المنتخب الوطني يكثف تحضيراته لمواجهة باكستان    السعودية تقود العالم للاحتفال باليوم العالمي للبيئة    نسرين طافش: «النسويات» قاصرات منافقات.. ونوايا خبيثة !    "التعاون الإسلامي" ترحب باعتراف حكومة سلوفينيا بدولة فلسطين    نمو قوي للنشاط التجاري غير النفطي في السعودية خلال «مايو»    الإسباني "هييرو" يتولى منصب المدير الرياضي في النصر    تستمر 3 أيام.. والرزيزاء: احتفالنا ليس للصعود    أمير الباحة ل«التعليم»: هيئوا وسائل الراحة للطلاب والطالبات    أمير تبوك يطلع على سير الاختبارات بالمنطقة    بسبب اجتهاد شخصي.. هل تعطل العالم ب«سذاجة» ؟    دعوة عربية للتعامل الإيجابي مع جهود وقف إطلاق النار في غزة    «أندرويد» يسمح بتعديل الرسائل    كلية القيادة والأركان دعامة فاعلة في تعزيز قدراتنا العسكرية    أشاد بدعم القيادة للمشاريع التنموية.. أمير الشرقية يدشن مشروعي تطوير بجسر الملك فهد    «طيران الرياض» يعزز خطوطه العالمية    اتفاقية تعاون وصناعات دفاعية بين المملكة والبرازيل    5.3 مليار تمويل «السكني الجديد»    السعودية واحة فريدة للأمن والأمان ( 1 2 )    خلال ترؤسه جلسة مجلس الوزراء عبر الاتصال المرئي.. خادم الحرمين: المملكة تعتز قيادةً وشعباً بخدمة الحرمين الشريفين وقاصديهما    ضبط لص أخذ قيلولة خلال السرقة    صدق أرسطو وكذب مسيلمة    الحسيني وحصاد السنين في الصحافة والتربية "2"    الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف بمنفذ الوديعة الحدودي    انطلاقة مشرقة لتعليم عسكري احترافي.. الأمير خالد بن سلمان يدشن جامعة الدفاع الوطني    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين.. مؤتمر دولي عن البرنامج السعودي للتوائم الملتصقة    ناصحاً الحجاج.. استشاري: استخدموا الشمسية خلال التنقل في المشاعر    الشؤون الإسلامية تطلق حملة التبرع بالدم بالتعاون مع صحة جازان    البرازيل تستعرض أغلى بقرة في العالم    تخصيص منزل لأبناء متوفية بالسرطان    محافظ مرات يتفقد مشروع السوق بالبلدة التاريخية    فتح باب التقديم على برنامج فني رعاية مرضى    فيصل بن مشعل: خدمة ضيوف الرحمن رسالة عظيمة    «تكافل الخيرية» ترسم طريق الاستدامة    الملك يطمئن على ترتيبات الحج ويؤكد اعتزاز المملكة بخدمة الحرمين    التوزيع الخيري وإعاشة المشاعر يحركان أسواق تأجير«شاحنات البرادات»    القيادة تهنئ كلاوديا شينباوم بمناسبة فوزها بالانتخابات الرئاسية في المكسيك    «لا تضيّقها وهي واسعة» !    عالم عطور الشرق !    كيف يمكننا أن نتخذ قراراتنا بموضوعية؟    من أعلام جازان… فضيلة الشيخ الدكتور علي بن محمد الفقيهي    أوتافيو خارج قائمة البرتغال    وزير الشؤون الإسلامية يناقش تهيئة المساجد ومتابعة احتياجاتها    تعزيز مبادرة أنسنة الخدمات بتوفير مصاحف «برايل» لذوي الهمم من ضيوف الرحمن    تدشين كرسي الأئمة للإفتاء وإجابة السائلين في المسجد النبوي    جمعية تعظيم تطلق مبادرة تعطير مساجد المشاعر المقدسة    شاموسكا مدرباً لنيوم لموسمين    تنافس مثير في بطولة العالم للبلياردو بجدة    انتخابات أمريكية غير تقليدية    بعد انتشار قطع ملوثة دعوة لغسل الملابس قبل الارتداء    %8 استشارات أطباء التخصص العام    أمير تبوك يشيد بجهود المتطوعين لخدمة الحجاج    أمير نجران يُثمِّن جاهزية التعليم للاختبارات    الدوحة تسلم «حماس» مقترحاً إسرائيلياً.. ونتنياهو يطالب بضمانات أمريكية لاستئناف الحرب    مودي يحتفل بفوزه في الانتخابات الهندية رغم تراجع غالبيته    مفخرة التطوع    بدر بن عبدالله يُثمّن اعتماد مجلس الوزراء تنظيمات الهيئات الثقافية    الذييب يدشّن «جمعية اللغة العربية للناطقين بغيرها»    رئيس هيئة الأركان العامة : جامعة الدفاع الوطني تؤسس لمرحلة جديدة وانطلاقة مشرقة لمستقبل تعليمي عسكري احترافي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"القصر" و"المنشية" تراشقا بكل الأسلحة ولم يبق سوى اطلاق رصاصة الرحمة . قوة سودانية ثالثة داخل النظام تحسم الصراع بين البشير والترابي ؟
نشر في الحياة يوم 15 - 05 - 2000

تسارعت وتيرة التطورات السياسية في السودان الى درجة تصعب ملاحقتها. ففي غضون أيام أعلن الرئيس الفريق عمر البشير "طلاقاً بائناً بينونة كبرى" من زعامة الدكتور حسن الترابي الأمين العام "المجمّد" لحزب المؤتمر الوطني الحاكم. وكأن الأخير كان ينتظر قرار تجميد أمانته العامة ليعلن بدوره "مفاصلة نهائية" عن الضابط الذي أتى به نائبه المحامي علي عثمان محمد طه ليقود إنقلاب 30 حزيران يونيو 1989 بعدما رفض الضابط الذي كان مكلفاً قيادة الإنقلاب الإقدام على التنفيذ ما لم يحصل على تعهد في شأن موعد عودة المدنيين الى الحكم في ظل قانون جديد لتنظيم الحياة الحزبية والعمل السياسي الحر.
وفيما ترتسم علامات الإستفهام أمام مستقبل الترابي والبشير ، يتساءل المستقلون: من يحكم السودان الآن؟ وهل يمكن لنظام "ثورة الإنقاذ الوطني" أن يستمر بعدما انقلب على مؤسسه وعقله المدبر؟ وما أقصى سقف يمكن أن يحلم به البشير؟ أم ترغمه التطورات وتطلعات القوى الإقليمية والدولية على أن يتحول الى "جنرال أباشا" آخر يحكم بالسيف والبندقية وإرتياح دول الجوار؟
لم يكن مفاجئاً أن يعلن الرئيس السوداني قراره تجميد الأمانة العامة للحزب الحاكم، بما في ذلك أمينها العام الترابي. فقد كانت هذه الخطوة متوقعة منذ إعلان البشير قرارات 4 رمضان 12 كانون الأول/ ديسمبر 1999 التي حل بموجبها المجلس الوطني البرلمان ووضع حداً لسيطرة الترابي على الجهاز التنفيذي الذي يدير شؤون البلاد. ولم تكن "قرارات رمضان" نفسها مفاجئة لأي من القوى السياسية داخل البلاد وخارجها. إذ إن النظام بدأ يتشظى فعلياً بعد فشل محاولة إغتيال الرئيس حسني مبارك في العاصمة الأثيوبية أديس أبابا منتصف سنة 1995. لم يكن الترابي راضياً عن الضوء الأخضر الذي منحه أقطاب جناح الفريق البشير الذين يسيطرون على الأجهزة الأمنية والمنظمات السرية الخاصة المكلفة بالتنسيق مع الحركات الإسلامية في الأقطار الأخرى لتنفيذ محاولة الإغتيال. ولم يكن البشير أقل سخطاً على تلك المجموعة، فهو - وهذا ما حزّ في نفسه كثيراً - لم يكن أصلاً على علم بالعملية من أساسها. وحدث خلاف حاد بين البشير والترابي في شأن معالجة الآثار المترتبة على العملية الإرهابية التي رعى تنفيذها وزراء وأعوان تنفيذيون كبار. ورأى الترابي أن الأمر يقتضي التخلص من جميع أفراد الطاقم الذين وفروا الرعاية للعملية الفاشلة التي أدت الى أن يفرض مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة عقوبات إقتصادية وديبلوماسية على السودان. واكتمل بذلك سياج الحصار الذي ضرب حول النظام. وعلى رغم مكابرة قيادات الحكم، فإن الحصار أدى الى أزمات إقتصادية خانقة، واستنزف القدرات العسكرية للحكومة وميليشيات الجبهة الإسلامية القومية التي تسيّرها، حتى لم تعد قادرة على إسترداد الكرمك وقيسان جنوب، وأخيراً همشكوريب شرق.
ولم يكن الخلاف بين الترابي والبشير شأناً سرياً كما يتوقع في مثل هذه المنظومات العقائدية المغلقة. بل كان شأناً شائعاً يتناقله المواطنون. وبدا من البداية أن البشير أضحى يتململ شيئاً فشيئاً من الحصار المحكم الذي ضربته حوله الجبهة الإسلامية التي ينتمي إليها، حسب اعترافه في المؤتمر الصحافي الذي عقده غداة إعلانه قرارات الرابع من رمضان. وكان الشارع السوداني يتندر منذ نحو العام 1995 بالرفقة الدائمة من جانب وزير الداخلية اللواء عبد الرحيم محمد حسين للبشير. حتى قيل إن شخصاً زار الرئيس في منزله وحكى له عن حلم رآه في المنام. وسرد أنه التقى البشير في حلمه. فقاطعه الأخير: هل أنت متأكد أن الشخص الذي رأيته هو أنا؟ فرد محدثه بالإيجاب. فسأله: وهل كان معي اللواء عبد الرحيم محمد حسين؟ فرد الرجل بالنفي. فقال له البشير: إذن لست أنا من رأيته!
وكثرت الأقاويل عن ضيق الرئيس ذرعاً بهذا التضييق والرقابة. غير أن ذلك لم يثر تعاطف الشارع السوداني معه. ذلك أن تفكير المواطن العادي ينصرف دوماً الى النتيجة المنطقية التي تفترض أن البشير أتى بنفسه الى هذا الوضع طائعاً مختاراً وليس مرغماً. وكان كل شيء في جهاز الدولة والناموس الإجتماعي السائد يفضح العلاقة السافرة بين الحكومة والجبهة الإسلامية القومية. لكن البشير وأعوانه إستمرأوا نفي تلك العلاقة. وكان ذلك بحد ذاته تخطيطاً ذكياً. فقد أثار الإرتباك في أذهان العامة، وأحدث بلبلة في الطريقة التي تنظر بها بعض دول الجوار الى النظام. وطوال السنوات التي مضت منذ وقوع إنقلاب 1989، بقي الترابي - الذي أسبغ عليه أتباعه لقب "الشيخ" - القوة الحقيقية التي تدير جهاز الدولة، ولكن من وراء ستار. هناك لجنة رفيعة المستوى تتبع التنظيم ومهمتها تعيين شاغلي المناصب الدستورية. ومنذ اليوم الأول لم يمنح البشير حق الإعتراض لنقض مقررات اللجنة. ولم يعترض الرجل ما دام خاضعاً لسياسة الحزب وأدبه.
وعلى مر السنوات ضيع البشير عدداً من الفرص التي كان يمكنه أن ينتهزها لإبراز شخصيته القيادية المستقلة وإضفاء مسحة "قومية" تعبر المصالح الحزبية والإنتماء الضيق الى الجماعة الإسلامية. وشيئاً فشيئاً وجد الرئيس السوداني نفسه بين كماشة، أحد فكيها الترابي وهيمنته الطاغية على الحزب والدولة، الى درجة أضحت تداني القداسة، والفك الآخر يتمثل في "أبناء" الترابي الذين احتضنهم وحرص على ترفيعهم منذ عهدهم بالدراسة الجامعية. ويأتي في طليعة هؤلاء النائب الأول للرئيس علي عثمان طه، وهو الرجل الثاني في الحركة كلها. ومنهم الدكتور غازي صلاح عتباني وزير الثقافة والإعلام، وهو "سكرتير" سابق ل "الشيخ" كان قد كلف أمانة المؤتمر الوطني لدى تأسيسه، ولم ينس ل "الشيخ" أنه أزاحه فجأة من منصبه ليتولاه بنفسه.
وفي ما كان نظام "الإنقاذ" يبدو متجانساً في أعماقه، وإن كثرت ألسنة المتحدثين باسمه وتضاربت تصريحاتهم ومفاهيمهم العملية، كان الغاضبون على الترابي قد حزموا أمرهم على الخروج عليه. ولم تعجبهم، بوجه الخصوص، الطريقة التي عالج بها ذيول محاولة أغتيال الرئيس مبارك، إذ طاح عدداً من الرؤوس من مناصب تنفيذية وأمنية مهمة. وزادهم ضيقاً حرص "الشيخ" على "تطعيم" النظام بقيادات حزبية سابقة ومجموعات من الجنوبيين وعدد كبير من أنصار الرئيس السابق جعفر نميري. وكانوا يحسبون أنه سيأتي يوم يطلق لهم فيه "الشيخ" أياديهم تعييناً ونقلاً من دون رقيب.
واستمرت الإزدواجية التي عدها الرئيس السوداني في مقدم الأسباب التي دفعته الى تهميش الترابي منذ اليوم الأول للنظام: خلف كل وزير مدير لمكتبه من أبناء الجبهة الإسلامية القومية، هو الذي يحدد السياسات ويراقب تنفيذها ويشرف عليه. وفي كل مؤسسة "قومية" أنشئت مؤسسة موازية للإشراف على المؤسسة الأم. وشمل ذلك الجيش والشرطة والخدمات المحلية. وتعددت الأجهزة الأمنية: جهاز لأمن الثورة، وجهاز أمن خاص، وجهاز للأمن العام، وجهاز أمن خارجي، وآخر داخلي. وتحدث السودانيون عن "مجلس أربعيني" يسوس الأمر من وراء ظهر الحكومة. وكثرت الإنتقادات التي وجهت الى إعتماد سياسة تقريب أهل الثقة والولاء وإبعاد أهل الكفاءة غير المنتمين الى المنظمة الإسلامية. وسادت ثقافة إرسال اللحى، وتقليد العبارات التي يطلقها "شيوخ" النظام. وتعددت المنظمات الإسلامية الخيرية التي استغلت تلك الصفة لتحقق مكاسب خيالية من خلال الفساد والتحايل على القانون والحصول على استثناءات وإعفاءات جمركية، حتى هدد وزير المال بالإستقالة إن لم يمنح سلطة منح الإمتيازات ومنعها. وهي واقعة مشهودة.
وخاض الجناحان حرباً كانا يحسبانها أنها تدور في صمت بعيداً عن أعين الآخرين ومسامعهم. وضجت القاعدة بتلك الإزدواجية وتوسع "الشيخ" في تقريب قياديين غير منتمين أصلاً الى الجبهة الإسلامية، خصوصاً بعد محاولة إغتيال الرئيس مبارك، وطلبت من الترابي ونائبه الذي تفرغ لإدارة النظام من مكتب تجاري في قلب سوق الخرطوم أن يخرجا الى العلن ويتوليا وظائف عمومية حتى لا يتحمل الآخرون مسؤولية إخفاق سياسات النظام. خرج الترابي لرئاسة البرلمان، وشغل النائب حقيبة وزارية ضخمة كلفت مهمة التخطيط الإجتماعي وتغيير البنية الوجدانية للأمة السودانية المتعددة الشعوب والقبائل.
ويقول قيادي إسلامي بارز في الخرطوم إن إعادة توزيع الحقائب والمهمات إقتضت ترضية الامين العام السابق للحزب الحاكم الدكتور غازي عتباني بحقيبة الثقافة والإعلام. واكتشف الوزير لاحقاً أن الحقيبة خاوية إلا من ملفات أربع أو خمس إدارات مصلحية تابعة للوزارة. وحين طفحت الخلافات وظهرت العداوات، ظهرت "مذكرة العشرة" التي تقدم بها عشرة قياديين الى مؤتمر الحزب منادين بتقليص صلاحيات الأمين العام. وكانت قد أعقبتها طعنة نجلاء أخرى أغمدها التلاميذ في ظهر شيخهم حين اقترحوا عليه، وهي رغبة نقلها النائب الأول لرئيس الجمهورية الى الترابي بصفته نائبه أيضاً في قيادة الحركة الإسلامية ودولتها، أن يستقيل من رئاسة البرلمان ليتفرغ لبناء الحزب. لكن "الشيخ" إستطاع بدهائه وذكائه أن يلمح مكر الخطة وخديعتها، فسعى الى إبطالها قبل أن تكتمل فصول التآمر عليه.
ومنذ كانون الأول ديسمبر 1998، بعد فشل مؤامرتي الإستقالة و"مذكرة العشرة" - بدأ الترابي عملياً فرز الأكوام داخل منظومته. ومثل كل دهاقنة السياسة الذين تخرجوا في المدارس والجامعات الغربية، فإنه لا يستل سيفه ليغمده في صدر خصمه ليحسم المعركة، بل يستخدم الأدوات القانونية المتاحة، ويبدي صبراً غير عادي في تكتم مراراته، ويصبر الى ما شاء الله دون أن يستفزه وجه ولا تصرف ولا تذكرة بما بينه وبين الآخرين.
هكذا جاء المؤتمر التأسيسي للمؤتمر الوطني في تشرين الأول أكتوبر 1999. كانت المعركة بين الجناحين على أشدها. وكان صبر الترابي قد نفد. وظل يعتقد على الدوام بأن تخطي هؤلاء الذين علمهم فلما إشتدت سواعدهم رموه أمر لن يستغرق طويلاً. وانكشف الصراع، وحشد الترابي مؤيديه الذين إستقطبهم من خارج الأوعية التقليدية للجبهة الإسلامية القومية. وكثف ندواته وسط الطلبة وكتائبهم "الجهادية". لكن الترابي لا يعبأ كثيراً للتناقضات التي يأتي بها من حين لآخر. يعوّل على أن مرور الزمن كفيل برتق الفتوق وازالة التناقضات، غير منتبه الى أنها تأكل صدقيته، وتنتقص من الهالة التي أضفاها عليه أتباعه ومريدوه. ففي خضم خصومته مع من عقوه نسي زفاف الشهداء الى الحور العين في جنان النعيم، وهي ثقافة أشاعها حتى غدا من لوازم مأتم الشهيد أن يؤتى بالمطربين لينشدوا أهازيجهم في مأتمه. وجاء في ندوة له مشهودة لينكر وجود الحور العين، مما أثار عليه خصومات أشد، وأفقده قطاعاً مهماً ممن كانوا يهتدون بهديه.
إن الترابي ليس شخصية عادية ككل السياسيين الذين تزخر بهم الساحة المحلية في السودان. لقد استطاع بفكره القانوني ودهائه التنظيمي أن يتغلب على السواعد التي رمته. فسقط من سقط في انتخابات هيئات الحزب ولجانه القيادية الرفيعة. وطار من طار من مجلس الوزراء في التعديلات الوزارية المحدودة التي أعلنت. ولم يتورع "الشيخ" في تطبيق الأسلوب نفسه لحمل رئيس الجمهورية على قبول صلاحيات محدودة في رئاسة الحزب، ومثلها في رئاسة الدولة. وجاءت اقتراحات التعديلات الدستورية متلاحقة. تأخذ من الرئيس حقه في تعيين عماله على الولايات. وحاول أن يلزمه أن يخلع بزته العسكرية إن أراد أن يبقى رئيساً للبلاد.
لم يكن أمام الرئيس وجماعته سوى اللجوء الى كل الأساليب المتاحة لرد غارات الترابي. وكان طبيعياً أن يأتي الهجوم المضاد غير منسق، واضطر كل من اصابته سهام "الشيخ" أن يجد الطريقة المناسبة لضمان النجاة. وفي هذا السياق لم يتردد تلاميذ "الشيخ" في إستخدام ورقة العنصرية لضرب رجالاته. كان أول ضحايا الصراع على القمة الرجل الثالث سابقاً الثاني حالياً في حلقة الترابي، وهو الدكتور علي الحاج الذي ينحدر من مناطق الغرب التي يغلب عليها العنصر الإفريقي الجنس. واضطر وزير الإعلام غازي عتباني الى الإستغاثة بالثقل الجهوي لأصهاره ليضمن بقاءه في الهيئة القيادية للحزب الحاكم.
وحين احتدم الصراع بين الجناحين، زج أحدهما ب "كتاب أسود" يعدد مظالم أهل الغرب والشرق نتيجة هيمنة أبناء الولايات الشمالية على المركز وشؤؤن الأقاليم. وقبل أن يهدأ الضجيج الذي أثاره توزيع "الكتاب الأسود"، أصدرت الأمانة العامة للحزب الحاكم "كتاباً أبيض" يحوي الوثائق والإتفاقات والعهود التي توصل إليها الجناحان في سياق المفاوضات الماراثونية لحل خلافاتهما المستعصية.
انتهت الأزمة بعمليات إقصاء متبادل. يؤكد الرئيس السوداني أنه لن يتراجع عن قراراته. ويقول الترابي إنها "مفاصلة" نهائية. والسياسة في السودان - على رغم بدائيتها - تستطيع أن تذهل مراقبيها، لسرعة تقلباتها وكثرة تبدلاتها في فترة زمنية محدودة. لذلك لا يمكن الجزم بما ستنتهي إليه الأمور. كثيرون يميلون الى ترجيح فوز الرئيس السوداني في المعركة النهائية، باعتبار أنه يملك قوة الدولة ومقدّراتها. ويميل آخرون الى ترجيح أن الترابي رابح لا محالة، لأنه صانع الإنقلاب وصانع زعامة البشير من أساسها، وهو يعرف جيداً كيف ومتى سيهد عليه البنيان. ويذهب بعض هؤلاء الى أن الترابي يملك أوراقاً مخفية كثيرة تتمثل في الميليشيات وكتيبة "الدبابون" الذين يفجرون أنفسهم على دبابات العدو في عمليات إنتحارية شجاعة، وفي ولاء عدد كبير من ضباط القوات المسلحة والشرطة.
غير أن الصراع الذي يتفرج عليه السودانيون والعالم أجمع ليس صراعاً بين قوى حزبية متشاكسة في ساحة ديمقراطية. إنه صراع بين جناحي حركة تمرست - مسلحة بقوة الدولة وطاقاتها ومواردها على مدى عشر سنوات - على تفجير الأوضاع في كل مكان، ومواجهة خصوم من كل الأحجام، من أميركا حتى دولاً مجاورة. وما دام هذا النزاع قد بلغ طور التجميد والفصل، وتفاقم الى درجة مصادرة شركات الترابي وتجميد الأرصدة المالية لجناحه ليبدأ إن شاء أن يواصل السياسة من الصفر، فلا بد أن ذلك سيستدعي رداً مناسباً من جانب "الشيخ". لن يهمه أن يعتقل، فهو من المعتقل كان يدير النظام في أيامه الأولى. ولا يهمه أن يقتل، فستكون تلك شارته لأتباعه ليطبقوا سياسة "الأرض المحروقة" ضد منافسيهم. وإذا سكت البشير مداً لحبال الصبر، وتمسكاً بدعاوى الإنفتاح والديمقراطية، فإن "الشيخ" لن يلزم دارته الفخمة في ضاحية المنشية.
وفي خضم هذا الإضطراب والصراع وأجواء الخوف من المجهول، يخشى السودانيون أن تهب "قوةثالثة" من وسط غبار المعارك والإبتلاءات لتعزل "الشيخ" و"تلامذته"، وتستولي على السلطة التي ظلت تمسك بتلابيبها بعيداً عن الأضواء طوال السنوات العشر الماضية. إنها قوة عناصر الأمن والإستخبارات والميليشيات التي تشرف على بقاء النظام وصد كل إختراق لصفوفه من قبل الأعداء والمعارضين. وهي قوة لا يعرفها السودانيون، بل لا يعرفها معظم أقطاب الجناحين المتناحرين! وهي القوة الوحيدة التي تتوقف على تحركها احتمالات حسم الصراع، إذ إن الإنشقاق في هرم الجبهة الإسلامية القومية تمدد حتى القاعدة الطلابية والنسائية التي باتت تسلم بأن الحركة ستخوض غمار الفترة المقبلة بحزبين. ربما لهذا بدأ السباق نحو ولاء ضباط الجيش والقوى الأمنية من جانب "المنشية" و"القصر"... و"الحشاش يملأ شبكته" كما جرى المثل
أقطاب جناحي الصراع
جماعة البشير
- المحامي علي عثمان محمد طه: النائب الأول لرئيس الجمهورية. الرجل الثاني في قيادة الجبهة الإسلامية القومية. لكن الترابي فصله نهائياً من الجبهة رداً على قرار البشير تجميد أمانته العامة. يوصف بالذكاء والدهاء، ولا يحب التحدث الى الصحافة. منتم الى الحركة الإسلامية بزعامة الترابي منذ نهاية الستينات. تولى مهمة الإتصال بين الجبهة الإسلامية والعسكريين، وكان مسؤولاً عن تدبير إنقلاب 1989، ويعتقد على نطاق واسع أنه دبر أيضاً إنقلاب كانون الأول ديسمبر 1999 الذي اكتملت فصوله بتجميد الترابي في 6 أيار مايو الجاري.
- الدكتور غازي صلاح عتباني: وزير الثقافة والإعلام الناطق الرسمي باسم الحكومة. برز ضمن المجموعة التي انتدبها التنظيم لاحتلال دار الهاتف في عملية الغزو التي تعرض لها نظام الرئيس السابق جعفر نميري العام 1976. اختير لاحقاً مديراً لمكتب الترابي. ساءت علاقته مع الفريق البشير أثناء توليه حقيبة الشؤون السياسية في القصر الرئاسي ووزارة الدولة في وزارة الخارجية. لكنه انضم الى معسكر الرئيس بعدما نحي من منصب الأمين العام لحزب المؤتمر الوطني. ويتردد أن نيته الواضحة في التعويل على صلة المصاهرة التي تربطه بآل المهدي وحزب الأمة جعلت أقطاب جناح البشير يتوجسون منه خيفة. برز أخيراً مدافعاً عن الوفاق الوطني، وقام بدور كبير في إقناع حزب الأمة بإعادة قياداته من المنفى الى البلاد.
- الدكتور نافع علي نافع: المدير السابق لجهاز الأمن. يتولى حالياً منصب مستشار الرئيس لشؤون السلام، وهي حقيبة تعنى أساساً بالتفاوض مع ثوار الجيش الشعبي لتحرير السودان والجماعات الجنوبية الأخرى. أقيل من منصبه مديراً لجهاز الأمن إثر فشل محاولة إغتيال الرئيس مبارك. يعتقد على نطاق واسع أنه لا يزال يمارس نفوذاً قوياً على الأجهزة الأمنية في البلاد، خصوصاً أن مستشارية السلام في القصر الرئاسي تعتمد على العمل الإستخباري والتمويل لتحقيق إختراقات في صفوف القيادات الجنوبية المبعثرة. الى جانب الغموض العام الذي يحيط بشخصيته، فإن إدارته لقوات الأمن منذ وقوع إنقلاب العام 1989 أثارت جدلاً في شأنه، مما أدى الى تدني شعبيته.
- المحامي عبد الباسط صالح سبدرات: قيادي شيوعي سابق إنشق عن الحزب الشيوعي في عهد الرئيس نميري. دافع عن نميري وأعضاء مجلس ثورة 1969أمام القضاء السوداني في العهد الديموقراطي الأخير. تولى حقائب الإعلام والتربية والعدل قبل أن يعين مستشاراً للرئيس في الشؤون السياسية والقانونية. تربطه صداقة وطيدة مع البشير شخصياً، ومنها يستمد تقلبه في المناصب الدستورية. يصفه أقطاب الجناح الآخر في الحزب الحاكم بأنه يحرص على التصرف باعتباره "جبهوياً أكثر من الجبهة الإسلامية نفسها".
- اللواء بكري حسن صالح: وزير شؤون رئاسة الجمهورية. صديق ورفيق سلاح للفريق البشير. تولى على مدى سنوات الشؤون الأمنية أثناء عضويته لمجلس قيادة الثورة المحلول. بعد إنتخاب البشير رئيساً للجمهورية عينه مستشاراًَ له في الشؤون الأمنية، وكلفه شغل حقيبة الداخلية، ثم أعاده الى القصر وزيراً لشؤون الرئاسة. شخصيته غامضة. غير منتم الى التيار الإسلامي. ثقة البشير به تؤهله لدور مستمر قرب الرئيس. برز عداؤه لجماعة الترابي حين انتقد رفض المجلس الوطني لطلب الرئيس تأجيل مناقشة التعديلات الدستورية التي أدت الى "فرز الأكوام" بين جناحي النظام.
- البروفيسور ابراهيم أحمد عمر: وزير التعليم العالي والتربية السابق. قيادي إسلامي مخضرم، لكنه على غير وفاق مع زميله الترابي. وجه إنتقادات مريرة الى الترابي قبيل تفاقم الأزمة في الحزب الحاكم. ولما أقصاه الترابي تنظيمياً، إحتضنه البشير وعينه مساعداً لرئيس الجمهورية، ويقدّم الى المواطنين بطريقة توحي بأنه المرجعية الجديدة للإسلاميين بعد تهميش الترابي وتجميده. أكاديمي لم تعرف له شعبية في العمل العام.
جماعة الترابي
- الدكتور علي الحاج محمد: نائب الأمين العام للمؤتمر الوطني. طبيب متخصص في الأمراض النسائية والتوليد. برز في مستهل حياته قيادياً في تنظيم جهوي ينادي بنهضة إقليم دارفور. بدأ علاقته مع الترابي نحو العام 1957. كان يتطلع في العهد الحزبي الأخير الى منصب الرجل الثاني في الجبهة الإسلامية، لكن صديقه اختار علي عثمان محمد طه نائباً له واختاره في موقع الرجل الثالث رئيساً لمجلس شورى الجبهة. عين وزيراً للتجارة في الحكومة الإئتلافية التي تزعمها الصادق المهدي في 1988. كلف ملف التفاوض مع الجنوبيين بعد إنقلاب 1989وحقق إختراقات مهمة أسفرت عن شق الجيش الشعبي لتحرير السودان وتمويل تشظياته اللاحقة. كان استبعاده من وفد الحكومة الى مفاوضات السلام ليحل الدكتور غازي صلاح عتباني محله إيذاناً ببدء المواجهة الفعلية بين الجناحين. متمرس في العمل الشعبي ويعزز موقعه بالورقة الجهوية التي يملكها.
- يس عمر الإمام: قيادي مخضرم لكن التنظيم لم يقدم له في عهدي النميري والبشير أكثر من رئاسة هيئة تحرير إحدى الصحف الحكومية بدرجة وزير دولة. خبير في العمل الشعبي والتعبئة، وتتمدد علاقاته العامة لتشمل غالبية القوى السياسية في البلاد. يتولى حالياً منصب أمين حزب المؤتمر الوطني في ولاية الخرطوم. يصعب أن يتصور المراقب غيابه في أي تنظيم يرعاه الترابي.
- ابراهيم السنوسي: برز تنظيمياً من خلال مشاركته في القيادة العسكرية لعملية الغزو التي حدثت العام 1976. عينه الترابي نائباً له في أمانة المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي الذي تمت تصفيته أخيراً في إطار التناحر بين جناحي التنظيم الحاكم. تقدم باستقالته من منصب والي ولاية كردفان وسط أجواء الخلافات على التعديلات الدستورية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.