من كان يتصوّر عند صدور "الجنس الآخر" في العام 1949، أن مؤلَّف سيمون دو بوفوار سيصبح المرجع الأساسي في تاريخ الحركة النسويّة خلال القرن؟ ومن كان يتصوّر أن هذا الكتاب الذي أثار نقاشاً حادّاً في حينه لم يخبُ كليّاً مع مرور الزمن، وطَبَعَ أجيالاً متعاقبة، ما زال اليوم - في الذكرى الخمسين لصدوره - راهناً إلى هذا الحدّ؟ ذلك أن الأسئلة الأساسيّة التي طرحتها حينذاك صديقة جان - بول سارتر، تتجاوز البعد الاستفزازي والمتمرّد الذي التصق بالكتاب للوهلة الأولى، إلى منطقة اهتمام فلسفيّة وأخلاقيّة ترتبط بالقيم الانسانيّة في كلّ زمان ومكان. كما أن التحديات التي طرحها الكتاب لم يتجاوزها الزمن... والصراع الذي بلورته بوفوار وأعطته لغته ومفرداته وأدواته النظريّة ما زال قائماً، وإن بأشكال أكثر تعقيداً، في المجتمعات الغربيّة المتطوّرة حيث لم تحسم مسألة اقتران الذكورة بالسلطة، ناهيك بالمجتمعات الأخرى التي تشكّل الجزء الأكبر من المعمورة. حين أصدرت سيمون دو بوفوار 1908 - 1986 كتابها، كانت قد تجاوزت الأربعين، ونشرت روايتي "المدعوّة" 1943 و"دم الآخرين" 1945، وتعرّضت لشتّى حملات الانتقاد بسبب علاقتها بسارتر. وكانت المرأة الفرنسية قد حازت لتوّها حقّ الاقتراع 1945، ومبدأ المساواة المدنيّة لم يترسّخ في الأذهان. فإذا ب "الجنس الآخر" يفجّر الفضيحة، ويكون له وقع الصاعقة على المجتمع الخارج من الحرب العالميّة إلى تمجيد الخصوبة والانجاب. إنهالت الانتقادات على الكتاب من كلّ حدب وصوب، فالتقى اليمين وجزء من اليسار على ادانته ومحاكمته. هاجم فرنسوا مورياك "الجنس الآخر" بعنف فوق الصفحة الأولى من جريدة "لو فيغارو"، معتبراً أن "أدب سان جرمان - دي بري اسم الحي الباريسي الذي كان سارتر وصحبه يرتادون مقاهيه بلغ ذروة السفالة". أما الشيوعيّون فرأوا فيه عملاً "رجعيّاً"، مذكّرين أن السبيل الوحيد إلى تحرّر المرأة هو صراع الطبقة العاملة ! والحقيقة أن بوفوار رفعت في كتابها الكثير من محظورات حقبة الخمسينات الورعة، وتجرأت على تناول تفاصيل الجسد وتفكيك آلية السلوك النسائي، لذا فان "الجنس الآخر" - بمعنى ما - عمل "تربوي" يكشف الحقائق ويعلّم النساء، ويحرّضهنّ على اعادة امتلاك ذواتهنّ. لكنّ الكتاب لا يمكن حصره في اطار الخطاب النسوي المناضل، حتّى أن بوفوار كانت بعيدة عن الحركة النسويّة عندما وضعته، ولم تلتحق بها إلا في السبعينات. إنّه بحث نظري في جدليّة المساواة والاختلاف بين الجنسين، ينقض مبدأ الحتميّة البيولوجيّة، معتبراً أن الثقافة السائدة، لا الطبيعة، هي التي تحدد معالم الأنوثة. ما معنى أن تكوني "امرأة؟"، سألت نفسها سيمون دو بوفوار التي كانت تفكّر في الأساس بمشروع كتاب أوتوبيوغرافي، فإذا بها تقوم ببحث ميداني معمّق يفكّك نظام القيم الذي ينتج الأفراد، ويحدّد سلوكهم، ويكيّف هويّتهم. هل الرجل هو المقياس الوحيد الممكن لتحديد "المرأة"؟ هل هو المرجع ومصدر القيمة الذي تستمدّ منه معنى وجودها؟ بعد نصف قرن على كتاب "الجنس الآخر" لم ينتهِ النقاش، بل لعلّه لم يبدأ في أماكن كثيرة من العالم...