موبوتو... كابيلا. وجهان لعملة واحدة. لا يهم ايّهما ذهب وأيهما سيأتي. ستبقى زائير على فقرها وأمراضها وجهلها وتخلفها. وقد لا تستطيع القوى التي تسعى الى تغيير الوضع في زائير - ومن وراء ذلك اعادة رسم خريطة وسط القارة السوداء - ان تفرض اي حكومة على غابات زائير النائية وادغالها الاستوائية، غير ان الايقاع السريع الذي اتسم به دق طبول التغيير جعل الزائريين والقوى الاقليمية والدولية التي تدعم كابيلا ومتمرديه يخشون مخاطر ما بعد موبوتو. والأهم: هل سيتم كبح جماح المتمردين بعد دخولهم كنشاسا؟ ومن سيكون الرابح حقاً والخاسر حقاً في تلك الرقعة الشاسعة من افريقيا؟ منذ اليوم الأول لاندلاع الازمة في زائير بدا الرجل القوي الجديد، لوران ديزيري كابيلا 56 عاماً مجرد دمية تحركها قوى اقليمية واجنبية. ولم يصدق كابيلا نفسه كيف انفتحت امامه بوابات المدن والقرى بسهولة حتى بات على مشارف العاصمة كينشاسا. وسارع نظام الرئيس موبوتو الى اتهام رواندا وبورونديواوغندا بارسال قوات لتحارب مع المتمردين في شرق زائير. والواقع ان البلدان الثلاثة المذكورة واجهت اضطرابات عرقية راح ضحيتها في السنوات الأخيرة اكثر من مليون نسمة. وهرب الناجون الى زائير خوفاً من الانتقام. وهكذا انتشر في شرق زائير - قبالة بوروندي ورواندا- نحو 200 ألف لاجئ بوروندي و2،1 مليون لاجئ رواندي. وينتمي هؤلاء اللاجئون الى قبيلة "الهوتو" التي ذبح جيشها وميليشياتها مئات الآلاف من قبيلة "توتسي". بقي اللاجئون في وضع آمن نسبياً منذ نزوحهم العام 1994 في المنطقة المحيطة ببحيرة تنجانيقا، وهي المنطقة نفسها التي تعرف بمنطقة البحيرات الكبرى. غير ان الصورة تغيرت تماماً في تشرين الاول اكتوبر 1996، إذ انَّ القتال بين الهوتو والتوتسي انتقل من رواندا وبوروندي الى شرق زائير حيث اضطر اللاجئون الى الهروب من مخيماتهم. اندلع النزاع في شرق زائير إثر تصريح أدلى به شيكوا موتايازي محافظ اوفيرا في 7 تشرين الاول 1996 دعا فيه الى طرد "الافاعي الغازية"، في اشارة الى اللاجئين التوتسي الذين مكثوا في المناطق الشرقية اكثر من عقدين وصاروا يعرفون هناك باسم "بانيا مولينفي"، ويقدر عددهم بنحو 300 ألف نسمة. وفي 24 تشرين الاول استولى متمردو التوتسي على اوفيرا نفسها التي تعد احدى اكبر مدن مقاطعة كيفو الجنوبية على الضفة الشمالية لبحيرة تنجانيقا. وفي اول تشرين الثاني نوفمبر استولوا على غومات كبرى مدن شرق زائير. ويبدو جيش زعيم التمرد لوران كابيلا كأنه لا يمكن وقف زحفه. فقد نجح في غضون أشهر في الاستيلاء على معظم ارجاء البلاد من دون مقاومة تذكر من جانب الجيش الزائيري، وبسرعة أذهلت حلفاءه قبل المتشككين فيه. وبات مؤكداً انه سيدخل كينشاسا عاجلاً أو آجلاً، ليسدل الستار على حكم موبوتو الذي دام ثلاثة عقود. ويحيط بالرئيس موبوتو حالياً ذووه، ولم يعد لديه حلفاء سياسيون. ولا يتجاوز نفوذه سوى ما يمكن ان يساهم في تحديد الطريقة التي سيتنحى بها ويغادر بعدها البلاد. اضحى هذا السيناريو وما يتبعه من تصورات لعصر ما بعد موبوتو الشغل الشاغل لستان العاصمة الزائيرية. وتضج كينشاسا بالاشاعات والسيناريوهات المتضاربة. فهناك من يتحدثون عن احتمال مؤامرة اميركية في الدقيقة الأخيرة لابقاء موبوتو المصاب بسرطان البروستات. وثمة حديث عن ان القوات البريطانية والفرنسية والاميركية التي ترابط في برازافيل، على الضفة الأخرى لنهر الكونغو، ستدخل العاصمة اثناء انشغال موبوتو بالمفاوضات التي ترعاها جنوب افريقيا، تمهيداً لدخول كابيلا من دون مقاومة. بيد ان قطاعات كبيرة من السكان تخشى ان يحصل انهيار في الأمن لتسود الفوضى قبل وصول جحافل المتمردين الى كينشاسا. ويخشى آخرون ان تتعثر مفاوضات موبوتو - كابيلا فيقرر الأول الصمود ضد المتمردين في قصره أو في بلدة غبادوليت معقل عشيرته. واذا حدث ذلك فستقع مجازر دموية من دون شك. وتكمن ذروة الحظر في هذه التصورات في ان كينشاسا صارت آخر خطوط الرجعة لرجال موبوتو وجنرالاته الهاربين من زحف قوات كابيلا. ويرى المراقبون انه على رغم ان الجيش الزائيري لن يستطيع الصمود، إذ طالما ولّى جنوده الأدبار في كل مكان قبل ان يدخله المتمردون، فان سكان العاصمة يخشون من وجود عناصر موالية لموبوتو قد تتصرف بمنطق "عليّ وعلى اعدائي". هناك أيضاً اشاعات عن اعداد مجموعات انتحارية قوائم لاغتيال السياسيين والديبلوماسيين. وهو أمر لا يمكن القطع بصحته، بيد ان الجميع يدركون ان جهات تشعر بأن ثمة حسابات لا بد من تسويتها قبل انهيار موبوتو. ولا شك في ان الزائيريين جميعاً مقتنعون بأن كابيلا - لا مندوحة - آتٍ. لكن كثيرين يتساءلون: ماذا سيفعل بعد مجيئه؟ ويتساءل آخرون: من هو كابيلا نفسه؟ وهل سيكون محرراً حقيقياً لارادة الشعب أم ان حب الشعب للتغيير سيدفعه الى احلال ديكتاتور جديد محل الديكتاتور الذي ظل حكمه كابوساً مستمراً على مدى 32 عاماً؟ لا احد يعرف شيئاً عن كابيلا سوى انه ينتمي الى مقاطعة شابا في جنوبزائير. وبقي الرجل يرفض رفضاً مستميتاً مساعي اي صحافي يريد اجراء مقابلة معه تتناول ماضيه وأصله العائلي او افكاره السياسية. والثابت انه درس العلوم السياسية في احدى جامعات فرنسا وعاد الى بلاده بعد فترة قصيرة من استقلالها عن بلجيكا العام 1960. وانتخب عضواً في برلمان كاتنغا الشمالية ضمن النواب المؤيدين لأول رئيس وزراء وطني باتريس لوممبا. واثر اغتيال الأخير فرّ كابيلا الى المنطقة نفسها التي بدأ منها هجومه الأخير على الرئيس موبوتو. ولا يعرف احد على وجه التحديد اين كان كابيلا وماذا كان يفعل خلال الفترة من منتصف الستينات حتى التسعينات. رده الجاهز على هذا السؤال "كنت في الغابة". بعض مساعديه يقولون انه تنقل كثيراً في تنزانيا وكينيا واوغندا. كل ما يعرفه الآخرون ان كابيلا انشأ بعد هزيمة مقاتليه على يد موبوتو "حزب الشعب الثوري" الذي بدأ يعمل في المناطق القريبة من بحيرة تنجانيقا. وعمد زعيم التمرد في مستهل السبعينات الى تسمية منطقة نفوذه في جبال فيزي، في مقاطعة كيفو، "المناطق المحررة"، وأقام هناك مزارع جماعية ومدارس ومصحات. ونجحت قواته في صد هجمات الجيش الزائيري اكثر من عقدين. غير ان قوات موبوتو نجحت في ارغام كابيلا على اختيار المنفى في 1977. وذهب الى تنزانيا ليشن هجمات منظمة على مدى 10 سنوات. وخلال سنوات المنفى كان كابيلا كثير السفر الى بلدان شرق افريقيا. ونجح في توثيق صلته بيويري موسيفيني الذي استولى على السلطة في كمبالا العام 1986. وهناك التقى بول كيفامي قائد الجبهة الوطنية الرواندية التي غزت رواندا واستولت على الحكم فيها العام 1994. غير ان اخبار الزعيم الزائيري انقطعت منذ العام 1988، حتى شاع مراراً انه توفي. والواقع انه لم يظهر مطلقاً منذ ذلك الوقت حتى قيادته الهجوم الحالي في الخريف الماضي. لكن ما هي أفكار كابيلا؟ وماذا سيفعل ليعيد بناء زائير؟ وهل ستكون زعامته برداً وسلاماً على افريقيا أم جحيماً سيقضي على الأخضر واليابس هناك؟ لا بد من ان يوضع في الاعتبار ان كابيلا ليس من التوتسي. غير ان الدلائل تؤكد ان معركته الحاليّة يخوضها له جنود روانديون واوغنديون وانغوليون الى جانب عناصر توتسي "البانيامولينفي" الذين ظلوا يقيمون في شرق زائير منذ اكثر من 200 عام. ولم يخف كثيرون من سكان كينشاسا انهم يتوجسون خيفة من هؤلاء المتمردين الذين يتحدثون "بلكنات غير محلية". ويبدي آخرون ارتياباً في كابيلا نفسه الذي ظهر من العدم ليسيطر على اكثر من ثلثي زائير في بضعة أشهر. اما دور القوى الاجنبية في ما تشهده زائير فلا يحتاج الى بحث، اذ ان رواندا تعد - حقيقة - المحرك الاساسي للتمرد. وكانت لاوغندا مصلحة فيه تتمثل في رغبتها في قطع الطريق على متمردي "جيش المقاومة الالهي" الذين يلوذون احياناً بقرى الشريط الحدودي الزائيري - الاوغندي. ولم تبد واشنطن اعتراضاً على موقف كيغالي وكمبالا حيال كينشاسا على رغم انها تمثل القوة الغربية الرئيسية التي اتاحت لموبوتو حكم بلاده طوال العقود الثلاثة الماضية. يا له من مصير ذاك الذي حاق بالماريشال موبوتو، فقد بقي في الحكم يفضل الحكومات الغربية، وها هو يسقط بفعل حكومات افريقية. فرواندا التي يحكمها التوتسي حالياً تعتقد بأن الهوتو الروانديين الذين يقيمون في مخيمات شرق زائير يخططون لغزوها. والواقع انه منذ استيلاء جبهة التوتسي التي يتزعمها كيغامي على السلطة في كيغالي قبل ثلاثة أعوام، بدأت تخطط لغزو زائير للقضاء على الخطر الذي تراه مجسداً في تلك المخيمات. وتولت - مع اوغندا - توفير معسكرات التدريب وتزويد مقاتلي "البانيامولينفي" الاسلحة التي يحتاجون اليها. ويعتقد بأن كيغامي كان ينوي اصلاً ان تكون عملية الغزو محدودة ومحددة الهدف الذي يتمثل في اقامة منطقة عازلة في شرق زائير. لكنه - مثل حليفه موسيفيني - لم يكن يتوقع ان يكتسح المتمردون مدن زائير وقراها بتلك السهولة. ولا بد من ان يوضع في الحسبان ان مرارة اكثر من 40 مليون زائيري، الى جانب تفكك جيش موبوتو وفرار جنوده، جعلتهم يتفرجون بذهول ومن دون مبالاة بما يقع امام اعينهم. غير ان ثمة بعداً آخر للعامل الاجنبي في هذه الحرب. فالثابت ان موبوتو - مثل انظمة حكم اخرى في القارة - لم يعادِ رواندا او اوغندا وحدهما. فقد شملت قائمة اعدائه تنزانيا التي فتحت اراضيها لتدريب مقاتلي كابيلا سنوات عدة، وزامبيا التي لم تمانع في ان يستخدم المتمردون الزائيريون اراضيها للعبور الى بلادهم. وربما اصابت الضربة موبوتو في مقتل من جانب انغولا التي لاذ بها انفصاليو كاتنغا شابا ابان الستينات. ولم تشأ ان تغفر له مطلقاً استضافته زعيم حركة يونيتا الانغولية المتمردة جوناس سافيمبي الذي شنّ من هناك حرباً على بلاده روعتها قرابة عقدين. إذن لا خلاف على ان كابيلا آت لا ريب. لكنه يأتي بلا برنامج ولا أهداف. بل يخفي بين ثناياه ديكتاتوراً يشبه موبوتو، اذ حظر نشاط الاحزاب السياسية في المناطق التي تسيطر عليها قواته. هل سيكون التغيير في زائير مفيداً لافريقيا؟ يعتقد محللون انه سيتيح فرصا للتجارة والتعاون الاقليميين. ويرون ان انغولا ستجد، نتيجة لذلك، فرصة افضل لتحقيق السلام الذي ظلت تنشده. ويشار الى ان سافيمبي اضطر قبل اسابيع الى اعلان قبوله المشاركة في حكومة وحدة وطنية تدعو اتفاق السلام في بلاده الى تشكيلها. ولن تتمكن ميليشيات الهوتو من استخدام زائير منطلقاً لهجماتها ضد رواندا او بوروندي. وسينطبق الشيء نفسه على حركة التمرد الاوغندية التي لن تجد مكاناً يسع مقاتليها في شرق زائير. كما ان حكومة الجبهة الاسلامية القومية في السودان لن تتمكن من الآن فصاعداً من الالتفاف على ثوار الجيش الشعبي لتحرير السودان الذي يتزعمه العقيد جون قرنق لمهاجمتهم من الخلف. وكانت الخرطوم تستخدم علاقاتها مع موبوتو لتيسير ذلك كلما اشتدت عليها هجمات الجنوبيين. ويتردد انها كانت تتولى احياناً دفع اجور الجنود الزائيريين في المناطق الحدودية ليغضوا الطرف عن تسلل قواتها الى مناطق غرب الاستوائية. كذلك فان التغيير في زائير يثير قلق دول افريقية عدة الى جانب منظمة الوحدة الافريقية. فهناك اكثر من حركة تمرد ونزعة انفصال. وهناك اكثر من موبوتو واكثر من كابيلا في ادغال القارة وصحاريها. غير ان ما يحدث في زائير يحمل بعض الجوانب الايجابية، واهمها انه يقف شاهداً على ان القارة ليست بحاجة الى مرتزقة او قوى دولية لكي تحدث التغيير الذي تنشده. ان ما يحدث في زائير - على رغم ما قد يمثله من تطلعات شعبية الى الخلاص من نظام فاسد - يعني ان خريطة وسط افريقيا تعاد صياغتها حالياً. والاجواء حبلى بالانفصال على الأقل شابا ومقاطعة كوساي الغنية بالماس والالتصاق بالاطراف المؤثرة اوغندا ورواندا وانغولا. وما يثير القلق حقاً انه في حال انهيار وحدة زائير، التي تجاور ثماني دول في وسط افريقيا وشرقها وغربها وجنوبها، فان كيانات اخرى ستكون مهددة بانهيار مماثل أرقام وإحصاءات تبلغ مساحة زائير مليونين و345 ألفاً و410 كيلومترات مربعة، تعادل اكبر من ربع مساحة الولاياتالمتحدة. وتجاورها انغولا ورواندا وبوروندي وجمهورية افريقيا الوسطىوالكونغو والسودان وأوغندا وزامبيا. ولا يزيد طول ساحلها على 37 كيلومتراً. ثرواتها الطبيعية: الكوبالت، النحاس، البترول، الماس والاحجار الكريمة، الذهب، الفضة، الزنك، المانغنيز، اليورانيوم، البوكسايت، الحديد، الفحم. يقدر عدد سكان زائير حسب تقديرات العام 1996 بنحو 46.5 مليون نسمة. ويقدر معدل النمو السكاني بپ1.67 في المئة. لجأ اكثر من 1.2 مليون نسمة من بوروندي ورواندا في 1994 الى زائير، ولم تعد منهم سوى نسبة ضئيلة الى بلديهم. وتستضيف زائير اصلاً نحو 100 الف لاجئ انغولي وحوالى 100 الف لاجئ سوداني. توجد في زائير اكثر من 200 قبيلة افريقية غالبيتها تنتمي الى البانتو. ويعتقد ان نحو 70 في المئة من السكان مسيحيون، اما البقية فمسلمون وارواحيون. وتقدر نسبة الاميين بنحو 77 في المئة. العملة الوطنية: الزائير = 100 ماكوتا. ويبلغ سعره 10618 زائير في مقابل دولار اميركي واحد. يوجد في زائير اكثر من 450 حزباً سياسياً منذ سماح الرئيس موبوتو بالتعددية الحزبية في مستهل التسعينات.