نائب أمير الشرقية يستقبل مدير عام هيئة التراث بالمنطقة    أمير المنطقة الشرقية يدشن منتدى "الاستثمار البيئي ويستقبل أعضاء الجمعية السعودية لكتاب الرأي    نتنياهو: لا لإنهاء الحرب.. وقف القتال مقابل إطلاق الرهائن    ميسي يسجل ثلاثة أرقام قياسية جديدة في الدوري الأمريكي    القيادة تهنئ ملك هولندا بذكرى يوم التحرير لبلاده    مكتبة الملك عبدالعزيز العامة تطلق جولتها القرائية الخامسة    قارئ ألف ليلة وليلة في أمسية أدبية بتبوك    تدخل عاجل ينقذ حياة سيدة في عنيزة    "عطاء التعليمية" تدشن المبنى المطور للمرحلة الثانوية بمدارس الرواد بالرياض    جدة.. زراعة أكثر من 15 ألف شجرة خلال الربع الأول من 2024    وزير «الموارد»: استحداث 11,171 وظيفة في «السلامة والصحة المهنية» خلال 3 سنوات    السعودية تستضيف اجتماعيّ المجلس التنفيذي والمؤتمر العام ل"الألكسو" بجدة    كاسترو يكشف موقف تاليسكا وغريب من مواجهة الهلال    20 ألف مستفيد من خدمات مستشفى الأسياح    ( مسيرة أرفى ) تعلن عن إنطلاق فعاليات شهر التصلب المتعدد    "تعليم تبوك" و"أرامكو" يطلقان حملة توعوية للوقاية من الحرائق    الأمم المتحدة تكشف: آلاف السودانيين يفرون يوميا من جحيم الحرب    قوات سعودية – أمريكية تنفذ تمرين "الغضب العارم"    رونالدو: لا أركض وراء الأرقام القياسية    تنمية جازان تفعل برنامجًا ترفيهيًا في جزر فرسان    "ميدياثون الحج والعمرة" يختتم أعماله    توقعات بهطول أمطار رعدية خفيفة على معظم مناطق المملكة    المملكة تعين وتروي المحتاجين حول العالم    الإيرادات تقفز بأرباح "تداول" 122%    اللحوم والبقوليات تسبب "النقرس"    السعودية تؤكد ضرورة إعادة هيكلة منظمة التعاون الإسلامي وتطويرها    القبيلة.. وتعدد الهويات الوطنية    بأمر خادم الحرمين.. تعيين 261 عضواً بمرتبة مُلازم تحقيق في النيابة العامة    «المظالم» يخفض مدد التقاضي و«التنفيذ» تتوعد المماطلين    مسؤولون وفنانون وشعراء ينعون الراحل    البدر «أنسن العاطفة» و«حلّق بالوطن» وحدّث الأغنية    الأرصاد: توقعات بهطول أمطار على أجزاء من منطقة الرياض    السعودية.. دور حيوي وتفكير إستراتيجي    تعديلات واستثناءات في لائحة ضريبة التصرفات العقارية    «الجمارك»: استيراد 93,199 سيارة في 2023    لا تظلموا التعصب    معالي الفاسد !    عضوية فلسطين بالأمم المتحدة.. طريق الاستقلال !    «كاكا» الصباغ صرخة سينمائية مقيمة    الطائي يتعادل مع الخليج سلبياً في دوري روشن    بتنظيم وزارة الرياضة .. "الأحد" إقامة المؤتمر الدوري للقطاع الرياضي    موسكو: «الأطلسي» يستعد لصراع محتمل    مركز الملك سلمان يواصل مساعداته الإنسانية    تحت رعاية ولي العهد.. وزير الدفاع يفتتح مرافق كلية الملك فيصل ويشهد حفل التخرج    وفاة صاحب السمو الملكي الأمير بدر بن عبدالمحسن بن عبدالعزيز آل سعود    الذهب يتأرجح مع تزايد المخاوف بشأن أسعار الفائدة    تقدير الجهود السعودية لاستقرار السوق العالمية.. المملكة تعزز تعاونها مع أوزبكستان وأذربيجان في الطاقة    رعى حفل التخرج الجامعي.. أمير الرياض يدشن مشروعات تنموية في شقراء    منح تصاريح دخول العاصمة المقدسة    الهلال يستأنف تدريباته استعداداً لمواجهة الأهلي    يجنبهم التعرض ل «التنمر».. مختصون: التدخل المبكر ينقذ «قصار القامة»    النملة والهدهد    لا توجد حسابات لأئمة الحرمين في مواقع التواصل... ولا صحة لما ينشر فيها    وزير الخارجية: السعودية تؤكد ضرورة إعادة هيكلة «التعاون الإسلامي» وتطويرها    محمية عروق بني معارض.. لوحات طبيعية بألوان الحياة الفطرية    "الفقه الإسلامي" يُثمّن بيان كبار العلماء بشأن "الحج"    كيفية «حلب» الحبيب !    بيان صادر عن هيئة كبار العلماء بشأن عدم جواز الذهاب للحج دون تصريح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صاحب "خفقة الطين" في الذكرى الثانية لرحيله . رسائل غير منشورة إلى صديقه ومواطنه نسيم رجوان بلند الحيدري : لو يتسع الطريق إلى بغداد ليكون لي قبر فيها
نشر في الحياة يوم 05 - 10 - 1998

مرّت أخيراً الذكرى الثانية لرحيل بلند الحيدري الذي يبقى مكانه شاغراً على الساحة الشعريّة العربيّة. وبنشرها أوراقاً حميمة كتبها صاحب "حوار الأبعاد الثلاثة" في سنواته الأخيرة، تستعيد "الوسط" ذلك الحضور من خلال رسائل وجّهها الشاعر إلى نسيم رجوان صديق السنوات الأولى في بغداد، ومواطنه الذي رحل إلى اسرائيل وبقيت أنظاره موجّهة إلى العراق، منزله الأوّل. تكتسي الرسائل طابع الوثيقة، لما تشمله من عناصر أوتوبيوغرافيّة ومواقف سياسيّة. وقد حرصنا على احترام عفويّتها، ونشرها بأخطائها الاملائيّة، وتعابيرها المرتجلة على الطريقة المحكيّة، وبلحظاتها الحميمة وتفاصيلها التي لا تخلو من الجرأة أحياناً. لكن من الضروري ادراجها في سياق بوح حميم، صادر عن شاعر يريد تجاوز "ظروف فرضت علينا" كما يكتب، واختصار المسافة الزمنيّة والمكانيّة التي تفصله عن صديق عزيز، هو مواطنه قبل أي اعتبار. وقد تعكس هذه السطور المتسرّعة، المنفعلة، أوهام شاعر مؤمن بضرورة "تنمية القدرة على الحوار المنطقي واحترام الآخر"، لكنّها لا تعبّر بأي شكل من الأشكال عن موقف متكامل، مدروس، وواع من عمليّة السلام.
شهدت بغداد بعد الحرب العالمية الثانية مجاميع أدباء جدد من مختلف الطوائف والأديان السماويّة الثلاثة، يجمعهم ايمان عميق بالحرية الفكرية بأوسع معاني الكلمة، وكانوا يعبرون عن انتماء واضح لحركات التحديث التي كانت تشهدها أوروبا آنذاك. وقد حاول بعضهم، قدر امكانياته المادية والمعنوية، أن يبشر بقيم فنية واخلاقية جديدة. فمجلة "الفكر الحديث" مثلاً التي أصدرها ما بين 1945 و1947 الفنان جميل حمودي بالاشتراك مع نعيم قطان وعدنان عبدالرؤوف ونزار عباس... قدمت للمرة الأولى المشروع السوريالي ودافعت عنه، بل عقدت صلات وشيجة مع المجموعة السوريالية البريطانية آنذاك.
كما ان هذه المجلة كانت أول من أشار إلى الحركة الوجودية بتقرير شبه مفصل، وكأنها تمهد الطريق لبلند الحيدري ونزار عباس ليصدرا عددين فقط 1946 من نشرة "الوقت الضائع" التي ارادت بشكل ما أن تعبر عن التيار الوجودي انظر الكتاب القيم الذي أصدره الشاعر العراقي سامي مهدي في بغداد عام 1995 بعنوان "المجلات العراقية الريادية ودورها في تحديث الأدب والفنون 1945 - 1958". وهذا ما تدل عليه الكتب التي صدرت عن منشورات "الوقت الضائع" كمجموعة الحيدري الشعرية الأولى "خفقة الطين" 1946، وقصص نزار عباس، بل حتى ديوان حسين مردان الأول "قصائد عارية".
وفي غمرة هذا التطلع إلى تغيير ثقافي ملموس في الرؤيا الابداعية والممارسة الحياتية، كان يجتمع معظم هؤلاء المتمردين في المقاهي ومن بينها مقهى "واق واق" الذي لم يعمر أكثر من شهرين، يتجاذبون أطراف الحديث بروح متفتحة، في شتى المواضيع السياسية والثقافية ويتبادلون الآراء في كتاباتهم وما يقعون عليه من مجلات وكتب عربية وأجنبية، بل كانوا يجعلون حتى المكتبات ملتقى لهم، خصوصاً مكتبة "الرابطة" المتخصصة ببيع الكتب الانكليزية، التي كان مديرها والمسؤول عنها الكاتب نسيم رجوان الذي قوى علاقات ثقافية وصداقات متينة مع عدد من هؤلاء الذين سيلعبون دوراً كبيراً في حياة الادب العراقي لاحقاً، خصوصاً جبرا إبراهيم جبراء ونجيب المانع وبلند الحيدري.
ولد نسيم رجوان في بغداد سنة 1924، وشارك في نشاطات جمعية "الرابطة" الثقافية التي كان يرأسها عبدالفتاح إبراهيم مؤسس حزب الاتحاد الوطني، وإلى جانب وظيفته هذه كان نسيم رجوان يكتب مراجعات نقدية للأفلام في جريدة Iraq Times وهي الوحيدة الناطقة بالانكليزية في العراق آنذاك، وله كتاب قيم بالانكليزية عن "يهود العراق" لندن 1985، وكتاب "العرب في مواجهة العالم الحديث" الذي صدر حديثاً بالانكليزيّة منشورات جامعة فلوريدا، الولايات المتحدّة الأميركيّة، وهو مراجعة نقديّة لمجمل الفكر القومي، السلفي والمجدد، الذي عاش في ظلّه المجتمع العربي طيلة القرن العشرين. ويعزم قريباً على إصدار ترجمة عربية لذكرياته البغدادية، التي ستضيء بعض الجوانب المهمة من فترة الاربعينات العراقية التي تعتبر الفترة الممهدة لكل التجديدات الشعرية والفنية والقصصية التي سيشهدها العراق فيما بعد.
هنا ست رسائل وجهها الشاعر الراحل بلند الحيدري إلى الأديب العراقي المقيم في اسرائيل نسيم رجوان بعد انقطاع دام أكثر من ثلاثين سنة. والرسائل هذه مهمة، إذ يسرد فيها بلند الحيدري جزءاً من سيرته ومعاناته، ويعبّر بشكل مؤثر، عن أمله في "أن يتسع الطريق إلى بغداد ليكون لي على الأقل قبر فيها" كما كتب في رسالته المؤرخة 5 تموز يوليو 1996.
أما كيف تم الاتصال من جديد بينهما، فنترك لرجوان أن يوضح لنا الأمر بنفسه: "بعد نزوحي مع والدتي واختي الصغيرة إلى إسرائيل في شباط فبراير 1951، انقطعت صلاتي كلياً بالجماعة التي كان يلقبها بلند ب "الشلة"، ولم أجرؤ حتى على محاولة الاتصال ببعض أصدقائي القدماء حتّى اواخر الثمانينات، حين حاولت مرة أو مرتين خلال إحدى زياراتي لندن، التحدث إلى بلند بالتلفون بواسطة صحيفة "الشرق الأوسط" ولكن من دون جدوى. حاولت أيضاً الاتصال بنجيب المانع بعد أن قرأت له بعض مقالات في الصحيفة نفسها، ولكن من دون جدوى أيضاً. وكان شعوري ان الاثنين خشيا الاتصال بمواطن إسرائيلي لا يعلم إلا الله ما حصل له من تقلبات خلال ثلاثة عقود ونيف. وبعد وفاة صديقي المقرب نجيب المانع عام 1994، وقراءاتي لعدد من المقالات حوله في مجلة "الاغتراب الأدبي" التي يصدرها في لندن الشاعر العراقي صلاح نيازي وعقيلته الروائية سميرة المانع، وهي أخت نجيب، كتبت لسميرة أعزيها طالباً منها أن تزودني بكتابات حول أخبار الصديق الراحل. وكانت إحدى النتائج الايجابية لهذه المراسلات ان أعلمت سميرة بلند بعنواني، كما قام هذا الأخير باعلام عدنان رؤوف بالعنوان، وبذلك بدأت مراسلات بيننا وجددنا صداقة قديمة".
* * *
لندن في 9/3/1995
أيها العزيز نسيم رجوان
تحية طيبة
وبعد ضياع سنين، وبعد البحث عن واحدنا الآخر، أقع إلى كذا عنوانك، لأقول لك بأن ما بدأنا به، اخوة وأدباء وأحلاماً وتطلعات لا يمكن الا ان يجمعنا في الذي يؤكدنا بأننا اكبر من ان تفرقنا احداث عابرة... هكذا امدّ يدي اليك وفي انتظار ان اسمع الكثير عنك...
واسلم أيها الصديق
* * *
1/4/1995
لندن
نسيم ايها العزيز
لا يمكن ان تعرف مدى ما كان لرسالتك من أثر كبير في نفسي، وعبر محاسبات عميقة في الذي كان لنا والذي كان علينا، عبر ظروف فرضت علينا، وكنا اكبر منها لأننا لم نعرف انفسنا في هذا الحيز الضيق او ذلك... كنا نعرف انفسنا اصدقاء نتطلع لآفاق انسانية اكبر من ان تختزلها طائفة او يختزلها انتماء ديني معين...
كان من المحتمل ان اكون في حيفا، في الثاني والعشرين من الشهر الخامس لاحياء أمسية شعرية 1، وكنت على كثير رغبة في تلبيتها... ولكن... الوهن الذي اصاب قلبي والشريان المعطوب فيه واحتمال اجراء الجراحة حالا كذا دون هذا اللقاء... وكلي أمل ان يتسع لي موعد لمثله قريباً فأراك وأسعد بلقائك.
ايها العزيز... لا ادري كيف اوجز لك حياة عرفت الكثير من المآسي والمنافي، تزوجت عام 1952 من دلال المفتي وكانت قد تخرجت مع اختي من الجامعة الاميركية، وكنت يومذاك اعمل معاوناً لمدير شركة المنصور، وفي 1959 تركت الشركة وأصبحت معاوناً لمدير المعارض العام، ثم مديراً بالوكالة وفي عام 1962 قدمت استقالتي من الوظيفة، وعملت مديراً للمركز الثقافي السوفياتي، وكانت هذه الوظيفة كافية لأن يحكم عليّ بالاعدام عند مجيء عبدالسلام عارف للحكم في 1963، وكاد ان يتم اعدامي، اذ لم يكن بيني والتنفيذ كذا في دار الاذاعة الا دقائق عندما طلب عبدالسلام عارف، الذي كان يشرف بنفسه على تنفيذ احكام الاعتباطية كذا، بأن ينفذ الاعدام بنا في مكان آخر، ومن مكان آخر الى مكان آخر. تداخلت شخصيات في الداخل، وحركات اعلامية في الخارج لاطلاق سراحي، والفضل الأول كان لفؤاد عارف، نائب رئيس الجمهورية يومذاك والذي اصرّ على اطلاق سراحي بصفتي كردياً ومن عائلة كبيرة وانه في منصبه بصفته كردياً ايضاً... وهكذا اطلق سراحي... وهكذا ايضاً استطاع ان يوفر لي خروجي من العراق في نهاية عام 1963... فكان ان توجهت الى لبنان، وفي مؤازرة من ادبائه وفنانيه، حصلت على عدة وظائف منها انني كنت رئيساً لتحرير مجلة "العلوم" الصادرة عن "دار الملايين" كذا ومنها ايضاً انني اصبحت مديراً لثانوية "برمانا"، ثم جاءت الحرب ودفعت بي الى ان اترك لبنان، حيث بقيت دون عمل قرابة عام واحد في اثينا، 1978 رجعت بعده الى بغداد، وشغلت وظيفة نائب رئيس تحرير مجلة "آفاق عربية" ورغم علاقتي الطيبة جداً مع رئيس التحرير المرحوم شفيق الكمالي الذي قضى عليه صدام حسين فيما بعد، فان ظروفي قد بدأت تسوء مع البعثيين، مما دفع بي الى الهجرة الى لندن، لأكون مديراً لشركة "بيمنغاب" التي صدرت عنها اهم مجلة فنية "عربياً وعالمياً" تشكيلية كذا، الا ان الشركة وبعد عامين اصيبت بخسارة كبيرة مما اضطرني، وبصفتي، مديرها العام الى اغلاقها... وكانت طوال هذه الفترة تزداد علاقتي سوءاً بالنظام الحاكم في العراق، وعلى الاخص بعد قيام منظمتنا المعارضة "اتحاد الديموقراطيين العراقيين" في لندن، واسناد منصب الرئيس اليّ، كما اشرفت على مجلة "الديموقراطي" الذي ارفق لك نسخة منه كذا. حالياً اكتب مقالاً اسبوعياً في مجلة "المجلة" واحتراماً منها لاسمي فانها تدفع لي مبلغاً يكفل بأن اعيش في وضع لا بأس به، هذا بالاضافة الى ما يأتيني عن كتبي... لي ولد واحد تخرّج من الجامعة الاميركية ببيروت وتزوج من زميلة لبنانية، ويعيشان الآن في كندا، ولهما صبي وبنت، البنت في الحادية عشرة والصبي في العاشرة... وكلهم يحملون الجنسية الكندية... كما احمل انا وزوجتي الجنسية البريطانية.
وماذا بعد ذلك ايها الصديق؟ ما زلت اكتب شعراً وقد حملت مجموعة "الاعمال الكاملة" التي صدرت مؤخراً عن دار سعاد الصباح ديوانين جديدين هما: "ابواب الى البيت الضيق" و"آخر الدرب" وفيهما غزل كثير بالموت وهجو لاذع لصدام حسين وزمرته المجرمة.
الآن، الساعة 30،11 يطرق ساعي البريد الباب لأتسلم النص الانجليزي لحديث ذكرياتك الرائعة. وقد بعثت بنسخة منه الى عدنان رؤوف الذي يقيم الآن في ليماسول بقبرص... والخبر المحزن جداً انه يشكو الآن من السرطان. يكتب من حين لآخر، وقيل لي انه قد بدأ بتدوين ذكرياته... اتصل من آن لآخر، تماماً مثل الحرّاس الليليين في بغداد القديمة لنقول لبعضنا "نعم... بعدني عايش". التقيت في المغرب قبل عامين بنعيم قطّان وقضينا اياماً جميلة محفوفة بالذكريات. التقي من آن لآن بصديقنا الأخ مير بصري، وقد حدثني عن ابراهيم عوبديا وقال انه لا يزال يكتب شعراً... ولشد ما سررت بكرم الأخ الدكتور شموئيل موريه وإرساله لي "اغنيات عراقية" لعوبديا، وقصة سمير نقاش، وانني اعدّ نفسي للانقطاع اليهما في خلوة مناسبة... ارجو ابلاغه احرّ تحياتي وكبير شكري.
ومرّة أخرى... وماذا بعد؟ احلم بلقائكم ما دامت الدعوة لاقامة امسية في حيفا مفتوحة، فقط اتمنى ان لا يخونني الشريان المسدود في القلب قبل تحقيق ذلك. تحياتي وقبلاتي لكل افراد العائلة فرداً فرداً.
واسلموا جميعاً.
بلند الحيدري
لندن في 6/10/1995
* * *
أخي الأعزّ نسيم
تحية طيبة
لقد تأخرت بالرد على رسالتكم الكريمة، وشفيعي في ذلك رحابة صدرك، وما كان لي ان اتأخر بالرد لولا ظروف صعبة مررت بها، بدءاً من صحتي التي توعكت كثيراً كذا غب عودتي من لبنان، ثم كان ان افترق ولدي عمر عن زوجته ولم تجد نفعاً السفر الى كندا كذا لاصلاح ذات البين بينهما وحرصاً على الحالة النفسية لطفليهما… أضف الى ذلك اشكالات المعارضة العراقية، ودأب "اتحاد الديموقراطين العراقيين" - وانا نائب الرئيس ورئيس تحرير مجلته "الديموقراطي" - على توحيد الكلمة بين اطرافها في نقطتين جوهريتين هما: اسقاط النظام العراقي واقامة البديل الديموقراطي، وحتى الاتفاق على هاتين النقطتين ليس سهلاً… دعنا من ذلك..
قرأت بشغف كبير عرضك الدقيق لكتاب "نهاية المنفى" 2 وهو كتاب على غاية من الاهمية كما بدا لي من عرضكم له، ولا ادري ان كان قد وقف كاتبه عند الحالة النفسية لكلا الشعبين والتي حالت دون الانفتاح المطلوب على بعضهما. الخوف باثر من الضعف عند الطرف الاول وارتفاع مستوى التعصب الاعمى، والخوف عند الثاني من تألب الاحقاد عند الطرف الاول، واليوم يثبت الواقع بأن "اسرائيل" دولة من دول المنطقة، وان كل الظروف تشير الى انفتاح الاطراف على بعضها البعض ، ويبقى ان تؤكد "اسرائيل" للدول التي لا تزال تغلق ابوابها دونها بأنها ليست الدولة التي تريد ان تتحكّم بمقدرات دول المنطقة كلها.. وهذا يحتاج الى جهد من قبل مثقفي الطرفين، فالشعوب ليست كمّاً من الناس بقدر ما هي وعي الشعوب بنفسها، والعمل على تنمية القدرة على الحوار المنطقي واحترام الآخر.
كما كنت معك في مناقشتك للدكتور هشام شرابي، الذي التقيته غير مرّة، كان آخرها في ندوة عقدت في لندن تحت عنوان "الحداثة والاسلام" وكان موضوعي في الندوة المذكورة عن "الاسلام لم يحرّم التصوير".
عزيزي الكبير
ان فضلك لعميم، ومن بعض هذا الفضل انك اوصلتني الى نخبة رائعة من المحبين الاعزاء، وان ما استلمته من رسائلهم لتطفح كذا بالصدق والمحبة والذكريات العزيزة علينا جميعاً، وانا في انتظار ان التقيهم في يوم قريب لأشدّهم الى صدري وان منخوباً بالسجائر كذا.. وقد حرصت على الرد على كل رسالة منهم.. الا اني لم اتسلّم رداً من بعض منهم وعسى ان يكون المانع خيراً..
أوقفتني خطوطك تحت بعض اجزاء الحوار الذي اجراه معي ياسين 3... لعل اموراً قد فاتتني.. او انني اكبرت بعض الاصدقاء اكثر مما هم في الواقع... هذا جائز، فقد عوّدت نفسي على ان النقد محبة وكتابة الذكريات كذلك… احاول جاهداً ان اقرأ الحقائق من خلال اعداد نفسي لتجاوز صرامتها الواقعية.. هذا خطأ بلا شكّ لمن يريد ان يؤرخ الحقائق.. ولكن متى كان الشاعر يؤمن بالتاريخ... فاغفر لي زلاتي..
وصلتني أمس رسالة كريمة جداً من الدكتور رؤوبين سنير، وككل رسائلكم ايها الاخوة الطيبون، ومن بعض كرمه انه دعاني دعوة مفتوحة الى جامعة "حيفا" وآمل ان يتيح الزمن لي ذلك، كما اعلمني بأن بعض قصائدي قد تُرجمت الى العبرية وانها تدرس.. وسأسأله ان يوصلني الى شيء من ذلك.
أيها العزيز... أشدّ على يديكم
واسلموا
بلند الحيدري
لندن في 12/11/1995
* * *
أخي الأعزّ الاستاذ نسيم المحترم
تحية طيبة
ما كدت اعود قبل اسبوع من الآن من رحلة الى "الشارقة" لاحياء امسية شعرية فيها، إلا ووقعت أسير مرض في الامعاء ألزمني الفراش لمدة يومين كان لي بعدها ان التقي، ولو لمدة قصيرة، الصديق اسحاق بارموشيه الذي أعدنا سوية كذا الكثير من ذكريات الامس التي لا نزال نتلمس انفسنا فيها بما هو اكبر من ان تشت بنا الدنيا بعيدين عن بعضنا البعض.. وكما عهدناه كان لطيفاً وكذلك زوجته الحبيبة التي لا تزال تحتفظ بالكثير من رهافتها الرائعة.. ويظل لك الفضل الكبير في انك اعدتنا جميعاً الى سالف أيامنا الجميلة.
وكانت في انتظاري رسالتك الكريمة المصحوبة بصورتك ووجهك النحيل وعينيك الذكيتين وعلى مثل ما عرفتهما وانا التقيك في مكتبة "الرابطة" ايام زمان.. وكانت في انتظاري رسالة من الاخ الدكتور روبين سنير مصحوبة بنخبة من قصائدي المترجمة الى العبرية، وقد سعدت كثيراً برسالته، فان دلّت على شيء فعلى كرم خلقه العالي الذي دفع به الى البحث عن ما ترجم لي كذا، كما سعدت بأن قصائدي كانت موضع دراسات عديدة… ورسالة أخرى من القاص الكبير الاستاذ سمير نقاش وجهوده الجادة في الجديد من نتاجه، وهكذا كنت معكم طوال الايام الاخيرة وسأبقى معكم دائماً في كل ما يؤكدنا في ود لن ينقطع ابداً.
أخبار عدنان الاخيرة جيدة وقد عاد الى قبرص متجاوزاً محنته مع مرضه الخبيث وكلي أمل بأنه لن يعاوده مرّة أخرى..
عزيزي.. علمت من مكتبة "الساقي" بلندن بأنها قد اوقفت مطبوعاتها لفترة من الزمن، وستبلغني قريباً عما يجدّ من جديد في هذا الشأن، وكتبت الى دار "رياض الريس" اي الى رياض مباشرة استمزجه رأيه بطبع اعمالك ولم اتسلّم منه اي ردّ لحد الآن.. ربما في الايام القريبة القادمة وسأخبرك بكل ما يصلني عن ذلك.. اما باقي دور النشر فأنا بعيد عنها وربما على مثل بعدك.. صدر لي مؤخراً كتاب "عودة الى الماضي" عن دار المتنبي بباريس. ثم علمت ان الدار كفّت عن النشر والطباعة.. ومجموعتي الكاملة الثانية صدرت عن "دار سعاد الصباح" بالقاهرة وقد كفّت هي الاخرى عن النشر لفترة من الزمن ريثما تُحل الاشكالات التي وقعت بينها وبين المشرفين على اعمالها في القاهرة.. وسأتابع محاولاتي ايها العزيز .. لشدّ ما انا مشتاق للاطلاع على مذكراتك، فما أغناك وما أغنى تلك وحبذا لو قمت انت بترجمتها ليظل للأثر حميميته وصدقه وامانته، وفي ذلك جوهر مثل هذه الكتب.
صحتي معلولة، فالقلب الذي اتعبته صار يتعبني، والسكّري ما زال مستشرياً.. والحلّ والترحال دائمان، وتعب الغربة يشتد وليس لديّ غير الدعاء..
يا ربي
يا رب الاكوان
انقذني من حلمي بالعودة في يوم ما لعراقي
فالباقي من بلدي
مثلي ما عاد له باقي
الا في سوء حروف كالغِربانِ
والا في صفرة أوراقِ
أقبّلكم واسلموا
* * *
أخي الأعزّ نسيم
اتمناه عاماً سعيداً يعود عليكم جميعاً بالخير والسعادة..
ما كدت أعود من مراكش الا وداهمتني "نشلة" قوية ألزمتني الفراش ليومين، وظننتُ انني شفيت منها عندما خرجت لأدفن صديقاً عزيزاً في مقبرة انجليزية هو الصديق "خلوق أمين زكي"، وكان البرد شديداً مما اعاد اليّ "النشلة" ثانية.. انه الصديق الرابع الذي كتب عليّ ان ارمي بقبضة من التراب على جدثه بعد نجيب المانع، ونهى سمارة وعصام السعيد..
وآمل ان يتسع الطريق لي الى بغداد، ليكون لي على الاقل قبر فيها..
رسائلكم ايها العزيز.. اشبه ما تكون بصفارات الحراس الليليين في بغداد القديمة.. تحمل الى بعضنا البعض الاطمئنان بأننا ما زلنا معاً..
لا ادري.. لماذا أشعر اليوم بكآبة كبيرة.. أكتب شعراً كثيراً وشديد المرارة، فالغربة والشيخوخة مؤلمان كذا جداً..
أشد على ايديكم واسلموا.
* * *
بلند الحيدري
لندن في 29/6/1996
أخي الأعزّ نسيم المحترم
تحية طيبة
معذرة لتأخري بالردّ على رسالتكم الكريمة التي اخرجتني لحدّ ما من الوحشة التي اعاني منها في هذه الايام، وانا انتقل من مستشفى الى مستشفى ومن طبيب الى طبيب، فالقلب الذي اتعبته كثيراً قد عاد هو بدوره ليتعبني، ووقوفي من آن لآخر على حافة حفرة تغور عميقاً في ارض الغربة، لأدفن فيها صديقاً، وألقي على جدثه بحفنة من التراب يزدني كذا وحشة واني لاخشى ان لا اجد غداً من يقف على قبري المحفور في الغربة..
لِمَ كل هذا الحديث..؟! المهم عندي هو انك ما زلت على نشاطك السابق والرائع والذي كان لنا منه ما عزّز من تطلعاتنا.. وكلي أمل ان اقع الى كذا كتاب مذكراتك فهو بلا شك سيكون تاريخاً مهماً في مسيرة جيلنا، حتى ولو وطننا لم يعد وطننا..
أرسلت الى سمير العزيز بكاسيت ضم حفلاً لعيد ميلادي وأمسية شعرية وفيلماً عني، وتمنيت عليه ان يوصل نسخة منه اليك، وكان بإمكاني ان ابعث بالنسخة انا، الا انني آثرت ان لا آخذ من وقتك الثمين اكثر مما تهبني من آن لآخر برسائلك الكريمة..
ما زلت اكتب.. وبعض الكتابات التي تخرج الى المناسبات صارت تتعبني.. فعليّ ان اشارك بعد عدة ايام، في حفل تكريم الشيخ عبدالله العلايلي.. وللرجل دالة عليّ.. ولن استطيع السفر الى لبنان فأنا ممنوع من ركوب الطائرة حالياً وسياقة كذا السيارة ايضاً.
وبعد ايها الصديق العزيز.. أدرج لك هذه القصيدة التي تعبّر عن حالي اليوم.
دعاء
شريانانِ
معطوبانِ
الاول في القلب وأما الثاني
فبساقي
والباقي من عُمري ما عاد له باقي
فأنقذني يا ربي
من حقدِ وثاقي
من سوء زمان
من هذا الليل المتآكل في اعماقي
من وقع خطى ما زالت
تحملني من منفى والى منفى
في غير مكانٍ ومكانِ
يا ربي.. يا رب الأكوان
اعتقني من حلمي بالعودة
في يومٍ ما لعراقي
فالباقي من بلدي مثلي
ما عاد له باقي
إلا في سود سطور كالغِربان
وإلا في مُزقِ الاوراقِ
إحالات:
1 يتعلق الأمر هنا بدعوة شخصية محضة وجهها الناقد الاسرائيلي، العراقي الأصل، راؤوبين سنير. لإحياء أمسية شعرية في حيفا، دعوة ليست لها أي طابع رسمي على الاطلاق. نعم كان لدى بلند الحيدري رغم تعلله بالمرض ملاطفة، رغبة صادقة في الالتقاء بنسيم رجوان وبأصدقائه القدماء أينما كانوا، ومهما كانت ردود الفعل السياسية التي غالباً ما يثيرها الكتّاب العرب مستغلين أوضاعاً.
2 بعث نسيم رجوان إلى بلند الحيدري مقالة له عن كتاب جيمس باركس "نهاية المنفى".
3 في "مقطع من سيرة ذاتية في بغداد أواخر الاربعينات" الذي نشرته مجلة "الاغتراب الأدبي" كتب نسيم رجوان ما يلي:
"روى بلند الحيدري لأحد الصحافيين ياسين رفاعية أنه في هذه المرحلة - التي اعقبت صدور مجموعته الشعرية الأولى خفقة الطين - توطدت معرفته بجبرا إبراهيم جبرا ونجيب المانع وحسين هداوي وسلمان محمود حلمي وغيرهم من الأدباء والشعراء المبتدئين - وقال في ما قاله: وكان ان صرنا نزور مكتبة الرابطة. وكان هناك يهودي مثقف اسمه نسيم رجوان يقوم بطبع أي كتاب تصل منه نسخة إلى المكتبة على الآلة الكاتبة ويوزعه علينا بسعر زهيد، أذكر من ذلك رباعيات اليوت بالانكليزية، وكنا نجتمع لقراءة هذه الكتب والقصائد عبر شخص رئيسي فينا، وكان على الأكثر نجيب المانع أو جبرا، إذ لم نكن نعرف من الانكليزية ما يكفل لنا إدراك البعد الشعري لهذه المحاولات الأسبوع العربي، بيروت، 23/7/1975.
يؤسفني أن أقول إن ذاكرة شاعرنا قد خانته، ذلك أنه لم يكن لديّ في تلك الفترة - أو في أية فترة اعقبتها أو سبقتها - الكفاية من الوقت لنسخ الكتب، حتى ولا القصائد المنفردة. الحقيقة هي ان هذه الكتب بيعت في المكتبة بأسعار كاملة، وكنا جميعاً على استعداد للتنازل عن وجبة طعام أو عن مشاهدة أحد الأفلام، لكي نتمكن من شرائها. حقاً ان انكليزية بلند نفسه كانت من الضعف بدرجة جعلته يمتنع عن شراء الكتب بنفسه، غير أن الكتب والمجموعات الشعرية التي تمتع بالاستماع لقراءتها من قبلي أو من نجيب المانع أو من صديقي جبرا إبراهيم جبرا كانت كتباً مقتناة من المكتبة بأسعارها كاملة" انظر "الاغتراب الأدبي" لندن، 1996.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.