في الوقت الذي تعاني فيه فرنسا من ظاهرة انتحار المتقدمين في السن، تقدم اليابان لجيل المتقاعدين سوقاً استهلاكية خاصة بهم، تؤمن كل ما يلزم لتمضية خريف العمر براحة وحيوية ومرح. الفرق كبير بين الشيخوخة الكئيبة، المنعزلة والمنطوية على ذاتها في فرنسا، وتلك التي تضج حياة وبهجة في اليابان ساعية الى التمتع قدر الامكان ولأطول فترة ممكنة من فصل الشيخوخة. والفرق كبير ايضاً بين المجتمعين الفرنسي والياباني في تعامله مع كبار السن. ففي فرنسا أطلقت المؤسسات المهتمة بالشيخوخة، صيحة انذار جديدة بعد مأساة الصيف الماضي وموت أكثر من 15 ألف عجوز بسبب وجودهم وحيدين خلال موجة الحر عن حال اليأس التي يعيشها كبار السن وتدفعهم الى وضع حد لحياتهم، خصوصاً بعدما أثبتت الاحصاءات ان فرنسا ضربت رقماً قياسياً هو الأعلى في أوروبا في عدد حالات انتحار العجائز فيها. اما اليابان فتعتبر من البلدان التي تضم النسبة الأعلى من كبار السن 5.18 في المئة لذلك خصت السوق الاستهلاكية اليابانية قسما لا بأس به من انتاجها لجذب هذه الفئة الجديدة من المستهلكين التي تملك الوقت والمال وحب الحياة. الانتحار بصمت ما من أحد يستطيع اعطاء رقم دقيق لحالات الانتحار بين العجائز. فهذه المسألة بحد ذاتها أمر مؤلم، فوسائل الاعلام تتحدث عنها لايجاد حلول ليأس الشباب المراهق، فيما تتكتم وتفضل عدم التطرق كثيراً اليها في حال كبار السن، علماً ان هناك أكثر من ثلاثة آلاف عجوز يضعون حداً لحياتهم كل عام، وسط صمت كامل ولامبالاة فعلية. ولا يشكل الانتحار هنا صدمة حقيقية للمجتمع، فهو فقط يضع حداً لحياة شارفت على نهايتها، والعجوز هنا يكون قد نفذ قراراً سبق واتخذه من قبل ووضع تفاصيله بدقة، خصوصاً اذا كان مصاباً بمرض يشل حركته الى درجة يمنعه فيها من تنفيذ قراره والتخلص من آلامه والموت بكرامة. لكن الوحدة التي تؤدي الى اليأس والعزلة هي من أهم الأسباب المؤدية الى الانتحار في فرنسا، خصوصاً عندما يبتعد الأولاد وتقل الزيارات التي غالباً لا تزيد عن مرتين في العام الواحد. بالطبع، هناك عوامل أخرى تدفع المتقاعدين من كبار السن الى وضع حد لحياتهم، أهمها احساس الشخص بأنه أصبح عديم الجدوى. هذا الشعور يقدم سبباً مهماً لمن اعتاد العمل طيلة حياته، للغرق في دوامة الانهيار العصبي، خصوصاً اذا وجد نفسه وحيداً بعد موت شريك الحياة. هنا تكثر حالات الانتحار بين الرجال العجائز الذين لا يتحملون العيش بمفردهم، فهم يخشون أكثر من النساء، خسارة قدراتهم العقلية والجسدية، فيختارون وضع حد لحياتهم بطريقة عنيفة لكنها مضمونة النتائج، مثل استخدام السلاح رصاصة في الرأس أو الفم أو القاء نفسه من مكان مرتفع كالشرفة، أو الشنق. بينما تعتمد النساء وسائل الانتحار السهلة وغير المؤلمة، كتناول مزيج من الأدوية والحبوب المنومة. ويؤكد الأطباء وعلماء النفس المهتمون بالشيخوخة، ان المجتمع وبعض المؤسسات بيوت العجزة وحتى عائلة كبير السن، لا يشعرون فعلا بالخجل من التأكيد بطريقة أو بأخرى للعجوز، بأنه يشكل عبئاً كبيراً على المجتمع، ما يدفع به الى الدخول في نفق الانهيار العصبي والانطواء على النفس من دون ان يثير انتباه أحد. وبقدر ما يزداد هدوء العجوز وتقل طلباته، بقدر ما يدخل عميقاً في نفق اليأس والنسيان. وهذا ما يحدث غالباً عندما يصر الأولاد على ادخال الأهل كبار السن الى بيوت العجزة أو العيادات الطبية والنفسية الخاصة بالعجائز. وعندما يجد العجوز نفسه خارج البيت والعائلة مبعداً عن محيطة وعن أحب الناس اليه، ينزوي في غرفته الصغيرة ويعيش مع جهاز التلفزيون رافضاً الخروج والاختلاط بالناس. أي يرفض الحياة التي خذلته في آخر أيامه وينتظر الموت أو يعجل بوصوله عبر الانتحار. وليس من السهل على شخص نشأ في مجتمع فردي، مواجهة الشيخوخة المتقدمة لأب أو أم. فعليه الاختيار دائماً بين تحمل ثقل جراح الشيخوخة وامراضها ونفقة العلاجات الاضافية التي لا تؤمنها الدولة، وبين تحمل عقدة الذنب في حال وضع العجوز في مأوى العجزة أو احترام حقة في اختيار انهاء حياته في حال المرض ورفضه الطعام والدواء. وتطرح ظاهرة انتحار كبار السن في فرنسا جملة من الأسئلة تصعب الاجابة عليها، فهل هي نوع من الموت الهادئ للتخلص من تقهقر الجسد والرحيل بكرامة؟ أم انها صفعة أخيرة لمجتمع خذل كبار السن فيه؟ شباب دائم اليابان تشيخ مثلها مثل كل المجتمعات المتقدمة. لكنها تشيخ بطريقة مختلفة عن فرنسا. والشيخوخة فيها ليست مأساة ولا حالة يأس وانتحار، بل هي بداية حياة جديدة. وتشيخ اليابان بسرعة أكثر من سواها من الدول، فهي تحقق رقماً قياسياً عالمياً في عدد كبار السن ما فوق 65 سنة، ما يعني انها تعدت خلال عشرين سنة نسبة 1.9 في المئة من عدد الشيوخ فيها ووصلت اليوم الى نسبة 5.8 في المئة. وفي عام 2015 سيكون هناك ياباني واحد من أصل أربعة يبلغ من العمر أكثر من 65 سنة، وهذا أمر حتمي في هذه البلاد التي تملك أعلى نسبة في العالم لطول العمر 85 سنة للنساء و78 للرجال. ويتكيف المجتمع الياباني مع الشيخوخة ويعتبرها أمراً واقعاً يتقبله ويعيش معه بانسجام. وأدرك القطاع التجاري الاستهلاكي في البلاد، أهمية تأمين الخدمات المتنوعة لهذه الفئة الجديدة من المستهلكين التي تملك الوقت والمال يسيطر المتقاعدون على القسم الأكبر من أسهم مؤسسات التوفير اليابانية، أي حوالى 48.1 بليون يورو ولا تتوانى عن صرف ما في الجيب في السفر والرحلات وشراء الملابس وأدوات التجميل والطعام الصحي للمحافظة على الرشاقة والحيوية. ان جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية والذي حقق النصر الكبير في الدخل القومي للبلاد، وصل اليوم الى سن التقاعد، فهناك حوالى عشرة ملايين توقفوا عن العمل وأمامهم نحو عشرين سنة من الحياة، لذلك تحولت الجزر اليابانية الى سوق استهلاكية ضخمة خاصة بجيل المتقاعدين الجدد، التي تؤمن لهم المنتوجات والخدمات التي تتكيف مع احتياجات ورغبات كبار السن. وعليه فالياباني يستهلك في شيخوخته أكثر من فترة من عمره وبطريقة مختلفة، ما حوّل المجتمع الياباني الى مجتمع غير عادل خصوصاً بالنسبة الى كبار السن، حيث ان هناك فرقاً في مخصصات التقاعد بين الطبقات العاملة، لكن القسم الأكبر من المتقاعدين ضمن تقاعداً جيداً ويرغب بالاستفادة منه بعد أن عمل طويلاً. ويعتبر الياباني، على عكس المواطن الفرنسي، ان التقاعد هو عبارة عن حياة جديدة يستطيع فيها تحقيق ما لم يقدر عليه سابقاً، بسبب طول ساعات العمل. لذا فهو لن يتردد في صرف تقاعده الشهري البالغ نحو 2250 يورو كمعدل متوسط، أو مد يده الى بعض المدخرات لاشباع رغبته في السفر والعيش حسب رغبته. ويصرف حوالى 23 مليون ياباني متقاعد مبلغ 25 بليون ين ياباني سنوياً. وعليه فإن المتقاعدين ما فوق 65 سنة عام 2015 سيصبحون المحرك الأساسي للاستهلاك المحلي حسب آخر التقديرات الرسمية. وتخصص المحلات الكبرى في العاصمة طوكيو، منذ سنوات مساحة معتبرة لتقديم الخدمات للمتقدمين في العمر، مثل الملابس الجاهزة المعدة خصيصاً لتناسب النساء، والمنتوجات الطبيعية وأنواع الأدوية والفيتامينات للحفاظ على الحيوية والنشاط، اضافة لعيادات تقدم علاج الطب الصيني الذي يلاقي رواجاً بينهم، وهناك الملابس النسائية والرجالية التي تساعد على تنشيط الدورة الدموية. وفي شمال طوكيو يوجد أكبر شارع خاص للمتقاعدين، لا تدخله السيارات ولا الحافلات، ويعد من أهم وأغلى الشوارع في البلاد وأكثرها حداثة. أما شركات السياحة والسفر، فتنظم الرحلات السياحية مع الأحفاد لتعلم اللغة الانكليزية مثلاً في كندا أو استراليا. ويشكل كبار السن 70 في المئة من نسبة السياح داخل البلاد وثلثي العشرة ملايين ممن يمارسون رياضة المشي التي تنظمها المنظمات الرياضية تأمين صحي واهمال نفسي تقدم فرنسا تسهيلات عدة للمتقدمين في العمر لتأمين الحاجات المادية والمعيشية اليومية، كوجبات طعام رخيصة الثمن يتم تحضيرها وتوزيعها من قبل المطابخ الخاصة بالمدارس الرسمية في المناطق. كما تساعد البلديات أيضاً على تأمين مدبرة منزل وممرضة لمن يعيش وحيداً من العجائز، وذلك مقابل أجر بسيط تدفع البلدية وصندوق الضمان الصحي الجزء الأكبر منه. كما يحق لكبار السن استخدام الباص مجاناً ومثلها الطبابة. أما الناحية النفسية التي تؤثر سلباً على الصحة العامة للمتقدم في السن فنادراً ما يتم الاهتمام بها من قبل الجسم الطبي والاجتماعي، وذلك على رغم وجود شرط شبه الزامي لعالم النفس في كل مأوى للعجزة. وتحاول المؤسسات الصحية المهتمة بالمتقدمين في العمر خصوصاً المستشفيات الحكومية، تأمين قسم خاص للعلاج النفسي يعتمد نظام جلسات نقاش يلتقي فيها المتقدمون في العمر مع الأطباء النفسيين وهو علاج يعطي ثماره، إذ يمكنهم من تجاوز الانهيار العصبي، ويعيد اليهم اهتمامهم بالعالم الخارجي. لكن هذه الأقسام تتعرض اليوم الى الاغلاق، على رغم نجاحها بانقاذ العديد ممن قاموا بمحاولات انتحار فاشلة. وندرة هذه الأقسام تدل على قلة اهتمام المجتمع الفرنسي بالمتقدمين في العمر، وتفضيله الاهتمام بمشاكل المراهقين النفسية وغيرها.