أدت استقالة داني ياتوم المدير العام للاستخبارات الاسرائيلية الخارجية بعد 21 شهراً فقط من توليه المنصب الى وضع نهاية سريعة لحياة الجاسوسية التي احترفها هذا العسكري الذي اخفق طوال تلك المدة في كسب ثقة الجواسيس المحترفين في اسرائيل، اذ تميزت الفترة التي قضاها ياتوم في منصبه بفضيحتين كبيرتين، كانت الثانية منهما السبب الذي أجبره على الاستقالة. اما الفضيحة الأولى فهي المحاولة الفاشلة لاغتيال خالد مشعل مدير المكتب السياسي لحركة "حماس" في عمان في شهر ايلول سبتمبر الماضي. وإثر انفضاح هذه المحاولة اعتقلت السلطات الأردنية عملاء الموساد الذين كانوا يحملون جوازات سفر كندية، مما دفع اسرائيل الى الافراج عن الشيخ أحمد ياسين مؤسس "حماس". ومع ان اللجنة الاسرائيلية التي حققت في المحاولة الفاشلة لاغتيال مشعل وصفتها بأنها "دليل على الاهمال" و"أشبه بمحاولة قام بها هواة"، كما انتقدت تخطيطها، فانه كان في وسع ياتوم أن يصمد في وجه الانتقادات التي أثارتها المحاولة ويظل في منصبه، لولا افتضاح امر العملية الفاشلة الثانية التي جرت في سويسرا في اواخر الشهر الماضي. فقد اعتقلت السلطات السويسرية احد اعضاء فريق الموساد اثناء محاولتهم تركيب اجهزة تنصّت الكترونية لمراقبة عضو في "حزب الله". وليست هذه المرة الأولى التي ينفضح فيها امر عملاء الموساد في سويسرا. ففي العام 1963 اعتقلت السلطات السويسرية اثنين من عملاء الموساد في مدينة بيرن بعدما ثبت انهم هدّدوا فتاة المانية تلقى والدها وهو عالم صواريخ، عرضاً للعمل في برنامج الصواريخ المصري الذي بدأه جمال عبدالناصر. ومن البديهي أن تُمنى الموساد، مثل أي جهاز استخبارات آخر يقوم بعمليات في الدول الاخرى، بالفشل في بعض الحالات، كما ان من الطبيعي ان ينفضح امر بعض تلك العمليات، لا سيما اذا فشلت. ففي شهر تموز يوليو العام 1973 اغتالت "الموساد" النادل المغربي احمد بو شيكي في مدينة لِيل هامر في النرويج باعتبار انه حسن علي سلامة الملقب بپ"الأمير الأحمر" الذي خطط للعملية الفدائية في ميونيخ العام 1972 التي نفذتها حركة "أيلول الأسود" ضد الرياضيين الاسرائيليين. وعندما انكشف مدى الخطأ الذي ارتكبه عملاء الموساد في النرويج وانفضح امرهم اصدرت المحكمة في اوسلو احكاماً بالسجن لفترة تتراوح بين سنة وخمس سنوات على خمسة من اعضاء فريق الاغتيال الاسرائيلي. ولا تقتصر المسألة على مجرد انكشاف امر الفضيحة. اذ يقول خبراء الشؤون الاسرائيلية "ان ما كشف عنه عملاء المخابرات بعد اعتقالهم، وهو ما حدث في النرويج، ألحق اضراراً جسيمة بالبناء الهيكلي الأساسي لشبكة الموساد في أوروبا. ولهذا اضطر الجهاز الى استدعاء عدد كبير من عملائه من أوروبا والى هجر عدد كبير من البيوت والمنازل التي كانت آمنة لهم وتغيير أرقام الهواتف المستخدمة وإجراء تعديلات جذرية على اساليب العمل الميداني في أوروبا". ومن حالات الفشل الاخرى للموساد انها اخفقت في توقع حدوث تطورات وأحداث على غاية الاهمية، قبل حدوثها او ذيوعها. من ذلك مثلاً صفقة الاسلحة التشيكية مع مصر في ايلول سبتمبر العام 1955، وحرب تشرين الأول اكتوبر 1973. وربما يعود اخفاق الموساد في توقع الهجوم المصري عبر قناة السويس العام 1973 الى القاء السلطات المصرية القبض على 18 مصرياً في حزيران يونيو من ذلك العام واتهامهم بالتجسس لحساب اسرائيل. وكان بينهم احد كبار ضباط سلاح الهندسة المصري الذي اعدمته السلطات المصرية بعد اعتقاله في حزيران يونيو 1973 بعام واحد حين تبين انه حلّل جميع البيانات والمعلومات الخاصة بقواعد الصواريخ المصرية وسجلها بكاملها على ظهر طابع بريدي عادي بالشيفرة الالكترونية ليحللها الاسرائيليون لدى تسلم الطابع. كذلك كانت مصر مسرحاً للعملية الشهيرة التي قامت بها الاستخبارات الاسرائيلية وأصبحت تعرف باسم "فضيحة لافون"، بعدما اكتشف المصريون خلية من عملاء الموساد الذين بدأوا في تنفيذ سلسلة من العمليات الارهابية داخل مصر بهدف الحاق الضرر بالعلاقات بين مصر والولايات المتحدة. الى ذلك، واجهت الموساد مشاكل في سورية. ولعل اشهر عمليات التجسس في سورية اكتشاف الجاسوس الشهير ايلي كوهين العام 1964 وشنقه العام 1965. لكن كوهين استطاع خلال ثلاث سنوات بعد دخوله سورية باسم كمال أمين ثابت "المغترب السوري" الذي عاد من الارجنتين الى "بلاده" ان يزوّد الاستخبارات الاسرائيلية باللاسلكي بقدر كبير ومهم من المعلومات عن الحياة السياسية في سورية وشؤونها العسكرية بما في ذلك تفاصيل خطوط التحصينات السورية وأنظمتها في مرتفعات الجولان التي احتلتها اسرائيل في حزيران يونيو العام 1967. ولا تزال اسرائيل تحتفل حتى هذا اليوم بالذكرى السنوية لإعدام كوهين، بل ولا تزال زوجته تحاول حتى الآن الحصول على اذن من السلطات السورية لنقل رفاته من احدى المقابر السورية الى اسرائيل. وفي العام الماضي اعترف احد كبار ضباط الموساد بأنه ظل يزود المؤسستين العسكرية والسياسية في اسرائيل ولسنوات طويلة بمعلومات ملفّقة وكاذبة عن النيات السورية بعدما استقى تلك "المعلومات" من "مصدر عسكري سوري رفيع المستوى" زرعته الموساد في المؤسسة العسكرية السورية. والواقع ان تلك المعلومات المختلقة كانت السبب الاساسي في التقارير الصحافية الكثيرة التي تحدثت عن "نيات سورية العدوانية" وادت الى زيادة حدّة التوتر على الحدود السورية - الاسرائيلية في خريف عام 1996. والواقع ان حالات الفشل ليست جديدة على الموساد، بل تعود الى الاشهر الاولى لتأسيس الجهاز، وكلمة "موساد" معناها "المعهد" نسبة الى الاسم الاول الذي اطلق على الجهاز عند تأسيسه في شهر آذار مارس العام 1951 وهو "معهد التنسيق" قبل ان تعاد تسميته الى "معهد الاستخبارات والمهمات الخاصة". اذ لم يمض على تأسيس "المعهد" سوى شهرين حتى واجه اولى حالات الفشل. ففي ايار مايو 1951 ادى اعتقال السلطات العراقية اثنين من الاسرائيليين في بغداد الى انهيار "شبكة" الاستخبارات الاسرائيلية في العراق وهي الشبكة التي وصفها ايان بلاك مراسل صحيفة "الغارديان" البريطانية وبيني موريس المؤرخ الاسرائيلي المعروف بأنها "كانت واحدة من انجح شبكات التجسس والهجرة اليهودية" في تاريخ اسرائيل. واثر ذلك وجهت احدى المحاكم العراقية تهمة التجسس وحيازة الاسلحة بصورة غير مشروعة الى 28 يهودياً وتسعة عرب. وبعد ذلك اعتقلت السلطات العراقية عشرات من اليهود العراقيين ووجهت الى بعضهم تهمة تنفيذ سلسلة من الانفجارات في بغداد بما في ذلك الانفجار الذي وقع في مركز المعلومات الاميركي في بغداد. والانفجارات التي وقعت ايضاً في عدد من المواقع والمؤسسات اليهودية. ويعتقد الكثيرون بأن الانفجارات التي حدثت في المواقع اليهودية كانت تهدف الى ارهاب اليهود العراقيين واجبارهم على الهجرة الى اسرائيل مع ان الموساد نفت ذلك. وفي لبنان يمكن القول ان ابشع حالات الفشل التي مُنيت بها الاستخبارات الاسرائيلية حدثت بعد العام 1976 حين بدأت علاقة اسرائيل العسكرية في ذلك العام مع حزب الكتائب. اذ ان الموساد اصبحت في عهد مديرها آنذاك اسحق هوفي المروّج الاول داخل اسرائيل لاقامة "تحالف كامل" مع الكتائب كما اقامت علاقات وثيقة مع بشير الجميّل. ولم يبدأ ثمن التحالف في الظهور الا في نيسان ابريل عام 1981. اذ ان تدخل اسرائيل في زحلة اعقبه ادخال السوريين صواريخ سام الى لبنان وبداية حرب وصلت ذروتها في الغزو الاسرائيلي للبنان العام 1982. كذلك لعبت الموساد دوراً، لكنه كان ثانوياً، في حالات الفشل الاسرائيلي الاخرى خلال الثمانينات وفي مقدمتها فضيحة ايران غيت وفضيحة الجاسوس جوناثان بولارد. وفي آذار مارس 1987 انفضح امر الموساد في تزوير عدد من جوازات السفر البريطانية ليستخدمها عملاؤها. وفي آب اغسطس من العام نفسه دفعت اسرائيل الثمن نتيجة لنشاط استخباراتها التي قررت استخدام عملاء فلسطينيين في بريطانيا. فقد عثرت الشرطة البريطانية آنذاك على اكبر كمية من الاسلحة في بريطانيا في الشقة التي كان يسكنها اسماعيل صوّان عميل الموساد الفلسطيني. وتبيّن ان تلك الاسلحة كانت تخص عبدالرحمن مصطفى احد اعضاء القوة 17 الفلسطينية. وأدى اكتشاف تلك الاسلحة الى قرار الحكومة البريطانية طرد عدد من الديبلوماسيين الاسرائيليين وثلاثة من المشرفين على عمليات الموساد من بريطانيا. وقد وصف كل من ايان بلاك وبيني موريس فضيحة صوّان بأنها "أخطر فضيحة تعاني منها الموساد منذ فضيحة ليلْ هامر في العام 1973". وقد تعززت صدقية الاسرار المثيرة المذهلة التي كشف عنها عميل الموساد السابق فكتور اوستروفسكي في كتابه "عن طريق الخداع" نتيجة الطريقة التي تعاملت بها الموساد مع الكتاب فور ظهوره. اذ ان مانشره اوستروفسكي على رغم انه لم يقض في جهاز الموساد سوى 17 شهراً، يحمل في ثناياه خبرة العارف الواثق من داخل الجهاز نفسه. ولعل الجهود المستميتة المريرة التي بذلتها اسرائيل لمنع نشر الكتاب خير دليل على صدقية ما جاء فيه. وهكذا اصبحت الموساد اليوم بعد سلسلة فضائحها الاخيرة وغياب المدير الخبير بشؤونها تواجه فترة عصيبة وتفتقر الى الثقة الجماعية.