على الإنسانِ أن لا يلتفت إلى المشكِّكين في الإنجازات، وهم أصنافٌ كثيرةٌ، منهم من لا يخفى على العاقل أنه مجرّد حسودٍ يحاول إفشالَ محسودِه، فعلى من واجه مثله أن لا يُصغي إلى حديثه، ومن المثبّطين من يدسُّ السّم في العسل، ويقلّل من جهودِ الآخرين بواسطةِ ما ظاهرُه النقد والتحليلُ والتقييمُ، وباطنه التشكيكُ في الإنجازِ.. للإنسان في هذه الحياة وظائف وأهداف، ولم يأتِ إلى الحياة؛ ليمرَّ بها كما جاء من غير عملٍ وسعيٍ، وفي مقدمة هذه الوظائف القيام بما خلقه الله تعالى من أجله، وهو عبادته سبحانه وتعالى، ويأتي بعد هذه المهمّة السعي في شؤون معاشه، وإسهامه في عمارة الأرض وإصلاحها، وعليه السعي الدَّؤوب لإنجاز ما أمكنه من مصالح دينه ودنياه، ودرء ما أمكنه من المفاسد، وإذا تقاعس عن ذلك أو عن جلِّه فهو ملُومٌ، وسيؤول أمره إلى الندم والحسرة في الدارين، ومن بذل جهده في ذلك فهو محمود المساعي؛ وطرق الإنجازِ لا تخلو من عقباتٍ، ولا يَعدمُ سالكها أن يسمع أصواتاً مزعجة، مهمةُ أصحابها إلهاؤه وعرقلته، وخداعه لثَنْيِه عن التقدُّم، أو لحمله على التخلّي عن المكتسباتِ التي اكتسبها حتى تتلاشى، ولا عجب في ذلك فالإنجازُ المنضبط بضوابطه شرعاً ونظاماً لا يزال من الناس من يثبطُ عنه ومن يُشكِّكُ فيه، والذين يُشكِّكون في الإنجازات لا يخفى عليهم أنها عظيمة، ويدركون في قرارة أنفسهم أن من شأن نبهاء الناسِ الطموح إلى المزايا، لكنَّ الحسد يحملهم على عرقلة المنجزين، ولهم في ذلك وسائل من بينها تصوير الإنجاز على أنه لا يساوي شيئاً، ولي مع التشكيك في الإنجاز وقفات: الأولى: على من يسعى لإنجاز مهمَّة من المهمّات أن يحصّن أعماله من أن تكون مما يسوغُ التقليل من شأنه، فبعض الأعمالِ قليلة الشأن بطبيعتها، ولسانُ الحال يقلّلُ من شأنها، والعتب في ذلك عائد إلى صاحبها الذي اختار لنفسه الانخراط فيها، وإنما توصف الأعمال بكونها إنجازاتٍ يحمد من حصّلها ويُلامُ من شكَّك فيها إذا تضمَّنت مصالحَ راجحة، وكان المنجِزُ لها حريصاً على أن يأتي بها على الوجه اللّائق، وأن يسلك في تحصيلها الطرق المأمونة وهي الرسميّةُ؛ ليجمع بين مشروعية الغاية وسلامة الوسيلة، وبناء على هذا فإنَّ عليه أن يكون سعيُه محكوماً بالأوامر والنواهي الشرعيَّة، منضبطاً بالأنظمةِ المرعيّة، ولا يسعُه الالتفاف حولها، فإن من تجاهلها وتصرَّف على خلاف ما تقضي به، فقد جانب طريق جلب المصالح، واقتحم لجةَ المفاسد، على أنه لو فكر في الأمر لعرف أنه لا داعي لتلك المخالفةِ أصلاً؛ ففي دائرة ما سوَّغه الشرع وما سمح به النِّظام سعةٌ تخوّل الإنسانَ أن يتعاطى مصالحَه بلا تبعةٍ عليه، وما سعى في تحصيله بالإفتيات على القواعد الشرعية والأنظمة المرعية فليس بإنجازٍ، وإن ظنَّ حين فعله أنه قد أحسن وصنع شيئاً ذا بالٍ، أما الأوامر الشرعيةُ فالمزايدة عليها مجرّد عناء، ومن حاول أن يحقق مصلحةً شرعيةً -أيّاً كان نوعها- بلا وقوفٍ عند المقرَّر شرعاً، فقد ولج إلى باب الابتداعِ، وتورّط في متاهات الهوى، وما دام كذلك فلا ينفعه اجتهاده فيما جمح إليه، والمقتصد من عوامِّ المسلمين أفضل منه. الثَّانية: على الإنسانِ أن لا يلتفت إلى المشكِّكين في الإنجازات، وهم أصنافٌ كثيرةٌ، منهم من لا يخفى على العاقل أنه مجرّد حسودٍ يحاول إفشالَ محسودِه، فعلى من واجه مثله أن لا يُصغي إلى حديثه، ومن المثبّطين من يدسُّ السّم في العسل، ويقلّل من جهودِ الآخرين بواسطةِ ما ظاهرُه النقد والتحليلُ والتقييمُ، وباطنه التشكيكُ في الإنجازِ، ومن ابتلِي بأن تربطه علاقة قرابةٍ أو زمالةٍ بواحدٍ من هذا الصنف من الناسِ فعليه التحلّي بمزيد من الفطنة والحكمةِ، وأخطرُ المشكِّكين في الإنجازات من يوجّه إلى الدّولة والمجتمع ما تحبكه نفسه المريضة من عجائب التحليل السلبي، ويتغاضى عن الإنجازات والإيجابياتِ، فهذا باغٍ لا يُستمع إلى كلمة من كلماته. الثالثة: نفس الإنسان التي بين جنبيه أولُ مُشكِّكٍ يجب تجاهلُ وسوسته؛ فإنَّ بعض النُّفوسِ قد جبِلتْ على حبِّ الدّعة، وألِفَت الفراغَ وهدرَ الوقت، فهي تستثقل الأعمالَ الجِدّيّةَ التي تفطِمها عن مألوفِها، ومتى فكر صاحبها فيما يرتقي به عن هذه الدّركةِ حبكت له وساوس كثيرةً، أولها تزيين التقصير وتلميع الخمول، والتّزهيد في معالي الأمور، بتصويرها على أنها تكلّفٌ يتعب لتحصيلها المتكلّفون، أو المبالغة في تخييل صعوبةِ الإنجازِ، وأنه لا يستطيع أن يقتحم عقباته، أو تذكيره ببعض العثرات التي سبق أن عرقلت سيره، وكلُّ هذا مخالفٌ لما يستحبُّ للمسلم من التحلي بالقوةِ والعزيمةِ، كما يدل عليه حديثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ، خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ، فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ» أخرجه مسلم.