كان ذلك المساء الشتوي الحزين مثل كل أمسيات هذه المدينة المترامية الأطراف ممتداً وكسولاً، كان مساء رمادياً مغبراً قليلاً بفعل الرياح التي تحمل معها الغبار من الطرق الترابية الكثيرة في الطرف الجنوبي من الخرطوم. لكن هذا اليوم لم يكن عادياً في ذلك الحي اذ شهد واقعة زلزلت قلوب اهل المدينة وادخلت في تراثهم حدثاً لم يكن معهوداً. ولا يزال الحديث عن ما شهدته تلك الامسية مثيراً للاهتمام لأن ملف القضية بقي مفتوحا وغامضا ومليئا بالاتهامات. كانت الفتاة ذات الخمسة عشر ربيعاً مطمئنة إلى أحوالها، وتقضي يوماً عادياً آخر: ذهاب إلى المدرسة في الصباح وعودة منها في الظهيرة، ثم رجوع لحضور دروس المساء الإضافية، وربما في بعض الأحيان زيارة صديقة هنا وأخرى هناك. وفي كل الأحوال لم تتجاوز الزيارات الحي الذي تقيم مع أسرتها فيه، وفي بعض الأحيان تعرج على الخياطة تنظر إلى الموديلات الحديثة من الملابس، إذ أنها تميل قليلاً إلى التأنق في الملبس، ووضع أسرتها الاقتصادي يسمح لها بأن تحقق جزءاً من هذه الرغبات الطبيعية. لم تكن ذات وضع متميز جداً داخل أسرتها فهي ليست الوحيدة بل لها أشقاء وشقيقات، ولم تكن الكبرى ولا الصغرى بينهم. بعد عودتها من المدرسة ظهيرة ذلك اليوم كانت متعبة قليلاً لم تتآنس مع أفراد أسرتها إلا قليلاً، وأوت إلى غرفتها لتستريح. لم تستطع النوم فأمسكت برواية، لكنها لم تنتبه إلى ما تحكيه وسبحت في أفق بعيد، إلى خطيبها، هل يأتي لزيارتهم اليوم؟ لا، فهي تذكر أنه لن يزورهم قبل يوم الجمعة. إنها تشتاق إليه، تود لو تحدثه ولو كلمة أو كلمتين. وقالت لنفسها انها ستتصل به هاتفيا في أول الليل إن هي خرجت من المنزل، فهي تشعر بقلق خفي لا تعرف له سبباً ولا مِن أيِّ شيء هو. غرقت في نومة غير مريحة جراء قلقها ذلك، لم يخرجها منها إلاَّ صوت صديقة طفولتها التي توقفت عند أمها تسألها عنها. فردت الام "عادت متعبة ودخلت لتنام منذ ساعتين، أذهبي إليها يا بنيتي". قالت الصديقة: "عندنا اليوم درس مسائي وأنت تعرفين ذلك"، فردت قائلة انها ليست متحمسة لحضور هذا الدرس ولا تنوي الخروج من المنزل. لكنها استجابت على مضض بعدما جادلتها صديقتها والحت عليها. ارتدت ثوباً بنفسجياً وخرجت للمرة الاخيرة من بيت اسرتها. لم يكن الدرس طويلاً ولم يكن الهدف من خروجها مع صديقتها اذ كانت فقط تريد الاتصال بخطيبها، والمرور على صديقة لتأخذ منها كتاباً آخر. لم تجدا الصديقة فذهبت بمفردها إلى حيث تجد هاتفا في محل البقالة القريب لكنها وجدته مغلقا فقفلت راجعة إلى حيث كانت صديقتها. كان الليل ساعتها بدأ يدخل بطئياً وقد غابت الشمس تماماً. في ذلك الوقت وقع الحادث الغريب الذي هز المدينة من أقصاها إلى أقصاها. فجأة توقفت دراجة نارية كانت تسير أمام سيارة أجرة، وترجَّل من الدراجة رجل مرتبك سألها عن ما يثبت هويتها قائلا انه شرطي، فاستغربت السؤال اذ لماذا تحملها من الأصل وهي جاءت من درس مسائي بصحبة صديقتها. كان التفتيش عن الوثائق الثبوتية في الخرطوم في منتصف الثمانينات أمراً معتاداً لتفريغ المدينة من أفواج النازحين إليها من شرق افريقيا ومن العاملين في المهن الهامشية، لكن أن تسأل فتاة عنها فهذا شيء مدهش وغريب. ولما أجابته بأنها لا تحمل أوراقها الثبوتية قال لها بصوت أجش حاد: "أنت مطلوبة في قسم الشرطة". لم ترد أن تذهب معه ببساطة، وتساءلت "ما هي دواعي استدعائي إلى المركز؟ هل سرقت شيئاً هل أنا متهمة؟ لماذا لم يذهب إلى بيتنا حتى يذهب معي أبي أو أحد اخوتي؟". المشهد الغريب جذب السابلة والعابرين في الطريق وبعض المتسكعين الذين يبحثون عما هو مثير يقتلون به الملل ورتابة الساعات المتشابهة المكرورة. رويداً رويداً ازدادت الحلقة تجمهراً، وتوتر الرجل الغريب وهو يحاول إقناعها بالذهاب معه إلى قسم الشرطة. كانت تستغيث بالناس الذين تجمهروا أن يخلصوها منه. لكن الناس بدأوا يتجادلون معه: "من أنت حتى تذهب بها؟ وما هي التهمة الموجهة إليها؟". زعم لهم بأنه رجل شرطة وأخرج بطاقة ثبتت زعمه، ولكن لماذا هذا الاستدعاء الغريب لبنت صغيرة بهذا الشكل؟ كان أخوها يعبر المكان نفسه يقود سيارته نحو منزلهم، وشاهد الجمهرة التي ظنها مشاجرة تجمع حولها الفضوليون. لو كان ذا فضول ولو بدرجة قليلة لعرج عليهم وأنقذ شقيقته، لكنه لم يعر الأمر أهمية وواصل سيره نحو المنزل، هل كان الفضول في بعض الأحيان مفيدا وله منافع؟ إن القدر يمنع كل ما من شأنه أن يبطل مراده الأزلي القاهر. اشتد الحصار حول الرجل الغريب وهو ممسك بالفتاة يحاول إدخالها إلى سيارة الاجرة، وبدأ يرتجف من الانفعال والتوتر، كادت الجمهرة تخلصها منه، لكن امرأة برزت من الحلقة وشق صوتها الرفيع تلك الجلبة: "هذا الرجل مسلح، انه يحمل مسدساً وهو رجل شرطة". وصب كلام المرأة ماء باردا في الجمهور المتحلق فتراخت الحلقة وكثرت فراغاتها، وتراجعت الجمهرة مفسحة المجال للرجل، لكن الفتاة لا تزال تبكي وهي تنظر حيناً إلى الرجل العجيب وحيناً إلى الجمهرة التي تتراجع ببطء. كانت صديقتها صامتة طيلة ذلك الوقت ولم تفعل شيئا. كانت تنظر الى الرجل الشرطي وكأنها تعرفه، ربما رأته في الطرق فهو لا يسكن بعيداً عن حيِّها، ولكن هل كانت تعرفه؟ حينما كان يدفع الفتاة إلى السيارة وهو ينظر بتحدٍ والشرر يتطاير من عينيه صرخت الفتاة في صديقتها: "لا تتركيني وحدي…. اركبي معي…. أنا خائفة". لكن صديقتها تجمدَّت في مكانها، وذهبت السيارة بالفتاة والناس متجمهرون وصديقتها واقفة بلا حراك، وطوى ظلام المدينة وليلها الحزين السيارة والدراجة البخارية إلى المجهول. كان تص..رّف الصديقة غريباً ومريباً، فهي لم تذهب إلى منزل أهل الفتاة لتبلغهم بالحادث. وفي وقت لاحق زعمت أنها ذهبت إلى قسم الشرطة ولم تجد صديقتها فعادت إلى منزلها ولم تكلف نفسها عناء إبلاغ ذوي صديقتها. في منزل الفتاة كانت الأم بدأت تتوتر وتسرب إليها القلق حين تأخرت عودة ابنتها، اذ لم تكن معتادة على التأخر في العودة من الدرس المسائي أكثر من نصف ساعة. وبعد مرور ساعة كاملة أمرت الأم احدى بناتها بالخروج للبحث عن شقيقتها من دون جدوى. أما الصديقة فلم يعثر عليها في منزلها اذ وصلت بعد نحو ساعتين وابلغت ذوي الفتاة بما حصل، وقالت لأخت الفتاة المخطوفة أن "أختك أخذها رجل شرطة، وأنا ذهبت إلى قسم الشرطة، لكني لم أجدها"، لكنها لم تقل السبب في عدم توجهها مباشرة الى منزل الاسرة. والد الفتاة واخوتها ذهبوا إلى المركز وسألوا عن بنتهم التي حضرت مع واحد من رجال الشرطة غير انهم لم يجدوها هناك، ولم يعرفوا اسم الشرطي الذي أخذها، وبحثوا في بقية اقسام الشرطة القريبة بلا جدوى. وقعت الحادثة بعد مرور سنة بالتمام على تشكيل حكومة منتخبة جاءت إثر ثورة مشهورة على نظام عسكري طويل الامد وشديد البطش، وكان الناس ينتظرون من العهد الجديد إدارة حسنة للأمور، وكانوا شديدي الحساسية والتوتر تجاه ما يرونه خرقاً أو تجاوزاً أو تهاوناً في حقوقهم التي اكتسبوها بثورتهم. وكانت الصحف كثيرة جداً والأحزاب كثيرة ايضا. واكتسبت الصحف لنفسها حق الرقابة على أعمال الحكومة وتوجيه النقد، ولم يسلم قرار أو عمل حكومي من الانقسام حوله بين مؤيد ومعارض وانعكست مواقف الاحزاب عليها. حدث غير مسبوق في ظل هذا الجو لم يسلم تناول حادث الخطف من التحيزات الظاهرة والباطنة، وما أن طوى الظلام الفتاة المخطوفة حتى بدأت الصحف التي ملَّت متابعة الصراعات الحزبية داخل الحكومة، في تغطية مستفيضة ومليئة بالتحليلات والاختلاقات احيانا. لم يكن هذا الحدث عادياً، بل هو غير مسبوق ولم تشهد هذه البلاد مثله في تاريخها. وكان أثره عميقاً في مفاهيم هذا المجتمع وموروثاته. أصاب الناس خوف ووجوم، اذ ربما يحدث مثل هذا الحادث البشع لأي فتاة. والفتيات لم يعدن يستطعن الخروج في الأمسيات لوحدهن، والتأخر في العودة إلى المنازل صار ممنوعاً. وسبق الاعلام التحقيق وبدأ يوجه الرأي العام نحو الفساد في جهاز الشرطة وكثرت فيه التحليلات عن شبكة فاسدة داخل الشرطة وعن تورط ضباط كبار. وسارع كبار مسؤولي الشرطة ووزارة الداخلية إلى الدلاء بالتصريحات والبيانات عن سير التحقيق والتحريات في كشف غموض الجريمة لحساسيتها، اذ أن المتهم ينتمي إلى جهاز الشرطة المكلف أصلاً حماية الأرواح والممتلكات وحفظ الأعراض والحريات العامة والخاصة. وهبت أحزاب المعارضة التي بقيت خارج التشكيل الحكومي، فانتقمت لنفسها من الحكومة وكثرت التصريحات واجتماعات الإدانة والشجب، ودخل المحامون والأطباء والمهندسون واتحادات المرأة وقطاعاتها المستقلة والحزبية، وتدريجاً صارت القضية هي قضية الجميع ودخلت المخطوفة إلى كل دار وأصبحت جزءاً من هموم كل أسرة. أول ما يستثير الاهتمام في هذه الجريمة هو تخطيطها، والمجرم، ومكان الجريمة، ووقت تنفيذها، وسلوك الجمهور الذي شهد حادث الاختطاف، والغموض الذي غطى على الدوافع واحتمالات الشركاء الخفيين، ونصيب المجرم من عملية الاختطاف، وهل هو وكيل أم أصيل؟ وبدأت الخيوط الاولى للقضية تتكشف، وكان كل واحد منها يقود الى اسئلة أكثر من أن يقدم اجابات، فالشرطي الخاطف كان مجرماً عتيداً قبل التحاقه بسلك الشرطة، وشقيق صديقة المخطوفة أنزلهما من سيارته في مكان الحادث وتركهما، فهل كان ذلك بتدبير أم صدفة؟ والمرأة التي تدخلت لتسهيل مهمة الخاطف، تقطن وتعمل بعيداً عن مكان الجريمة الا انها في الوقت نفسه ابلغت عن الخاطف، فهل جاءت بتخطيط أم ساقتها الأقدار إلى المكان؟ وإذا كان لها دور فلماذا أبلغت عن الحادث واعطت اسم الخاطف؟ هذا لا يشبه سلوك المخططين، إلا إذا كانت مشاركة في مخطط أكبر للتخلص من الخاطف بعد تدبير جريمته. لغز الصديقة لكن اللغز الكبير كان في سلوك صديقه المخطوفة فهي لم تحرك ساكناً عند مجادلة الخاطف للضحية، وهناك أيضاً سلوكها السلبي حين نادتها صديقتها أن لا تتركها وحدها مع الذئب، وعودتها إلى منزلها ثم خروجها منه وتغيبها لأكثر من ساعتين في مكان غير معلوم وعدم اخبارها أهل صديقتها بنبأ خطفها. وبين ما راج حينذاك أن لهذه الفتاة علاقة بالقضية وأنها متعاونة مع الشرطي المجرم. وتزيد الرواية أن الموضوع كله جزء من شبكة فاسدة تبدأ بمصور في الحي قدم الصورة الى شخصيات كبيرة من الشرطة في هذه الشبكة، وان دور الخاطف محدود بجلب الفتاة. ثم برزت معلومات تفيد أن المتهم صرف راتبه في اليوم الثاني لجريمته. وبعد 11 يوماً من الحادث نجح الخاطف في التسلل عبر مطار الخرطوم الى دولة مجاورة، وتبين ان الاجراء العادي في حظر سفر المطلوبين طبق بصورة كسولة وغير مسؤولة، ولم يصل اسم الخاطف الى رجال امن المطار الا بعد مرور يوم على مغادرته. كل هذه الأمور اضيفت الى شكوك واسعة في فساد الشرطة وروايات عن عمليات خطف الفتيات لتمكين الضباط من قضاء سهرات حمراء غذت مخيلة الرأي العام وجعلته يطلب رؤوسا كبيرة. عودة الخاطف واستمر الحال اكثر من شهرين والبلاد مشغولة باستعادة المجرم الهارب ومعرفة مصير الفتاة المخطوفة. هل خطفها معه ام هربها قبله؟ ام هي تقبع في سجن ما؟ أم هي في عداد الموتى؟ كل هذه الاسئلة الهبت الخيال الشعبي الذي بات يطرح سيناريوهات كثيرة تتجمع كلها عند قضية فساد كبيرة اقطابها من القادة. واقدم الخاطف على خطوة اخرى مثيرة، اذ بعث برسالة لمح فيها الى تورط آخرين، ثم بادر بالعودة وكاد يفلت من قبضة الشرطة في المطار، الا انه اعتقل في اللحظة الأخيرة. وكانت عودة الخاطف اكثر اثارة من هربه وأثارت تساؤلات جديدة عما اذا كان تلقى تطمينات وما اذا كانت جهة عليا وعدته بالحماية. ويشير اعتراف الشرطي الهارب بعد عودته الى ان الفتاة ماتت عندما سقطت من الدراجة النارية اثناء رحلتهما الى قسم الشرطة. لكن هذا لم يتأكد عند فحص ما تبقى منها. وعندما وصلت الشرطة الى المكان الذي قال الشرطي انه دفن الفتاة فيه وجدت فروة رأس شعرها، وجمجمة وهيكلاً عظمياً من دون أطراف، وفكاً اسفل. كان منظراً بشعاً، هذه العظام وهذا الشعر المخيف هي بقايا تلك الطفلة الوادعة اللطيفة. وتقول الرواية انه عندما همَّ المجرم الشقي بدفن الجثة الضحية لاخفاء اثر جريمته وبدأ يحفر في تلك المنطقة النائية في جنوبالمدينة سمع أصوات عابرين فترك الجثة في حُفيرة سطحية. المجرم لم يدل بالكثير عن ظروف الموت، وبدا أنه كان يتستر على أمرٍ ما، خصوصاً شركاءه ودافعه للخطف، وتمسك بروايته التي تقول انه كان ذاهباً بها إلى مركز الشرطة فسقطت من الدراجة، على رغم ان الشهود قالوا انه حملها معه في سيارة اجرة وليس على متن الدراجة النارية. ولم تجد جهود المحققين نفعاً في الحصول على المزيد. وهدف المجرم بذلك الى القول انه لم يقتلها فعلاً، وانما فقط اخفى الحادثة، وان اقصى ما يمكن ان يتهم به هو الخطف وهو أمر رفض الاجابة عن أي سؤال في شأنه. وشاع في المدينة أمر "حماية" ما يتمتع بها المجرم، ولم تملك قيادة الشرطة ازاء ذلك سوى ان تعتقل عدداً من كبار ضباطها ضمن التحقيق في القضية اذ ان الاسئلة زادت وباتت القضية تهدد الحكم نفسه. وأودع المجرم الحراسة الى حين الانتهاء من البحث العملي وفراغ مسؤول الطب الشرعي من تقريره ليقدم الى المحكمة التي تحدد موعد انعقادها في ظل محاولة من السلطات للاسراع بانهاء هذه القضية المثيرة. غير ان الاقدار كانت تخبئ منعطفاً جديداً في القضية. وافردوا له زنزانة في حبس انفرادي في ذلك السجن سيئ السمعة، والمعلومات القليلة المتوافرة تتحدث عن سوء معاملة تعرض لها داخل حبسه الانفرادي، وأن الحبس الفردي هو عقوبة توقع على الخطرين جداً وأرباب السوابق، وليس على متهم. وبالفعل حذر بعض التقارير الصحافية من ان الحبس الانفرادي ظرف مثالي للتخلص من منفذ يخاف منه مخطط الجريمة الأول والمستفيد منها. وفي العادة يجرد المسجون العادي من كل شيء يمكن أن يؤذيه مثل الآلات الحادة والأحزمة وما إليها، وفي السجن الانفرادي تكون الإجراءات أشد، حتى الطعام والشراب وآنيتهما. وبالفعل جرد المتهم من كل ملابسه عدا سروال طويل، لأنه وحيد في زنزانته الحارة الضيقة، تمر به اللحظات بطيئة وقاتلة. وبعد ثلاثة أيام من إيداعه الحبس، وفي وقت مماثل لوقت خطفه تلك الطفلة الوادعة المسكينة وجد مشنوقاً على شباك زنزانته بحبل فتله من ذلك السروال، بعد سبعين يوماً من تاريخ الجريمة. وزاد غموض القضية ان المجرم كان وعد المحقق بالادلاء باعتراف كامل في صباح اليوم التالي، لكنه انتحر أو نُحر بعد ساعات فقط. هل كان هناك من يسترق السمع؟ سؤال آخر لا يزال بلا إجابة. وثارت ريب وشكوك جديدة وهتفت صحف الصباح "هل مات منتحراً أم مقتولاً؟" و"من صاحب المصلحة في موت الخاطف؟". وبدت فكرة انتحار المجرم بتدبيره وتنفيذه وحده احتمالاً ضعيفاً بعيد الوقوع لأن الشبكة الحديد التي تحمي فتحة الضوء التي وجد معلقا منها بعيدة جداً ولا يتيسر بلوغها إلا بمساعدة آخرين، خصوصاً أنه مقيد اليدين والرجلين. ولإبعاد هذه الشكوك تنازلت الشرطة واخذت صحافيين الى تلك الزنزانة ومثلت امامهم طريقة الانتحار، لكنهم عادوا بتقارير تشكك أكثر في احتمال ان يكون قتل نفسه. ثم هناك الحبل الذي وجد مشنوقاً به وقيل انه فتله من سرواله، متى تم ذلك؟ إذا أحضر اليه الغداء وكشف انتحاره في أول المساء فكيف استطاع أن يجدل الحبل وهو مقيد ذلك الجَدْل القوى المتين الذي استطاع تحمله من دون أن ينقطع؟ وذهب الخاطف بالسر الرهيب معه إلى الأبد واشتد غموض الجريمة وازداد إلحاح الناس لمعرفة حقائقها وخفاياها. لكن السلطات راهنت رهانا رابحا على ان ذاكرة الناس ضعيفة، اذ سرعان ما انصرفوا الى هموم اخرى وبقي الضباط سجناء لبعض الوقت ثم اطلق سراحهم من دون الكشف عن نتائج التحقيق، وبقي السر موضوعاً للروايات حتى اليوم. من المؤكد أن جهات كثيرة كانت لها مصالح ومكاسب وراء إغلاق هذا الملف المزعج، وربما كانت تلك النهاية الغريبة للمجرم واحدة من وسائل إغلاق الملف