الكتاب: "رجل شيكاغو المحبوب". المؤلفة: سيمون دي بوفوار. الناشر: غولانس - لندن 1998 حينما ظهرت رواية سيمون دي بوفوار "الماندرنيز" العام 1956 بدت مادتها لكثير من القراء أقرب الى التاريخ منها الى الرواية. فقد تركز موضوع الكتاب على طبيعة حياة المثقفين اليساريين في باريس ابان وبعد الاحتلال الألماني لباريس: المقاهي، المجلات الدورية، البيانات الأدبية وغيرها. كما تم في هذا الكتاب تقويم الناس على ضوء ما نظموه وفعلوه خلال الاحتلال الألماني وما هو موقفهم من الجنرال ديغول. وإذا ما نظرنا الى هذه الرواية الآن فانها بالتأكيد ستبدو أقل إثارة مما كانت عليه وقت ظهورها. ففي ذلك الحين كان معظم الذين قرأوها وتأثروا بها يميلون بشكل من الأشكال الى الموجة الوجودية التي سادت أوروبا آنذاك، وممن يعتقدون بأن الوجودي في حقيقة الأمر يأمل في درء نشوب حرب عالمية ثالثة ويهدف الى تحقيق نوع من الحياة الليبرالية اليسارية التي هي "ليست بالشيوعية ولكن غير معادية لها". ورواية "الماندرينز" تلك شاركت في الحقيقة كل اولئك المستغرقين في أحلامهم واستقبلت بحرارة من قبل الأوساط الأدبية الأوروبية. من جانب آخر، فإن جزءاً كبيراً من رسائل دي بوفوار هذه الى نلسون الغرين يرتبط مباشرة بموضوع كتابها الآخر "الجنس الثاني" الذي عرضت فيه دي بوفوار الحب باعتباره أكبر مصيدة للمرأة وذلك من خلال العلاقة الغرامية بين آن البطلة ولويس بورغان وهو روائي أميركي كئيب ولكنه حاد المزاج. في هذه الرواية يبدي بورغان قليلاً من الاهتمام بحياة آن الثقافية في باريس، اما آن الأوروبية المبتكرة فلا يعنيها عمل بورغان الأدبي ايضاً في الغرب الأميركي. إذا عدنا الى "الماندرينز" ثانية، سرعان ما سنكتشف ان بورغان ما هو في الحقيقة إلا الكاتب الأميركي نلسون الغرين الذي اشتهر من خلال روايته "الرجل ذو الذراع الذهبية" وهو من شيكاغو، وان آن هي دي بوفوار نفسها التي تلتقي الغرين وتغويه بطريقة بارعة اثناء أول رحلة لها الى أميركا في أواخر الأربعينات. في العام 1947، وهو العام الذي التقيا فيه، كان عمر دي بوفوار تسعة وثلاثين عاماً كانت على جانب كبير من الشهرة الأدبية... اما الغرين فكان يصغرها بعام واحد. منذ البداية اعتقد الاثنان بصعوبة استمرار العلاقة بينهما، فعادت دي بوفوار الى باريس وسارتر - رفيقها على مدى عشرين عاماً - وعاد الغرين الى أزقة وشوارع شيكاغو بعد أن اتفقا على المراسلة باستمرار وهذا ما فعلاه حقاً. في شهر أيار مايو كانت دي بوفوار للمرة الثانية في باريس. قامت برحلة مع نلسون الى المكسيك. بعد ذلك قطعت رحلتها تلك بسبب سارتر الذي لم يعد حبيبها - بالمعنى العاطفي للعلاقة - لكنه ظل أساسياً بالنسبة الى مركز حياتها الباريسية، فعادت الى باريس مرة أخرى وحاولت في رسائلها ان تشرح لالغرين طبيعة علاقتها مع سارتر فكتبت له تقول: "استطيع ان اتخلى عن أغلب الأشياء عندي ولكن سوف لن أكون سيمون التي تحبها لو تخليت عن حياتي مع سارتر سأكون مخلوقة قذرة وامرأة انانية وخائنة... ان سارتر يحتاجني... انني صديقته الحقيقية، الوحيدة التي تستطيع حقاً فهمه، اساعده، أعمل معه، أمنحه الطمأنينة والعزم، لعشرين عاماً تقريباً فعل كل شيء من أجلي... ربما لا استحقه". وعلى رغم الحماس الذي كان يرافق كل رسالة تقريباً، إلا أن الجو العام الذي كان يخيم على علاقتهما هو الشعور بعدم ملاءمة الرفيقين لبعضهما. كانت دي بوفوار تعتقد في بداية الأمر بأن الغرين ربما سيبادر ويلتحق بها في باريس ويتلاءم بشكل ما مع حياتها المثيرة وينخرط في عالمها. وكانت تحثه في رسائلها الأولى على تعلم اللغة الفرنسية لكنه لم يفعل. وكان هو أيضاً من جانبه يأمل في أن المسألة ستسوى بينهما وتنضم اليه في شيكاغو... وشيئاً فشيئاً تتحول الى ربة بيت كاتب. لفترة من الوقت حاول الغرين ان يكون عاطفياً مع سيمون، لكنه دائماً ما كان يصرّح عن موقفه الحقيقي منها بالقول "ان تحب امرأة لا تنتمي اليك وتفضل اشياء أخرى واناساً آخرين عليك ولا تضعك في المركز الأول فذلك أمر لا يمكن تقبله اطلاقاً". وفي الواقع لم يكن سارتر فقط من يقف حائلاً أمام تلك العلاقة وانما ايضاً العوامل الثقافية والمكانية التي من الصعب تجاوزها، فسيمون تعتبر باريس محور الثقافة والحاضرة الأدبية التي يمكنها فيها دائماً تحقيق نجاحاتها وآمالها المستقبلية. وحينما اتضح بعد أشهر عدم استعداد أي منهما لتغيير مواقفه، استمرت دي بوفوار مع ذلك على رسائلها فأخذت تكتب الى الغرين اخبار باريس وحياة الليل فيها وآخر اصدارات الكتب وآخر الفضائح واخبار الاضطرابات السياسية المتواصلة. وظلت الرسائل متواصلة حتى العام 1964. وبعدها اعلن الغرين عزمه الزواج من زوجته السابقة وبذا أنهى موضوع تلك المراسلات بعد ان صرح بأنه لم يعد يحب سيمون دي بوفوار. يضم هذا المجلد الذي تربو عدد صفحاته على الستمئة رسائل دي بوفوار وحدها. اما رسائل الغرين، أو "رجل شيكاغو المحبوب" كما تسميه سيمون، فلا ترد الا ضمن بعض الهوامش الضرورية لسياق الموضوع. وكانت دي بوفوار أوردت في السابق بعض رسائل الغرين ضمن كتاب ببليوغرافيتها "الظروف الصعبة"