هل كانت مجرد صدفة ان تقع أحداث الشغب في مدينة معان جنوبالأردن للمرة الثالثة خلال السنوات التسع الأخيرة، وان يودع المهندس ليث شبيلات السجن للمرة الثالثة أيضاً في اليوم نفسه؟ ولماذا معان وشبيلات؟ في شهر نيسان ابريل 1989 انطلقت من مدينة معان الاحتجاجات ضد حكومة السيد زيد الرفاعي لأسباب تتعلق بتردي الأوضاع الاقتصادية، واتسعت لتشمل الطفيلة والكرك المجاورتين وصولاً الى بعض أحياء العاصمة عمان. وفي آب اغسطس 1996 لحقت معان بالكرك في الاحتجاج ضد قرار حكومة السيد عبدالكريم الكباريتي رفع اسعار الخبز. وجاءت أعمال الاحتجاج الأخيرة في شباط فبراير 1998 بعد اسبوع من تظاهرات جرت في عمان استخدمت فيها الشرطة الهراوات لتفريق المتظاهرين وأصابت فيها عدداً من قادة المعارضة. وهكذا، فقد كانت معان القاسم المشترك الوحيد في التظاهرات والاحتجاجات في المناسبات الثلاث، لكن اللافت ان الاحتجاجات في معان كانت تؤدي دوماً الى العنف والأضرار المادية والبشرية أيضاً. لماذا معان إذن؟ لا يزيد عدد سكان معان عن ثلاثين ألف نسمة، وفقاً لاحصاءات غير رسمية، في حين لا يتجاوز عدد سكان محافظة معان وهي أكبر محافظاتالأردن من حيث المساحة التي تزيد عن ثلث مساحة الأردن 85 ألف نسمة وهي من أصغر المحافظات من حيث عدد السكان. وتقع محافظة معان في الجزء الجنوبي والشرقي من الأردن وهي محاذية للمملكة العربية السعودية ويبلغ طول حدود المحافظة مع السعودية نحو 400 كيلومتر. وتبعد مدينة معان 220 كيلومتراً عن عمان. غير ان اتساع مساحة المحافظة 33 ألف كيلومتر مربع ومساحة الأردن 96 ألف كيلومتر مربع لا تعكس أهمية الأرض بالنسبة الى السكان، فهي أرض صحراوية غير صالحة للزراعة إلا في منطقة حوض الديسي المائي الذي يستثمر مشاريع زراعية لا تستفيد منها معان مباشرة. وليس في معان مصانع أو مشاريع انتاجية حكومية كما أنها لا تضم معاهد للتعليم العالي سوى ما تم استحداثه قبل عامين، اذ افتتح فيها فرع لجامعة مؤتة في الكرك في بعض العلوم الانسانية. وعلى رغم قلة عدد السكان، إلا ان اعتمادهم على المداخيل المتواضعة للموظفين المدنيين والعسكريين، خصوصاً في العاصمة والمدن الأخرى، ثم على التجارة وهي تجارة غير مستقرة، جعلت حياتهم أكثر صعوبة مقارنة مع المدن الأخرى. وحتى أعمال التجارة الصغيرة للسائحين القادمين من عمان الى العقبة وللحجاج والمتمردين القادمين من عمان وعبرها الى حدود المدورة مع السعودية توقفت بسبب شبكة الطرق الحديثة التي أصبحت تمر قرب المدينة وليس عبرها كما كان الحال قبل عشر سنوات. وتعتبر مدينة معان مثالاً واضحاً للمدن المغلقة، فهي لم تتأثر بموجات النزوح الى الأردن، منذ أكثر من نصف قرن شأن معظم المدن الأخرى وبقيت تتألف من العشائر والعائلات نفسها التي تقطنها منذ مئات السنين. ومعان - تاريخياً - هي أول عاصمة غير معلنة للدولة الأردنية حيث اتخذ منها الملك عبدالله بن الحسين جد الملك حسين عاصمة لإمارة شرق الأردن، قبل اتجاهه شمالاً الى عمان، وهي كذلك نموذج للمجتمع الأردني التقليدي المحافظ الريفي ولم تتطور من حيث المرافق العامة وأماكن الترفيه الى مجتمع المدينة. ومن هنا فإن المجتمع في معان اسلامي محافظ، لكنه ليس اسلامياً سياسياً. كما انه، وعلى خلاف مجتمع مدينة الكرك المحاذية، لم يتأثر بالاحزاب القومية، خصوصاً حزب البعث الذي دخل الكرك بواسطة طلابها الدارسين في العراق على مدى السنوات الأربعين الماضية في حين ان نسبة التعليم العالي بين ابناء محافظة معان متدنية مقارنة بالكرك. ومنذ الاعمال الاحتجاجية الأولى في معان العام 1989 وحتى الحادثة الأخيرة، لجأت الحكومات الثلاث الى الاسلوب نفسه في التشخيص، اذ اتهمت جهات خارجية بالوقوف وراء الاحداث وزرع الفتنة بهدف زعزعة أمن الأردن واستقراره. هذه المرة جاء الوضع مختلفاً لسببين: أولهما استخدام المواطنين السلاح ضد رجال الأمن ما أدى الى سقوط قتيل وجرح 23 مدنياً و8 من رجال الشرطة. وثانيهما التدخل الشخصي والحازم من قبل الملك حسين في التعامل مع "قضية معان" وليس مع أحداث معان، فما الذي حدث فعلاً؟ منذ نشوب الأزمة العراقية الأخيرة وظهور بوادر عمل عسكري ضد العراق، وقفت الغالبية من الشعب الأردني الى جانب العراق في حين كانت الحكومة تتحدث عن الشعب العراقي وضرورة تجنيبه مثل هذا العمل العسكري. وفيما كان المواطنون يشعرون بالإحباط والتضامن مع العراق كانت الحكومة تدرس كل الاحتمال في حال وقوع العمل العسكري تحت وطأة الاحساس بالخسائر الكبيرة التي ستحل بالأردن من جميع النواحي. وفي الوقت الذي كان المواطنون يستحضرون موقفهم اثناء حرب الخليج الثانية واحتجاجاتهم المستمرة عليها في كل المدن والقرى الأردنية، فوجئوا هذه المرة بقرار وزير الداخلية حظر المسيرات والتظاهرات بكل أشكالها. وزاد من تباين المواقف الخلافات المستفحلة بين الحكومة والمعارضة على خلفية الانتخابات النيابية الأخيرة التي قاطعتها المعارضة. وعلى رغم قرار الوزير حظر المسيرات والتظاهرات فقد حاولت أحزاب المعارضة تنظيم مسيرة انطلاقاً من المسجد الحسيني الكبير وسط العاصمة يوم الجمعة 13/2/1998 إلا ان قوات الأمن فرقتها بالقوة. وتقدمت المعارضة بطلب تنظيم مسيرة في مدينة أربد الشمالية وهي ثاني أكبر مدينة أردنية، إلا ان وزارة الداخلية رفضت، فتنازلت المعارضة الى طلب تنظيم مهرجان خطابي في أربد يوم الجمعة في 20 الشهر الماضي، لكن "الداخلية" رفضت مرة اخرى، فحاولت المعارضة إقامة المهرجان من دون اذن رسمي الا ان قوات الأمن حالت دون إقامته. وفي اليوم السابق الخميس 19/2 زار نقيب المهندسين ليث شبيلات معان وألقى محاضرة في أحد مساجدها بعد صلاة العشاء وصف فيها الحكومة الأردنية بپ"المتصهينة"، وعقب المحاضرة قامت مسيرة سلمية في معان انتهت من دون أي أعمال عنف. وبعد صلاة الجمعة في اليوم التالي، وحسب السيد أحمد آل خطاب نائب معان في البرلمان، قام عشرات من الشبان بالهتاف ضد الصهيونية، فتدخل رجال الأمن لتفريقهم وألقوا القنابل الدخانية، فتطور الأمر الى اشتباك بالذخيرة الحية أسفر عن مقتل شاب، وتجددت الاشتباكات في اليوم التالي بالأسلحة النارية استخدم فيها المدنيون رشاشات آلية ورشاشاً ثقيلاً واحداً على الأقل من عيار 500 ملم وفقاً للتصريحات الرسمية. واسفرت اشتباكات اليومين ايضاً عن إصابة 23 مدنياً و8 من رجال الأمن. وتحرك الملك حسين شخصياً في اليوم التالي اذ أشرف بنفسه على دخول الجيش الى جانب الأمن العام لحفظ الأمن ونزع السلاح من المواطنين حيث بدأت العملية فعلاً في اليوم التالي بعد فرض حظر التجول وقطع الاتصالات الهاتفية والكهرباء عن المدينة. وبدا العاهل الأردني غاضباً وهو يتحدث الى الجنود الذين كانوا على وشك الشروع بمهمة نزع السلاح فتحدث عن تكرار الاحداث للمرة الثالثة وعن الدولة والأمن والنظام. وعمدت الحكومة الأردنية الى اعتقال المهندس ليث شبيلات كمتهم رئيسي في اثارة الفتنة والتحريض ضد الدولة والنظام. وصرح رئيس الوزراء الدكتور عبدالسلام المجالي بأن "قوى كثيرة تتربص بالأردن يساعدها بعض المارقين الساعين الى أغراض شخصية وسمعة استعراضية...". أما وزير الداخلية السيد نذير رشيد فألمح الى "ارتباطات" شبيلات بالخارج وأشار الى ايران. ونعود الى السؤال: لماذا شبيلات؟ في اللقاء الذي جمع رئيس الوزراء عبدالسلام المجالي بوفد أحزاب المعارضة والنقابات المهنية بعد بروز الأزمة العراقية وقبل تنظيم مسيرة المعارضة في عمان، كان المهندس شبيلات ضمن وفد المعارضة وتطور الحوار بين المجالي وشبيلات الى الحد الذي طلب فيه رئيس الحكومة من شبيلات ان يسكت، ورد شبيلات عليه بأن عليه هو ان يسكت. ولكن شبيلات لم يكن بين قادة المعارضة الذين تعرضوا للضرب على يد رجال الأمن في المسجد الحسيني في عمان ولم يعتقل إثر المسيرة بينما اعتقل آخرون. وقبل هذه الحادثة كان شبيلات زار العراق حيث سلمه الرئيس صدام حسين عدداً من السجناء الأردنيين في السجون العراقية بعد أزمة في العلاقات الثنائية بين البلدين بسبب إعدام العراق أربعة أردنيين بتهمة تهريب قطع سيارات، ما اعتبر تصرفاً عراقياً ذا مغزى ضد الحكومة الأردنية. وكان شبيلات حكم عليه بالسجن لمدة 20 عاماً مع الاشغال بعد اتهامه بتنظيم النفير الاسلامي بهدف قلب نظام الحكم العام 1992، وكان نائباً للمرة الثانية في البرلمان وخرج من السجن بعفو ملكي عام بعد شهرين. وفي آذار مارس 1996 حكم عليه بالسجن ثلاث سنوات بتهمة إطالة اللسان وقدح مقام الملك، وقد أفرج عنه الملك حسين ورافقه بسيارته من سجنه الى منزله بعد ثمانية اشهر من سجنه. وشبيلات اسلامي مستقل، وهو من اسرة محافظة من الطفيلة وكان والده يشغل منصب وزير الداخلية. وقد برز نجمه منذ منتصف الثمانينات بعد فوزه في الانتخابات النيابية التكميلية عن العاصمة، لكن معارضته اصبحت اشد منذ مؤتمر مدريد العام 1991. وفور اعلان إلقاء القبض على شبيلات بتهمة التحريض وإثارة الفتنة في معان، بادر نقيب المحامين الأردنيين حسين مجلي ورئيس الوزراء السابق أحمد عبيدات ورئيس السلطة القضائية السابق نجيب الرشدان الى تكوين هيئة للدفاع عن شبيلات، في الوقت الذي شكلت فيه محكمة أمن الدولة هيئة تحقيق برئاسة مساعد النائب العام العسكري للتحقيق ميدانياً وإعداد لائحة الاتهام بحقه. ورداً على سؤال لپ"الوسط" قال نقيب المحامين حسين مجلي ان انفراج الوضع في المنطقة ونزع فتيل الأزمة العراقية ستكون له آثاره على الأوضاع الداخلية في الأردن ومن ضمنها قضية ليث شبيلات. وأضاف: "يجب ألا يظل الوطن في أزمة، وليس من مصلحة الحكومة ان يظل هكذا"، في اشارة الى الجانب السياسي في قضية شبيلات. من جانبه قال الدكتور عبدالله النسور نائب رئيس الوزراء وزير الاعلام لپ"الوسط" ان الوضع في معان يعود الى حاله الطبيعي بعدما زالت الغمة. ورأى النسور ان الحزم الحكومي في معالجة أحداث معان ينطلق من سببين: أولهما تكرار أحداث العنف للمرة الثالثة واستخدام السلاح فيها وثانيهما وجود جهات محرضة على إثارة الشغب والفتنة. وسألنا النسور اذا كان سحب السلاح من المواطنين يضمن عدم اقتنائه مستقبلاً؟ فأجاب انه لا يضمن تماماً لكنه سيساهم في الحيلولة دون تكرار الأمر بالصورة التي حدث بها أخيراً. مسؤول حكومي آخر رفض الوعد بإجراء اصلاحات اقتصادية في معان تحديداً كسبب أساسي فيما حدث، غير ان الملك حسين تحدث في لقاء تلفزيوني عن الصعوبات الاقتصادية كسبب رئيسي في أحداث معان.