الطابق الاول للمعهد الوطني العالي للموسيقى يغصّ بالعازفين من لبنانيين، وبولونيين، ورومانيين وروس. كلّ يحمل آلته وأوراق نوطاته ويستعد للذهاب لتناول الغداء بعد تمارين متواصلة استمرت من التاسعة صباحاً. انهم أعضاء الأوركسترا السمفونية الوطنية التي يقودها ويشرف عليها رئيس الكونسرفاتوار الدكتور وليد غلمية الذي تلتقيه خارجاً من "الأوديتوريوم" متصبباً عرقاً ومنهمكاً يجيب على هذا وذاك من العازفين. لكن ما ان يستهل غلمية الحديث عن الموسيقى حتى يهدأ، ويروح يغوص في بحر قاموس يستخرج منه كلمات، مثل الابداع، والارتقاء والسمو. وغلمية المتمسك دوماً بالجذور الأصيلة والرافض للأعمال السائدة يضم رصيده ألحاناً عدة نجحت لكنه لم يجد ذاته في شيء سوى تأليف الموسيقى الكلاسيكية، له خمس سمفونيات استوحى موضوعاتها من أحداث أو أشخاص تاريخيين هي: القادسية، المتنبي، اليرموك، الشهيد والمواكب. وهو في صدد تأليف السمفونية السادسة وعنوانها "المجد". يصف غلمية موسيقاه بأنها "الشرق في قالب درامي كبير"، معتبراً ان لا موسيقى حقيقية تبث اليوم عبر وسائل الاعلام، وأن المؤلفين الموسيقيين الحقيقيين صاروا عملة نادرة. ويرى ان "لا أحد يجرؤ على الغاء الأوركسترا السمفونية الوطنية التي أصبحت أمراً واقعاً"، وأن "الحل الوحيد لتطوير موسيقانا الشرق - عربية لا يكون الا عبر أوركسترا متكاملة". تصف نفسك بأنك "مجنون موسيقى"، هل هذا يؤكد ان "الجنون فنون"؟! - يضحك أعتقد ان الفنون جنون. ربما المقصود في هذا القول ان رواد الفن العظيم أصبحوا نادرين مثل المجانين الذين يشكلون أقلية في المجتمعات. تعتبر نفسك أيضاً من آخر المدافعين عن الموسيقى الجدية، ما هو سلاحك الأمضى في مهمتك هذه، هل هو التأليف الموسيقي أم إدارة المعهد الوطني العالي للموسيقى أم قيادة الأوركسترا؟ - أنا واحد من تيار هدفه الدفاع عن الموسيقى الجدية ولست آخر المدافعين. لو كنت كذلك فهذا يعني اننا متجهون صوب كارثة. لا شك بوجود توجهات سريعة وغير لائقة في وسائل الاعلام تنشر الموسيقى والأغاني الاستهلاكية السريعة. هذا الأمر موجود في المجتمعات كافة كرافد بسيط لكنه تحول لدينا الى رافد أساسي وكامل. علام نستند في الموسيقى اليوم؟ هل على أغنيات وموسيقى "الفيديو كليب" الصارخة والمترافقة مع آلات زاعقة؟ فيديو كليب! لكنك في العام الماضي شاركت في لجنة التحكيم ضمن "المهرجان الأول للفيديو كليب" وقمت باختيار بعض الأغنيات التي نالت جوائز، كيف تفسّر هذا الأمر؟ - صحيح انني شاركت، لكنني أنكرت أية قيمة لكل الأغنيات التي سمعتها. ولا تزال الأوراق والمستندات التي تثبت رأيي موجودة لدي. لم أختر سوى أغنيتين لكاظم الساهر وواحدة لإلهام المدفعي، وما تبقى كان كله للرمي لأنه معيب، سمعاً ونظراً. تترأس الكونسرفاتوار منذ عام 1991، ما التغييرات التي أحدثتها فيه لا سيما على صعيد المناهج الموسيقية؟ - لقد تغيرت المناهج كلها من دون استثناء. فضلاً عن ذلك وضعت مناهج للآلات الشرقية لم تكن يوماً في تاريخها: للعود، للقانون، للناي والدف والطبلة، كما تعددت الاختصاصات وتنوعت، واستحدثت اختصاصات في التأليف الموسيقي وقيادة الأوركسترا لم تكن موجودة قبلاً. شرقية وغربية ثمة من ينتقد تركيز الكونسرفاتوار على تدريس الموسيقى الغربية اكثر من الموسيقى الشرقية، ما تعليقك؟ - هذا كلام لأشخاص لا يعرفون ماذا يحصل في الكونسرفاتوار. لم يعرف المعهد في تاريخه اقبالاً على تعلم الموسيقى الشرقية مثل اليوم لا سيما مع وجود المناهج الجديدة. وأؤكد ان الطلاب فيه هم مناصفة بين الموسيقى الشرقية والغربية. تقول في حديث لك "حبي للموسيقى المجردة هو الذي دفعني الى دراسة الموسيقى الكلاسيكية". من هو جمهور هذه الموسيقى؟ وهل سيأتي يوم يتذوق فيه الجمهور العربي الموسيقى المجردة من الكلام؟ - ان الكلمة في الشرق جوهرية. كادت الكلمة ان تقضي على المعارف والابداعات كلها من الفن التشكيلي الى الموسيقى. طالما تلازمت الابداعات، لا سيما في الموسيقى، مع الكلمة لكن الموسيقى أوسع، ومساحتها أبعد، وهي تحدث كما يشاؤها المتلقي بينما يحدث الشعر كما يشاؤه الشاعر. كلما ارتقى المتلقي بالاستماع جذبته الموسيقى المجردة، بينما يصطدم الشعر في الكلمة ومدلولاتها. الموسيقى هي الرقم والرياضيات والمعادلة والحلم والنفس. وبرأيي لقد وصلنا الى وقت يقدّر الجمهور فيه الموسيقى. والحفلات التي تحييها الأوركسترا السمفونية الوطنية، والشرق عربية تشهد حضوراً كثيفاً، من جهة اخرى نرصد ان شركات الاسطوانات تستورد بكثرة أعمال كبار الموسيقيين. هل كانت هذه الحفلات ستشهد الجمهور الكثيف نفسه لو لم تكن مجانية؟ - بالطبع، فالمهرجانات في بيت الدين وبعلبك تشهد الحضور نفسه. الشرق في قالب درامي بعد كتابتك 5 سمفونيات، بماذا ترى انك تميزت كمؤلف موسيقي، وما هي هوية موسيقاك؟ - موسيقاي هي الشرق في قالب درامي كبير. لماذا توقفت عن التلحين بعدما قدمت ألحاناً جميلة؟ - لم أتخل عن التلحين بل عن المناخ والمكان والشكل الذي يطلب مني التلحين فيه. أنا مستعد لتلحين عمل مسرحي درامي كبير يتضمن أغنيات، ولم ألحن في حياتي الا ضمن مهرجانات. ان "ميكانيزم" دماغي وجسدي لا يحركه سوى التأليف الموسيقي، وأرى نفسي محاصراً في زاوية عندما ألحن أغنيات. ترف وركام قمت بتأليف الأوركسترا السمفونية الوطنية وهي تضم 88 عازفاً منقسمين بين لبنانيين وأوروبيين شرقيين، ما الغاية منها؟ ألا تعتبرها ترفاً في بلد طالع من ركام الحرب؟ - أعتقد ان كل شيء هو ترف باستثناء المعرفة. ان الأوركسترا السمفونية الوطنية، والأوركسترا الوطنية اللبنانية للموسيقى الشرق - عربية، ليستا ترفاً. انهما حاجة وعلم ومعرفة وثقافة وابداع وارتقاء وتهذيب وتآلف، فيهما الكثير من المعاني الفكرية. ثمة أمور أعتبرها ترفاً في لبنان مثل بعض الوزارات التي لن أسميها. ما هي الصعوبات التي عانيتم منها في البدايات؟ - الصعوبة الأساسية كانت مالية، لكنها حلّت بعد صدور مرسوم تأسيس الأوركسترا السمفونية. وأنا فخور بأن 50 في المئة من عازفيها هم من أهل البلد، ولأن القسم الأكبر من العازفين في بقية الأوركسترات غير اللبنانية والعربية ليسوا من أهل البلد. ما هي ضمانة استمرارية هذه الأوركسترا؟ - لن يجرؤ أحد اليوم على الغاء الأوركسترا السمفونية الوطنية، والا ألغى جزءاً من حلم الناس. لقد صارت أمراً واقعاً للبنان اليوم والغد. انسجام وتناغم هل ترى ان الانسجام قائم بين عازفي هذه الأوركسترا، خصوصاً ان أعضاءها من جنسيات مختلفة؟ - لقد وصف اختصاصيون عالميون في الموسيقى هذه الأوركسترا، بأنها من أرقى الأوركسترات في العالم، ونحن نتمرن يومياً 4 ساعات ولدينا حفلة كل 4 أسابيع، وهذا كفيل بتأمين الانسجام الكلي. أنشأت أيضاً الأوركسترا الوطنية اللبنانية للموسيقى الشرق - عربية وتضم عازفين متخصصين، ما هدفها؟ - ان الموسيقى الشرق - عربية تملك من النبل الصوتي والتصويتي الشيء الكثير، وهذا الأمر غير موجود في الموسيقات والأغاني التي تبثها وسائل الاعلام، وأود التكلم عن بدعة جديدة هي الموسيقى الارتجالية. والارتجال موجود في موسيقات الشعوب كلها لكنه لا يصبح الا من آلة منفردة، تكمن مشكلتنا بأنه ليس لدينا تصويت متآلف من آلات عدة في آن واحد. ان دور الأوركسترا الشرق - عربية هو التأكيد ان الحل الوحيد لتطوير موسيقانا هو في الأوركسترا. وهل تتطور الكيمياء من دون مختبر والطب من دون مستشفى؟ ان معظم أعضاء هذه الأوركسترا يعزفون في المطاعم والفنادق، وبالتالي ثمة اختلاف في المزاج الموسيقي بين ما يعزفونه في عملهم وما يقدمونه في الأوركسترا، هل يستطيع هؤلاء تقديم موسيقى غير تجارية، أليس في الأمر مجازفة؟ - نحن لم نجازف البتّة، وعندما يعزف هؤلاء في المطاعم والفنادق تكون الحاجة دافعهم الرئيسي، لكن عندما تنوجد هيئة أوركسترالية يمكنهم العزف فيها لا يترددون. ومعظمهم يقول لي حين بدأنا العزف في الأوركسترا صرنا نضطرب في العزف في أماكن أخرى، لأننا نعيش حالة موسيقية مختلفة تماماً هنا، وهم يرغبون في التخلص من المستوى الآخر. ما رأيك بمستوى التأليف الموسيقي السائد حالياً؟ - انه بمستوى وسائل الاعلام. أعلم ان هذا الكلام قد يخلق لي عداوات لكنه صحيح. ثمة مؤلفون موسيقيون مهمون مثل هبة القواس وعبدالله المصري... بالنسبة الى هبة القواس، ثمة من يعتقد انها لم تنل بعد الخبرة الكافية كي تنضج تجربتها الموسيقية وتختمر؟ - سمعت عبارة "طلعت بسرعة" مراراً، وهنا أتساءل كيف لا "يطلع" الانسان بسرعة؟ أنت مثلاً أمضيت أعواماً طويلة في التجارب والاختبار والممارسة... قبل التأليف... - لا شك بأن هبة ستكتب أعمالاً مختلفة بعد 10 أعوام. أما بالنسبة الي فقد أمضيت أعواماً طويلة من دون ان أكتب لأنه لم تكن توجد أوركسترا في لبنان. وعندما وجدت الحائط مسدوداً في وجهي، سجلت مع الأوركسترا السمفونية الوطنية اليونانية. وكان عمري 23 عاماً عندما نظمت مهرجانات بعلبك وفيها مسؤولية دولية. ما هي رسالة موسيقى وليد غلمية؟ - لا يحمل تأليفي رسالة او نصيحة او اقتراحاً، هدفه الأوحد الإبداع والمعرفة. في 15 كانون الثاني يناير المقبل تبلغ الأوركسترا السمفونية الوطنية عامها الأول، ماذا تحضرون في هذه المناسبة؟ - سنقدم حفلاً خاصاً بعنوان "ريترو" يجمع بعض المقطوعات التي عزفتها الفرقة، وثمة كلام عن سفر الى الولاياتالمتحدة. هل من كلمة أخيرة؟ - أحب أن أغتنم هذه المقابلة لأطرح مشكلة كبيرة نعاني منها وتتمثل بالمكان، في بيروت قاعة واحدة تابعة للدولة هي قاعة الأونيسكو، وقد دفع الكونسرفاتوار 100 مليون ليرة لبنانية لتحسين الهندسة الصوتية لتكون القاعة التي تتسع ل1250 كرسياً مقراً دائماً للأوركسترا. لكننا نفاجأ حين نريد حجز القاعة بمحاضرات وحفلات سياسية وأعراس تمنعنا من إقامة الحفلات. لذا أوجه نداء عبر "الوسط" الى وزير التربية والتعليم العالي ليعمل على ان تكون قاعة الأونيسكو مقراً دائماً للأوركسترا .