيين المتهمين بتمويل الفوضى في الميادين المصرية، في ظل وجود برلمان يغلب عليه اللون الإخواني! وبالنظر إلى باقي أجزاء الخريطة العربية، ستظل أميركا تراوح ما بين مكاني الملاك والشيطان، وفي كل مرة سنجد لها الأسباب والتبريرات، أو سنلعن القوة والبغي العالمي. كانت أميركا وما زالت مخلصة لمصالحها، فيما ظل العربي مستقبلاً لفعلها ويمرره كرد فعل إلى الشعب إن كان حاكماً، وإلى الحاكم إن كان شعباً. أميركا تستخدمنا على المستوى الدولي، فيما نستخدمها محلياً. كانت وما زالت... وكنا وسنظل، ما جهلنا مصالحنا! * كاتب سعودي