استمراراً لتشجير الأحياء السكنية.. «عرقة» يتزين ب«الرياض الخضراء»    مقتل قائد الجيش الكيني و9 ضباط في تحطم مروحية عسكرية    الاحمدي يكتب.. العمادة الرياضية.. وحداوية    مجلس جامعة جازان يعيد نظام الفصلين الدراسيين من العام القادم    استمطار السحب: استهداف ست مناطق عبر 415 رحلة    تَضاعُف حجم الاستثمار في الشركات الناشئة 21 مرة    أمير الرياض يعتمد أسماء الفائزين بجائزة فيصل بن بندر للتميز والإبداع    السلطة الفلسطينية تندد بالفيتو الأميركي    إسرائيل.. ورقة شعبوية !    الدمّاع والصحون الوساع    التوسع في المدن الذكية السعودية    التعاون يتعادل إيجابياً مع الخليج في دوري روشن    أتالانتا يطيح بليفربول من الدوري الأوروبي    الرباط الصليبي ينهي موسم أبو جبل    الإصابة تغيب كويلار أربعة أسابيع    فيصل بن تركي وأيام النصر    المستقبل سعودي    اليحيى يتفقد سير العمل بجوازات مطار البحر الأحمر الدولي    استمرار هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة من يوم غدٍ الجمعة حتى الثلاثاء المقبل    وفاة شقيقة علي إدريس المحنشي    الجامعات وتأهيل المحامين لسوق العمل    في حب مكة !    "سلمان للإغاثة" يوقع اتفاقية تعاون لدعم علاج سوء التغذية في اليمن    الفتح يفوز بثلاثية على الرائد    المرور يحذر من التعامل مع أيّ روابط ومكالمات ومواقع تزعم التخفيض    أمير الرياض يستقبل مدير التعليم    مقتل اثنين من عناصر «حزب الله» في غارات إسرائيلية    سعود بن جلوي يطلع على استراتيجية فنون جدة    توصية لإنشاء منظومات رسمية وشعبية تعتني بالتراث    المفتي العام ونائبه يتسلّمان تقرير فرع عسير    الدفاع المدني يحذر مع استمرار هطول الأمطار يوم غدٍ الجمعة حتى الثلاثاء المقبل    إنطلاق مؤتمر التطورات والابتكارات في المختبرات.. الثلاثاء    السجن 5 سنوات وغرامة 150 ألفاً لمتحرش    خادم الحرمين يتلقى رسالة خطية من ملك البحرين    الرويلي ورئيس أركان الدفاع الإيطالي يبحثان علاقات التعاون الدفاعي والعسكري    شركة تطوير المربع الجديد تبرز التزامها بالابتكار والاستدامة في مؤتمر AACE بالرياض    نائب أمير الرياض يقدم تعازيه ومواساته في وفاة عبدالله ابن جريس    الجمعية السعودية لطب الأورام الإشعاعي تطلق مؤتمرها لمناقشة التطورات العلاجية    أمير الشرقية يرعى حفل افتتاح معرض برنامج آمن للتوعية بالأمن السيبراني الأحد القادم    سمو محافظ الطائف يستقبل مدير الدفاع المدني بالمحافظة المعين حديثا    سعودي ضمن المحكمين لجوائز الويبو العالمية للمنظمة العالمية للملكية الفكرية    وصفات قرنفل سحرية تساعد بإنقاص الوزن    "فنّ العمارة" شاهد على التطوُّر الحضاري بالباحة    الضويان تُجسّد مسيرة المرأة السعودية ب"بينالي البندقية"    الأمطار تزيد من خطر دخول المستشفى بسبب الربو بنسبة 11%    أمير الباحة: القيادة حريصة على تنفيذ مشروعات ترفع مستوى الخدمات    تحت رعاية خادم الحرمين.. المملكة تستضيف اجتماعات مجموعة البنك الإسلامي    5 فوائد مذهلة لبذور البطيخ    رئيس الشورى بحث تعزيز العلاقات.. تقدير أردني للمواقف السعودية الداعمة    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين.. انطلاق مسابقة الملك عبدالعزيز الدولية في صفر    10 آلاف امرأة ضحية قصف الاحتلال لغزة    محافظ جدة يشيد بالخطط الأمنية    السديس يكرم مدير عام "الإخبارية"    شقة الزوجية !    تآخي مقاصد الشريعة مع الواقع !    أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على محمد بن معمر    سمو أمير منطقة الباحة يلتقى المسؤولين والأهالي خلال جلسته الأسبوعية    جهود القيادة سهّلت للمعتمرين أداء مناسكهم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شهادات شعراء وكتاب وأدباء عرفوه . رحل بلند الحيدري فأعلن الشعر ... الحداد
نشر في الحياة يوم 12 - 08 - 1996


- نَمْ أيها اللعينْ
نريد أن ننامْ
أتعبتنا أرهقتنا قتلتنا
نريد ان ننامْ
لا توقظ السجّان في السجينْ
- أقسم لن أنام
تموت عيناي ولن أنامْ
وإنني أسخر من دربين أخضرين في مسالك الرمادْ
أنا هو الدم الذي جفَّ على الإسفلت من سنينْ
يعرفه الجرح ولن تنكره السكينْ
أنا هو الموت الذي يجيء كالميلادْ
- من حوار الابعاد الثلاثة للشاعر بلند الحيدري -
بلند الحيدري الذي عشق الحياة كان مسكوناً بهاجس الموت كما لو ان الموت قنبلة موقوتة ضبطت لحظة تفجيرها على ايقاع قلبه. وهو شاعر الغربة والمنفى بامتياز تعبّد لهما بصمت وخشوع ورتل على أرصفة التشرد مزامير الشوق والحنين لوطن هو خشبة خلاصه وصخرة انتحاره على حد سواء.
كان بلند انساناً مدججاً بالطيبة والتواضع وكان عبر ابتسامته الوادعة يحاول ان يطفئ حرائق الدمع وان يلملم شظايا الاحلام المكسورة، وعشية انطفائه كان يهم بالسفر من مطار هيثرو الى لقاء أصيلة في المغرب، لكنه سافر من مستشفى برومبتون - كما سافر من قبله بدر شاكر السياب في احد مستشفيات الكويت - على جناح غيمة بيضاء وفي حقيبته مسودة لقصيدة سقطت في الغيبوبة كأنها مرآة لهذا العالم الذي أُغمي على ضميره.
بعد اليوم لن يسمع من أحبوا بلند الحيدري وأحبوا شعره قصيدة شيخوخة التي كان يلقيها في كل امسية من امسياته الشعرية منذ عشرات السنين:
شتوية اخرى وهذا أنا
هنا
بجنب المدفأة
أحلم ان تحلم بي امرأة
ولئن كان بوسع الموت ان يخنق صوت الشاعر، فهو عاجز عن ان يخنق اصداء كلماته التي تتربع في مسامع الناس وقلوبهم. وبلند الحيدري بما له وما عليه في شعره وفي حياته يبقى رائداً من رواد الشعر الحر وعلامة مضيئة على درب الحداثة الشعرية.
وفي مناسبة رحيله تقدم "الوسط" ملفاً عن بلند الحيدري يتضمن شهادات بعض الشعراء والادباء والكتّاب الذين عرفوه.
وردتان
بقلم أدونيس
يخيل الي ان اليوم الذي رحل فيه بلند الحيدري كان كمثل سفينة امتلأت بأزاهير الشعر والصداقة، وظني انني رأيت بعض قصائده تحمل غاراً وريحاناً، وبعضها يلوّح، وبعضها ينحني كأنه الشاطئ او كأنه الموج. وكنت قد التقيته منذ فترة قريبة من هذا الوقت الذي تتحول فيه الاشياء والافكار الى حواجز، والى حدود وتخوم. كانت في عينيه انجم تنطفئ. وأحسست انه يسير في دغل من الحزن يخترقه نبع شحيح من الامل. مع ذلك بدا لي كأنه يحشد حول هذا النبع اشجاراً غريبة نادرة من صداقة البشر وصداقة المستقبل، ويحرص ان يصغي بغبطة ويقين الى حفيف اغصانها.
هكذا تأكد لي ان يد الشعر كانت بين الايدي التي حملت جثمانه الى سريره الاخير، وسمعت الصداقة تقول انه يبدأ، في تشرده عن وطنه الأم، رحلة جديدة لا تتسع لها الحدود التي يرسمها الموت او ترسمها الحياة. وتقول عنها انها رحلة الشعر.
بدءاً من هذه اللحظة سأحاول ان أنثر كل يوم، في أثير قبره، وردتين: وردة باسم الشعر، ووردة باسم الصداقة.
كانت منتمياً الى مملكة الشعر
بقلم عبدالوهاب البياتي
بدأت علاقتي بالشاعر الكبير والصديق الأستاذ بلند الحيدري منذ منتصف الاربعينات، وكنت قد اعجبت بمجموعته أغاني المدينة الميتة التي صدرت بعد لقائنا بقليل، فكتبت عنها مقالة نشرت في جريدة الأهالي التي كان يرأس تحريرها الاستاذ كامل التشادرجي زعيم الحزب الوطني الديموقراطي، فأعجب بلند اعجاباً كبيراً بها، وتبناها، ووضعها على أغلفة دواوينه المتلاحقة. ولكن الذي جمع بيني وبين بلند ليست هذه المقالة وحسب، بل الاعجاب المتبادل والصداقة التي كانت بعيدة عن الصخب والعنف اللذين كانا يسودان الحياة الثقافية والسياسية والاجتماعية في ذلك الوقت. كانت العداوات قائمة في كل مكان، لأن العراق كان ما إن يتمخض عن ثورة حتى تجهض.
لم يكن بلند، في تلك السنوات، منتمياً الى حزب او ايديولوجيا بقدر انتمائه الى الشعر ومملكته. ولهذا فقد حاول فتح مقهى أدبي في بغداد، ولكن العيون، التي كانت تتربص بالمثقفين العراقيين في تلك السنوات، حالت بين هذا المقهى الأدبي الاول من نوعه في الشرق الاوسط، وبين المثقفين العراقيين، فأغلق بأوامر من السلطة.
كان مقهى البرازيلية، فيما بعد، مأوانا الذي فيه نلتقي، وأذكر من الوجوه والأعلام الفنية والادبية التي كانت تتردد على هذا المقهى: الفنان الكبير الراحل جواد سليم، والفنان الكبير الراحل فائق حسن، والكاتب القصصي عبدالملك نوري، والكاتب الروائي فؤاد التكرلي، وسواهم من الاعلام الكبار.
وكانت المناقشات تحتدم في اماسي ذلك المقهى، وكان كل فنان او شاعر اذا انجز عملاً جديداً يعرضه على زملائه، قبل عرضه على الآخرين او نشره. وكان بلند حلقة الوصل بين الفنانين والشعراء والكتّاب، اذ كان يحاول ان يتزود بثقافة ادبية وفنية، وكان كثير القراءة، ومعجباً أشد الاعجاب بالشاعر بودلير وبالشاعرين العربيين عمر ابي ريشة و الياس ابو شبكة، وكان يحاول الاقتراب منهم في شعره وشخصيته، وأذكر انه قد أبدع بعض القصائد الرومانسية الوجودية العمودية في تلك السنوات، وكان من اوائل المجددين في بنية القصيدة العربية في العراق.
وكان أشد ما يحزّ في نفسه انه لا يُذكر من قبل النقاد عندما يعددون الرواد، ولكنني اعتقد انه رائد اصيل ومهم في بداية الثورة الشعرية في العراق.
وغادرتُ العراق بعد حلف بغداد الى سورية ولبنان ومصر، ولم ألتق ببلند ولم أره الا بعد قيام ثورة تموز يوليو 1958، ثم غادتُ العراق من جديد في عام 1959.
في عام 1963 وقع انقلاب دموي أطاح ثورة تموز يوليو فاعتقل بلند، نظراً لمواقفه من الانقلاب. سُجن ثم اطلق سراحه، ولم يلبث ان غادر العراق الى لبنان، ولم أره بعد ذلك الا لماماً، وكنا نلتقي في بيروت او في القاهرة في مهرجان ابداع، او مهرجان شوقي وحافظ.
وقبل عام التقينا في مهرجان خليل مطران في بعلبك، وكان آخر لقاء لي به في عمان في مطلع هذا العام، وسهرنا ليلة في بيت احد الاصدقاء، ورأيت ان بلند ما يزال مليئاً بالعافية والقوة وبروحه المرحة، على رغم من الحزن الذي يظهر على وجهه، ولكنه يختفي وراء ابتسامة عذبة يوزعها على اصدقائه.
وعندما بلغني نبأ موته صُدمت صدمة قاسية، ولم اصدق، لأن بلند وأمثاله لا يمرضون ولا يموتون، لأنهم يتحصنون بآلهة الشعر والايمان بالحياة.
فضاء لنفسه
بقلم شوقي أبي شقرا
بلند الحيدري من الشعراء الذين عرفتهم وما عرفتهم. عرفته اولاً اسماً ذائع الصيت منذ بدأت اكتب الشعر في مرحلة الشباب الاولى، ولا أدري الى الآن ما الذي جعلني انظر الى هذا الشاعر، وما الذي جعل اسمه يلتصق بالحركة الشعرية المعاصرة والحديثة، برغم انه لم يكن من حيث المادة مشاركاً في هذه الحركة او تلك، ولا في هذا التيار او ذاك.
كان اسماً بارزاً في الوسط الشعري ولا يذكر الشعراء الا ويعد بينهم بلند الحيدري الذي ترك آثاراً هنا وهناك، وهمسات هنا وهناك، والواناً هنا وهناك، الا انها كلها لا تشكل مثلاً واحداً بارزاً، ولا تشكل هيبة له كهيبة الشخص الذي يحفر في ارض الشعر وتكون له الكلمة الابهى والاجمل.
كان هذا مرد دهشتي وتعجبي وليس عندي الكثير لأضيفه الى تلك الدهشة غير القول بأنه شاعر ارتوى من الينابيع، وكان حاضراً في كل مجلس وفي كل نطاق، ويحسن بي ان اخفف من وطأة دهشتي بالقول ثانية بأن بين شعراء العراق الذين اكتشفوا فضاءات لأنفسهم، اكتشف بلند الحيدري فضاء لنفسه جعله حقاً بارزاً كما جعله ايضاً شاعراً.
سيكون بلند الحيدري بدءاً من الآن في الميزان. ولعلنا نرى الآخرين يقبلون عليه اقبال الفحص والتدقيق. هكذا ينصفون الشاعر الراحل ويقدرونه حقاً من حيث لا يدرون.
محاولة الشعر الصافي
بقلم سعدي يوسف
بلند الحيدري، هو الإبن الضال لأسرة كردية عريقة، اندمجت، وتشظت ايضاً، بواقع السياسة، في بلد يفور بتعقيدات هذا الواقع، وهكذا كان من هذه الاسرة، على سبيل المثال، داود الحيدري وزير الداخلية، وجمال الحيدري القائد الشيوعي الذي قتله انقلابيو 1963.
أقول ان بلند الحيدري هو الابن الضال، لأنه رفض، منذ البداية المبكرة، ان يمضي في السبيل المفترض بابن صالح يمكن ان يرتقي درجات السلّم، واحدة بعد اخرى حيناً، ووثباً حيناً آخر، حتى يبلغ المكانة "اللائقة" المرجوة.
هجر بلند بيت الاسرة يافعاً، ليشكل جماعة ادبية فنية، اطلق عليها اسم "جماعة الوقت الضائع"، وليفتتح مقهى هو مقر للجماعة، وملتقى، ومبيت كذلك للآبقين امثاله. الافكار الوجودية، لا الماركسية، كانت العنوان العريض لهذه الجماعة، ولبلند خصوصاً. ومن هنا جاءت علاقته العجيبة بعبدالرحمن بدوي، المروج للوجودية، ومؤلف كتاب "الزمان الوجودي" الذي اشك في ان احداً فهمه حتى الآن، ولا استثني بلند الحيدري ذاته، اذ لم تتوافر له امكانية دراسة منهجية او اكاديمية تعينه في حل مستغلقات "الزمان الوجودي".
آل الحيدري، وهم يراقبون عن بعد، هذا الإبن المتضور جوعاً، باختياره، دبروا له، في مسعى من قريبه الوزير، داود الحيدري عملاً في شركة سباق الخيل في المنصور، مما أتاح له، الى جانب الخبز اليومي، فرصة التعرف الى عالم عجيب، عالم الخيول، والمراهنات، و "الجوكية"، والنخبة الغنية ايضاً.
تغلق الشرطة مقهى "الوقت الضائع"، بعدما لم يعد مقهى، وبعد ان اخذ أناس عجيبون يأتونه من بعيد: حسين مروان من بعقوبة، وعلي الخرجي من البصرة، على سبيل المثال.
ورب ضارة نافعة، كما يقال، اذ اتجه بلند، بعد اغلاق المقهى، وجهة اكثر جدية، نحو الكتابة.
كان الياس ابو شبكة، صيحة لدى شعراء العراق الشباب، وبينهم بلند، ويبدو لي ان تأثير ابو شبكة في الشعر العراقي كان اوضح وأعمق من تأثيره في الشعر اللبناني، فديوانه "افاعي الفردوس" كان منطلق حرية وتحد، وكتاباً مبجلاً قلّ من لم يحمله باليمين. وأعتقد ان بلند كان الاشد تأثراً بإلياس ابو شبكة.
لم يبدأ الحيدري، بداية رومانسية، شأن ابناء جيله:
"شظايا ورماد" لنازك الملائكة، "الوتر الجاحد" لأكرم الوتري، "ملائكة وشياطين" لعبدالوهاب البياتي، "ازهار ذابلة" لبدر شاكر السياب كان ديوانه الاول "خفقة الطين" مختلفاً. فمثل ما يومئ اليه العنوان، كان بلند معنياً بالأعماق، والهوة السوداء، اكثر من الغيوم والعواطف الهائمة في سموات ملونة.
وكان الياس ابو شبكة ماثلاً ايضاً.
وليس من الصعب رؤية العلاقة بين قصيدة بلند الحيدري "سميراميس" وقصيدة ابو شبكة الشهيرة التي مطلعها:
مَغْناك ملتهبٌ وكأسك مترعةْ
فاسقي أباك الخمرَ واضطجعي معهْ
إلياس ابو شبكة، اذاً، لا ابراهيم ناجي او علي محمود طه او محمود حسن اسماعيل كان المحرّض الرائس، عند بلند الحيدري.
لقد كرّس بلند تمايزه، مبكراً، ولسوف يظل هذا التمايز قائماً، طيلة حياة شعرية مديدة، استمرت لنصف قرن.
أزعمُ ان بلند الحيدري، كان الشاعر الأكثر اهتماماً، بين مجايليه، بمحاولة الشعر الصافي.
أكيد ان هذه المحاولة اصطدمت بعواصف المضطرب السياسي، وما أملته هذه العواصف من ردود افعال، شخصية، وفنية، لكن بلند ظل أميناً في محاولته الدائبة، متوصلاً في سيرورة المحاولة الى قيم جمالية تحمل ميْسمه.
مدخل بلند الى قصيدته فردي خالص، حتى في تلك القصائد المعنية بالشأن العام، خذ مثلاً قصيدته المهداة الى مظفر النواب، او قصيدته "جاؤوا مع الفجر"، او قصيدته عن "هيروشيما".
وأعتقد انه بعمله هذا، أرسى قيمة متعصبة للشعر باعتباره فناً. وبلند، شاعر محكك، كما يقول التعبير القديم. فهو يهتم بمراجعة نصه، وتعديله، وتحويره، وغالباً ما تنصب هذه المراجعة على حذف الزيادات، حتى تبدو القصيدة، في صيغتها النهائية، انموذجاً للاختصار والإيجاز.
وبلند مولع بالموسيقى، عنصراً اساساً في النص الشعري، وإن كان جهده، في هذا المجال، محدوداً بموسيقى البيت، لا بموسيقى المقطع، الا ان مجرد التأكيد على الموسيقى، يعتبر أمراً ذا دلالة في محاولة الشعر الصافي.
في معرض القاهرة للكتاب هذا العام، التقيت بلند في فندق بيراميزا، في الجيزة.
كنت احمل حقيبة خفيفة أنيقة، سوداء، ذات خطين عريضين من الفضة. لقد كانت حقيبته، هو، اهدانيها في لقاء سابق، بعد ان رأى حقيبتي المهترئة.
وهاأنذا احمل حقيبة بلند...
بلند الحيدري وأصوات القصية
بقلم الدكتور علي جعفر العلاّق
يندرج الشاعر العراقي بلند الحيدري ضمن التيار الشعري الملاحق لجيل الرواد، مع ان بعض الدارسين لحركة الشعر العربي كان يعده، احياناً، ضمن حركة الريادة الشعرية ذاتها.
ظل الحيدري مرتبطاً، في ما كتب من شعره، بتلك الرجفة الرومانسية، القلقة، المكدّرة، وكانت قصائده، في معظمها، تتميز بنبرة ذاتية شديدة الأسى والضجر، والتوق الحسي العارم الى المرأة، وما تمثله من دلالات مثيرة للروح والجسد والذاكرة.
ومع ان بلند الحيدري لم يكن مسكوناً بهم شكلي، او فاتحاً لآفاق اسلوبية مفاجئة، الا انه يظل واحداً من الشعراء العرب القلائل الذين اقتربوا، بشكل حميم، من القصيدة الدرامية التي تقوم على تعدد الاصوات، وتنمية الحدث الشعري، والحوار، والمونولوج. وكلنا يذكر قصيدته الطويلة حوار عبر الأبعاد الثلاثة.
وما يسجل للشاعر الحيدري ايضاً شفافية عبارته الشعرية، على العكس من بعض النماذج الشعرية التي تنوء تحت وطأة لغتها الراكدة، والمثقلة بالباروكات والزوائد الكثيرة.
وقد يُختلف، نقدياً، في هذا الشاعر او ذاك، لكن ما هو مهم في النشاط الشعري عامة، النبرة الخاصة، وذلك الغدير من الانكسار الشفيق الذي تتجمع فيه شظايا النفس، وانهماراتها المحزنة، المتوترة. وأظن ان لبلند الحيدري نصيباً واضحاً في هذا الجانب من انجازات القصيدة.
القصيدة المتجددة وتجربة الغريب
بقلم فيصل دراج
في دراسة له عن بدر شاكر السياب عنوانها "من شباك وفيقة الى المعبد الغريق"، استعار جبرا ابراهيم جبرا اخيراً ما قاله الشاعر الانكليزي جون كيتس في شكسبير: "حياة شكسبير قصة رمزية وما كتاباته إلا التعليق والشرح عليها". وما ينطبق على السياب يصدق على الراحل بلند الحيدري، فهو كردي في العراق، وعراقي في المنفى، وغريق بين المسافتين. ولعل حياته الموزعة على منفيين وأكثر، تجعل من رحيله شهادة على تكامل القول الشعري ونمط الحياة، فقد ادار بلند قوله طويلاً حول التيه والاغتراب ورخاوة الوجود. غير ان هذه الشهادة تبلغ حدودها الفاجعة حين تخبر عن مآل الحداثة الشعرية في العراق، فمن قال بالحداثة قضى غريباً، بعيداً عن وطن يستبيحه من أدمن ابادة الشعراء.
ينفتح عالم بلند الحيدري على جهات متعددة، تحتضن السياب ونازك الملائكة وجبرا وآخرين، فالجديد الشعري الذي جاء به بلند في مجموعته "خفقة الطين" في عام 1946، وهو في العشرين من عمره، شكل مع كتابات الملائكة والسياب فاتحة تحول كبير في الشعر العربي، وأرسى قواعد ما عرف في البداية باسم "الشعر الحر"، او ما كان يطلق عليه في الثلاثينات والاربعينات "طريقة الشباب في الشعر". وكما هو حال "عاشقة الليل" لنازك الملائكة و "أزهار ذابلة" للسياب، فإن "خفقة الطين"، الديوان الاول للشاعر الكردي الشاب، تضمن بعداً ريادياً واسعاً، يفتح للشعر أفقاً جديداً ويفرض فهماً جديداً له، يختلف كلياً عن فهمه المسيطر، ان لم يكن يطمح الى كسر السائد وتقديم شكل مضاد للقصيدة السائدة في اغراضها المتنوعة.
فعلى خلاف منظور سائد يحتفل بالبلاغة والصور الجاهزة والمراجع الضيقة، جعل الحيدري من الشعر تجربة كيانية مفتوحة قوامها البحث والاكتشاف المتجددان لعالم لا يمكن استنفاده، الامر الذي يجعل القصيدة متجددة وغير منجزة ابداً، طالما انها لا تبدأ من الكتب بل من ذاتية الانسان المأخوذة بالمعرفة وباكتشاف الذات في اكتشاف العالم الذي تعيشه. ولعل نزوع الحيدري الى مساءلة اللامرئي وأغوار الذات المغتربة جعل شعره يقطع مع القياسات المنطقية والمعاني المألوفة، وجعل من قصيدته تحتفل بالصور الشعرية وتحتفي بها، اذ الصورة لا تمثل العالم في سكونه ولا تمتثل الى آماده المعروفة، بل تلهث وراء المتحرك فيه وتطارد الغامض والخفي، وهو الامر الذي دفع جبرا ابراهيم جبرا الى وصف الحيدري بأنه "شاعر صور".
وإذا كان الحيدري يقدم في قصيدته اقتراحاً شعرياً جديداً، فإنه كان، وفي الوقت نفسه، يقدم منظوراً للعالم كله، يعبر عن الانسان القلق المتوتر، بل عن ذاك المتمرد الذي كلما التقى بحقية اضاعها، كما لو كانت حقيقة الشاعر تقوم في بحث متعثر وأسيان عن الحقيقة من دون الوصول اليها. وما كتبه في "المدن الميتة" صورة عن شاعر يفتش عن عالم مستحيل، يصوغ احلامه ويكسرها كي يعيد صياغتها من جديد، حتى قال عنه مارون عبود مرة "ان بغداد تحلم به" كما لو كان الشاعر يختزن في مخيلته احلام البشر جميعاً. والحلم الذي شغل الحيدري ظل مؤجلاً، لأن رؤى الشاعر الشغوفة بالهجرة لا تسمح به، قبل ان تدمر اركانه قيود السلطة الكارهة للأحلام.
وفي بحثه المتشكك الذي يفضي الى الشعر ولا ينتهي الى مكان آخر، كان الحيدري يعيش تجربة الشاعر الأسيان، الذي يحول الحياة الى قصيدة غير منجزة، ويحول القصيدة الى تجربة تبحث عن شكلها الهارب، الذي يتقادم لحظة العثور عليه. ولعل البحث عن الشكل المتجدد هو الذي يلخص تجربة الحيدري منذ ديوانه الاول "خفقة الطين - 1946" الى ديوانه "عودة الى الماضي - 1993". وربما كان هذا الشكل هو الذي أملى على الشاعر الراحل اختبار الصمت كلغة، حيث لا يقول الشعر إلا تجربة كاتبه، وحيث لا يقول الشعر إلا ما سمحت به حدود اللغة، الامر الذي يجعل القصيدة تخفي اكثر مما تقول، ويرفعها الى مقام نص حافل بالدلالات. واقتراح شعري كهذا، محاط بالشك ومرهق بالحيرة، لا يعترف بالخطابة والغنائية، بل يلتف حول ذاته موزعاً على مناجاة غامضة وبوح داخلي مرتج الابواب.
ومهما كانت الاسئلة التي تطرحها قصيدة الحيدري، فإنه يظل ذلك الشاعر الحداثي، الذي يُنكر الجمال الكلاسيكي وأدوات الزخرفة المأثورة، والذي يبحث عن جمال ملتبس، مراجعه الحيرة وشعور ممض بالغربة والاغتراب. وفي متاهة الغربة وعودة الوجود يكون الشعر تجربة كيانية، وتكون اللغة شكل وجود ومرآة كينونة، قبل ان تكون أداة حوار وتواصل، كأن اللغة تعبير عن عجز الانسان عن الكلام، او كأنها عاجزة عن ربط الانسان الملقى في الوجود بالسر الأول القديم الذي انبثق منه.
المنفي على حدة
بقلم عباس بيضون
عراقي آخر يبتلعه المنفى، نعرف له هذه المرة اسماً ووجهاً. فقد اتسعت الدياسبورا العراقية وما عاد في وسعنا ان نذكر دائماً الاسماء والوجوه. ابتلع المنفى كثيرين وابتلع الصقيع وابتلعت الحانات كثيرين ممن اختفوا كالوشم وزالوا مع نقوشهم وموسيقاهم الناحبة والجوفية التي عبثاً حاولت ان تجاري القطارات والشوارع والحاسبات السريعة، حاولت عبثاً ان تجاري العواصم التي لا يجري في باطنها ماء حميم. العراقي التائه تحت السموات الجليدية، شريد الشموس الحارقة هو نوع ما مجنون العراق ايضاً. فهؤلاء الذين تركوا العراق في موجات هجرة متتابعة حملوا في قلوبهم آجرة ملتهبة، فلا شيء يعدل هذا الخصب الذي نما مجنوناً عنيفاً لاهباً على أذيال الصحراء معفراً، لا بالطين والماء الحميمين فحسب ولكن برمل الصحراء وخطرها، الخصب الذي ينمو من قسوة الصحراء ووحشية النهر ورقة النخيل وملاسة الآجر.
من الكبير الذي قارب المئة الجواهري الى الفتى الذي لم يشب عن العشرين. رحيل بلند الحيدري العراقي الكردي العربي قد يكون ذكرى اخرى للخروج العراقي الكبير. وموت بلند الحيدري مخيف ايضاً لأنه يذكر ان الآجرة يمكن ان تنكسر في القلب الذي يحملها قبل ان تكتحل العين بالعراق. بل يذكّر ان المنفى مقبرة ايضاً.
أحفظ لبلند الحيدري ذكريات مفرقة على بلدان، واحدة في بيروت، واحدة في باريس، واحدة في اصيلة في المغرب واحدة في القاهرة، وأراه الآن وخلفه اطلال بيروت او ميادين القاهرة او بياض اصيلة. لكنني لا أذكره مرة ووراءه دجلة او الفرات. رأيته مرات وفي كل مرة كان حفياً وأنيساً. وضاحكاً. في مرة اخبرني، هازلاً او جاداً لا ادري، بأنه بدأ حياته ملاكماً، وأراني فعلاً قوة قبضته. ظل جذعاً راسخاً. وحين علمت انه مرض رحت أتخيل ان شيئاً اقوى من المرض هزه، شيئاً كالذي يهدم برجاً او صخرة.
بلند الحيدري من رواد القصيدة الحديثة والى الآن لا يزال حساب الرواد مطوياً. فالشاعر الذي تاب مراراً عن الشاعر وعاد عن توبته، والناقد التشكيلي الذي كان بين من ارسوا تفاعلاً وثيقاً بين الرسم والشعر العراقيين، والمنفي على حدة ولم تلتبس سيرته بالشتات العراقي الواسع الا في الاواخر. الرجل الذي كانه بلند الحيدري ظل في الغالب معتدلاً ليناً في الحداثة وفي النقد وفي المنفى، وما كانت لتظهر عليه كاتباً او شخصاً امارات قسوة وعناد. والارجح ان مغفرته فاقت عدله، ولطفه فاق شدته، واذا ابدى في الفترة الاخيرة ضيقاً ما بالنتاج الشعري الجديد فقد نفحه بالكثير من التساهل من ناحية ثانية، تشدد بيد في حين كان يتساهل باليد الاخرى.
كان بلند الحيدري اقل العراقيين الشعراء الرواد سمة عراقية فهذا الشاعر الذي تتلمذ على شعراء لبنانيين ظل فيه شيء من ديباجة اللبنانيين ونزوعهم الى النحت والتجريد واللمح السريع. بدأ بلند الحيدري من الياس ابو شبكة، حسيته وتنميقه الشهواني ولغته العصبية. والارجح ان متصفح شعر الحيدري لا يجد فيه ما يجده في شعر السياب وسعدي يوسف، اي الكثير من طين العراق وعكره وتشعبه وحدائه. فشعر الحيدري في لحظة منه بدا اقل اهتماماً بالمشهد العراقي وأكثر انشغالاً بهواجس وعبارة عامة. لقد وجد نفسه ثانية مع الشعر اللبناني الذي بدءاً من خليل حاوي غلبت عليه نبرة وجودية قومية، الا ان الحيدري لم يكن شاعر ملاحم كحاوي ولا كنايات باذخة مثله. فقد آثر في الغالب عبارة بسيطة، حوارية، مشذبة كسيناريو قرص للنوم. والارجح ان قصائده - السيناريوهات هذه كانت محسوبة بالدرهم، وكان اهم ما فيها تجردها من خطابية وحماسة وجلجلة لغوية وجنوناً بالأساطير التوراتية وغير التوراتية. اي انه رسم بدايات لغة موزونة دقيقة مادية. ربما لذلك بدا شعره عارياً ذلك الحين. الا ان الفترة كان فترة الارتجاز والتهويل ولم تكن للغة شبيهة بالبرقيات، كما ان لغة موزونة محسوبة بالدرهم لا تستقيم لصاحبها دائماً. اذ يميل الميزان احياناً ويلابس الجملة ما لم تجد له. ربما لهذا وقف بلند الحيدري وسط مشروعه. وربما لهذا بدا بلند الحيدري في لحظة ما من دون مشروع.
الكردي الذي لم يكن في شعره ايضاً ما ينبئ عن منبته. اليساري الذي لم يتقن لغة الدم، الحديث الذي لم يذهب شططاً. بلند الحيدري يبتسم في المنفى حيث لا يبتسم سوى قليلين فالمنفي السعيد لا يوجد الا نادراً، والمنفي المتسامح ليس موفوراً كل يوم.
الزمن الذهبي للشعر
بقلم فاطمة المحسن
آخر ما اصدر بلند الحيدري مجموعة مقالات سماها "عودة الى الماضي" احتوت بعض ما كتبه في الصحافة عن ازمنة وشخصيات هي ما تبقى من ماض كان الشاعر العراقي من شخصياته المهمة. فحياته المليئة بالترحال والصداقات الادبية توجب بعض انتباهات لا تحصر في حيز التواصل الاخواني مع شخصيات هذا الماضي الذي غيب الموت اكثرها، بل هي تمتد الى محاولات لقراءات منوعة في أدب وفن الكثير منهم. والحديث عن الآخر معرفة بالنفس وعودة الى محطاتها المهمة، فهو عندما يستذكر اسماء الاصدقاء يمضي الى البحث في تاريخه الشخصي وتاريخ ابداعه. على هذا نجد في تلك الكتابات نثار احاديث وأفكار وتطلعات تلك الايام الخوالي، الاربعينات والخمسينات التي كان بلند الحيدري احد معالم نهضتها الادبية.
وبلند الحيدري بين رواد قصيدة الشعر الحر في العراق اخفضهم صوتاً وأقلهم اندفاعاً وعنفواناً. لا يحمل مزاجاً متطرفاً يمضي بالاشياء الى نهايتها الصافية لا في السياسة ولا في العيش ولا في الفن ايضاً، فكانت مكافأة الحياة له على قدر تلك الخطوات المتباطئة التي مر بها في عالم ضاج بالجموح والاحلام المستحيلة. فكان على السياب ان يسير الى حتفه وهو مصلوب على سرير مستشفى غريب يعاني الألم حتى الثمالة، واندفعت نازك الملائكة مع قرارة موجتها العالية الى شاطئ تكسرت عليه احلامها لتذهب الى عالم الصمت، وكان على شاعر ثائر على الورق مثل البياتي ان يرتدي بدلة ديبلوماسي ويصالح الاوقات لتصالحه دائماً. اما بلند الحيدري فلم يحزم امره بالنسبة الى كل هذه الخيارات، فقد تعلم يوماً ان الحياة تأتيه بالهين من الامور ان صبر عليها قليلاً، وان الايام تمضي لصالحه حتى وان قسى بعضها عليه. فما من مرة غابت ابتسامة بلند عن شفتيه ولا شف مزاجه عن ثورة او غضب، وحتى عندما خذله قلبه الضعيف لم يأخذه بالجزع الذي يستحق، فكان يقول: عشت كما يجب وهذا يكفي. فصار على بينة الواثق من مجد وضعه في مصارف الرواد وعليه ان يجني حصاده آخر عمره بأناة.
بلند الحيدري بقايا الخمسينات المزهرة في العراق، حين كانت الثقافة تتلمس دربها نحو مشروع التحديث الحضاري، وحيث اصاب روادها مس التغيير في كل شيء. نمط الحياة وأسلوب الكتابة وطريقة التفكير. واحتاج الحيدري الكثير من الوقت في هذا الجو المحتدم، لكي ينتزع الاعتراف من انداده ولكي يثبت جدية مشروعه الادبي. فقصيدته اهملت منذ اول أمرها سلطة الفصاحة الشعرية، وظلت تبحث لها عن مستقر يبعد قدر ما يستطيع عن الإرث الشعري الذي كان حضوره يتجدد في كل محاولات الانقلاب عليه، ولو لم يكن لهذا الإرث من ثقل منظور في شعر السياب لما توج الابرز بين المحاولين الاربعة في الشعر الجديد.
قصيدة بلند كانت نتاج المحاولات التي أرادت ان تقرب تجربة السرد والتشخيص في الكلام اليومي من الشعر. فهي مونولوج متقطع بين انتقالات الضمائر وتداخلها، مع رومانسية محدثة تبعد الشعر قليلاً عن الانفعال المفرط والأداء العالي النبرة. وكان قنوطه في القول ويأسه الذي جعل النقاد ينسبونه الى تطلع وجودي هو جزء من اتجاه عام لأدباء مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية كما يسمي بلند جيله في كتابه الاخير، فكان اليأس هو التعبير الأمثل عن ضيق الشباب بعالمهم المحدود، وعلى تشابه طرائق التعبير عن مللهم من ازمنة تمضي بهم الى أفق الفراغ والتشاؤم. بيد ان بعضهم كان يقوى على الحلم بقدرة الكلمة على ان تصنع تاريخاً جديداً وتحض الناس على التغيير. اما بلند الحيدري فلم يكن بوسعه الا ان يختار منطق الواقع الذي يعيشه حين كانت بغداد تضيق بأدبائها المتسكعين. وفي واحدة من استذكاراته يكتب بلند عن وقته الراحل زمن الخمسينات: "كان زمناً هشاً كبطن ضفدعة وقد تعوّد ان يدحرج كرشه ويتسكع معنا في شوارع بغداد القائظة متنقلاً من مقهى الى مقهى، ومن شارع الى شارع، وكثيراً ما كان يتسلل حافي القدمين وحذراً الى قصائدنا، ولا نشعر به الا عندما تعلن المدينة عن اغلاق كل ابوابها حولنا".
هل حقاً كانت بغداد مثل روما فيلليني جحود تأكل ابناءها من دون رحمة او تغلق دونهم الابواب؟ ام ان اولئك الابناء كانوا يحلمون ببغداد الاخرى على ورق القصيدة لا على خارطة الواقع. ما كان يعوز بلند الحيدري، على خلاف انداده من الشعراء، هو ان يستمتع بوقته من دون هواجس الحياة وأسئلتها الصعبة، فهو ابن عائلة مترفة تأتيه الاشياء بأسهلها. ولكنه اختار ان يكون مغترباً، وصدقت احلامه في الحياة مثلما صدقت على الورق فجاءت خياراته في وقتها الأنسب. محض مصادفة سعيدة من زمن ذهبي مثل زمن الخمسينات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.