يوم مأتم عاصي الرحباني، 23/6/1986 قال شقيقه منصور لصديق مقرب منه: "اليوم، دفنتم نصفي مع عاصي في هذا القبر. لم يعد باقياً بينكم سوى نصف منصور". الى هذا الحد، كان التحام منصور بعاصي. وهو باق على هذا الوفاء حتى اليوم، رغم نتاجه الفردي المبدع. منصور الرحباني، في هذا الحوار مع "الوسط" يبوح بما هو فيه اليوم. حين يجلس منصور الرحباني ليكتب، هل يكون حقاً وحده؟ في مطلع قصيدته الطويلة "أسافر وحدي ملكاً" دار النهار للنشر - 1990 هذا التصدير: "يا عاصي، ثلاثون سنة ونحن نبارك الفرح. سأتفجع الليلة كما في المآسي". وحين قدم مسرحيته "صيف 840" 1987 أصر على الاشارة، مع عنوانها، الى انها "تحية لعاصي". هذا رجل مسكون بعاصي، لكنه ليس وحده. فعاصي، غير مرة في حديثه اليّ حين كنت أبدي رأياً في قصيدة جميلة او لحن متميز، كان يبادرني فوراً: "هذا شغل منصور". لا يدعي واحدهما نجاحاً، بل ينسبه الى الآخر. كأن كلاً منهما مسكون بالآخر. وبعد غياب عاصي أخذ الكثيرون ينحون الى نسبة الشعر والموسيقى والألحان لعاصي، وانه وحده الاساس. هذا الكلام يرضي منصور عاطفياً لكنه يظلمه ابداعياً. ومن كان مثلي يعرف نسيج الاعمال الرحبانية ومقرباً منهما معاً، يعرف ان لمنصور حصة في تلك الاعمال غير عادية، شاعراً وملحناً ومؤلفاً موسيقياً. غير انه، هو ايضاً، ينسب كل جيد رائع الى عاصي، حتى انه في حديثي الحالي اليه قبل أيام، قال لي اكثر من مرة: "نحن نكتب" أو "في رأينا أن..."، ... مستعملاً المثنى نفسه الذي كان يستعمله حين كنا نتحدث معاً قبل غياب عاصي. وكانت البداية من هنا، من حيث يرضيه: منصور، بعد ست سنوات ونصف على غياب عاصي، هل ما زلت تشعر بالحاجة اليه؟ - جداً. وكل لحظة. هذا أمر لا اناقش في حدوثه ابداً. عاصي حاضر معي كل لحظة. من عادتي، في مكتبنا في حرش الكفوري بدارو - ضاحية من بيروت، انني كلما كتبت كلمة او جملة فيها "لقطة" موفقة، أهرع تلقائياً الى غرفة عاصي اقرأها له. الآن ما زالت تأتيني هذه الحالة كلما كتبت "لقطة" موفقة. وفي لحظة لا واعية أهمّ بالذهاب الى غرفة عاصي كي اقرأها له، ولكن... اصطدم بجدار الواقع. ويزداد حزني. عاصي مهم جداً. ليس من يعوضه، من يوم غيابه، وأنا أعرفه كل يوم أكثر. عاصي متفرد نادر. ويوجعني ما يحصل هذه الايام من تطاول مجحف لا ينتقص من حق عاصي مباشرة، لكنه ينتقص من الحقائق، ومن جوهر الاعمال الرحبانية. على ذكر الاعمال الرحبانية، كيف كانت حصيلة "صيف 840"؟ - ممتازة. لعبناها في تونس وفي دمشق، بعد كازينو لبنانوبيروت وبيت الدين وطرابلس في فترة امتدت طوال سنتين متتاليتين، وهذا نادر في تاريخ المسرح اللبناني الغنائي. عمل جديد وماذا بعد "صيف 840"؟ - انتهيت قبل اشهر قليلة من كتابة مسرحية جديدة عن سقراط. عنوانها مأخوذ من عنوان أفلاطون نفسه "آخر أيام سقراط". وما الذي أوصلك الى سقراط؟ - سقراط يلحّ عليّ من زمان. لم يتصد لشخصيته احد في التآليف المسرحية العالمية. ربما كان المؤلفون المسرحيون يتهربون من الفلسفة وتعقيداتها. انا قبل ان أبدأ بالكتابة راجعت المرحلة اليونانية بأكملها. فلسفة وديناً وتقاليد ورقصاً وموسيقى وعدت الى مصادر ومراجع متعددة خلال اشهر طويلة، حتى استطعت المباشرة بالكتابة. وكان دقيقاً علي ان اوصل الفكر الفلسفي السقراطي العميق الى المشاهد العادي. ولكان الامر اهون علي لو انني اكتبها لجمهور نخبوي، لكنني غصت في التبسيط غير الساذج، والتسهيل غير الرخيص. أحياناً كنت اصل الى ساعات يأس. كنت اكتب من دون امل. فمن سيلعب شخصية سقراط؟ صفاته معروفة من الجميع: قصير، بدين، اصلع، افطس، ويجب ان يتوفر للشخصية ممثل بهذه المواصفات مضافاً اليها الصوت الجميل حتى يقنع الجمهور بالمجادلات الفلسفية العميقة الموضوعة على لسانه. غير انني مدين هنا لأولادي مروان وغدي، وخاصة لأسامة الذي كان دائماً يشدد من عزمي ويحثني على انهائها حتى انتهت من دون تنازلات فنية ولا تاريخية، وخرجت بما هي عليه الآن من مستوى جديد في اللغة والتقنية. ومتى عرضها؟ - بيني وبينك، اخشى ان يصبح هذا العمل مثل رجل الجليد: تسمع به ولا تراه. انا خائف ان لا يتسنى لي عرض هذه المسرحية لأني بنيتها ملحمية وشئتها ان تكون أضخم الاعمال التي كتبناها. ماذا تعني بپ"أضخم"؟ - أعني من نسيج "أيام فخر الدين" 1966 و"جبال الصوان" 1968. لكن زمان تنفيذ هذه الاعمال الضخمة في الهواء الطلق ولى نهائياً، وليس غير الدولة تستطيع انتاج هذه الاعمال التي تكلف باهظاً ولا يكون عرضها سوى ايام معدودة. من هنا انني كتبت مسرحية "سقراط" ببناء درامي موضوع لمسرح داخلي، وفيه تعقيدات في الاخراج والديكور والاضاءة. وهذه امكانات لا تتوفر الا على مسرح كازينو لبنان، وهو الآن مقفل بسبب خلاف الدولة مع الشركة المستثمرة. وإذا بقيت الامور عالقة فسأؤجل تنفيذها وأقدم "الوصية" بدلاً منها. مسرحية "الوصية" وماذا عن "الوصية"؟ - هي مسرحية لطيفة هادئة كنت كتبتها منذ سنوات، ثم اعدت كتابتها اخيراً مضيفاً اليها ومعدلاً فيها، على عادتنا في صقل اعمالنا حتى تبلغ الاجود دائماً. هي قصة عجوز ثري في السبعين يكتب في وصيته ان ثروته تذهب الى ورثته أبناء شقيقاته اذا مات بعد الثمانين، وتذهب الى الجمعيات الخيرية اذا مات قبل ذلك. وتنعكس الوظائف فتصبح الجمعيات الخيرية ساعية الى التعجيل في وفاته، وأقرباؤه يجهدون الى المحافظة على حياته. ما الجديد في هذين العملين وما الإسقاطات الاستباقية التي اعتدناها في الأعمال الرحبانية؟ - حين نكتب، عادة، عاصي وأنا، لا نفكر بالاستباقات او الاسقاطات على الوضع الحالي. نحن نكتب وكفى. دافع فينا يدعونا الى الكتابة فنكتب. يقول سقراط: "لا تسألوا الفنان لماذا انتج هذا او ذاك من الاعمال. خذوها منه، تمتعوا بها، ولاتسألوه. اتركوه وحده ينتج لهم غيرها". اما الجديد في "سقراط" و"الوصية" فهو كذلك من مألوفنا. كل عمل رحباني متميز عن الآخر، موضوعاً وكتابة ومعالجة، وفيه جديد قد يثير جدلاً لكنه يأخذ مكانه لاحقاً. وأحياناً لا يظهر الجديد الا بعد حين، مثلما حصل في مقطوعة "مروج السندس" في الستينات. تجربة صوتية ما قصة "مروج السندس"؟ - هي مقطوعة راعينا في تلحينها وتوزيعها الاوركسترالي تجربة جديدة ومهمة في وقتها وغربية على الذي كان سائداً قبلنا، هي تجربة توزيع الأرباع الصوتية. كانت قبلنا نظرية تقول ان الأرباع الصوتية لا يمكن توزيعها. بل بالأحرى: لا يجوز. ذلك ان مؤتمر الموسيقى في القاهرة عام 1932 أوصى بعدم المساس بالموسيقى الشرقية، يعني ان لا يدخل عليها البيانو والكلارنيت والاكورديون، ويجب ان تبقى صوتاً واحداً من دون اضافات هارمونية ولا توزيع اوركسترالي. وكان في ذلك مؤامرة واضحة على الموسيقى العربية، بدليل ان المسؤول الرئيسي في المؤتمر والمتحمس الاكبر لتجميد الموسيقى العربية يومها والداعي الأول الى تلك التوصيات التحنيطية كان الدكتور ناخمان الذي تم تعيينه في ما بعد مديراً لكونسرفاتوار تل ابيب. كانت تلك التوصيات لتأخير الموسيقى العربية بتجميد التوزيع على المقطوعات. نحن وزعنا "مروج السندس"، وبشكل جميل جداً وأنيق وسلس. وزعنا الارباع الصوتية مثل انغام السيغا والبيات وكانت النتيجة ممتازة. احدثت جدلاً في البداية، وبعدئذ راح الكثيرون، ثم الجميع، يوزعون الموسيقى الشرقية من دون عقدة "مؤتمر القاهرة الموسيقي" وتوصيات الدكتور ناخمان. هكذا كنا دائماً نأتي بالجديد الى عالم الموسيقى والشعر والألحان في اعمالنا. في الأعمال الرحبانية جميعها. بنيتما عاصي وأنت وطناً مثالياً وإنساناً مثالياً. فهل، بعدما صار في لبنان ما صار، تشعر بأية خيبة مما حصل لوطن شئتماه بذينك الجمال والكمال؟ - أبداً. الوطن الذي سقط هو وطن المعادلات والاتفاقات بين السياسيين والمفاهيم "المصلحجية" المشتركة وسياسة المزرعة والعشيرة والقبيلة. لذلك كان وطناً هشاً لا يعنينا، سقط عند هبوب الريح. الوطن الرحباني لم نعمره انطلاقاً من تحسين واقع موجود. فنحن لم نكتب دستوراً ولا سنناً ولا قوانين ولم نرسم حدوداً لنقول: هذا هو الوطن الرحباني. نحن، وعن غير قصد واعٍ منا، زرعنا وردة هنا، وهناك صبية الى شباك، وهنالك شعباً طيباً لا يترك أرضه ولايهاجر، أو شعباً عنيداً قرر ان يموت ولا يترك أرضه ولا يستسلم. نحن قصقصنا ورقاً وجعلنا منه مخاتير ورؤساء بلديات وقضاة وحكاماً وملوكاً وغزاة وبائعي بندورة. نحن هاجمنا حرفية القانون الباردة مثل السيف، وبعنا المحكمة بالمزاد العلني، وأعدنا الامبراطور الى الحكم مع المهربين. وبكل راحة ضمير قلنا: "العدالة كرتون، الحرية كذب، وكل حكم بهالأرض باطل" مسرحية "لولو"، هذا هو ما رسمناه فسماه الناس: "الوطن الرحباني". بعضهم قاله خيالياً سريع العطب، وبعضهم رآه حياً في بال الناس يحلمون به لأنه فعلاً حلم جميل، والحلم هو الواقع غير متجسد بعد. نحن رسمنا ملامح فيها خير وحق وجمال وعدالة لا يمكن ان يرفضها احد، وليس صعباً تحقيقها. لذلك، يوم يأتي الى الحكم سياسيون شرفاء يحققون ذاك الوطن المثالي. وهل تجد هؤلاء آتين؟ - لا بد ان يأتوا. الشعب صالح وخيّر ومهيأ. والحكام في النهاية لا بد ان يقتربوا من الوطن المثالي، من الوطن الذي رسمناه نحن طالعاً من الحلم، لأن في هذا الوطن لحظة حقيقة نحن نراها كشعب، بينما الحكام لا يرون منها الا ما يخدم مصالحهم هم لا مصالح الشعب. لا بد لهذا الوطن ان يتحقق. ما الذي تشعر انك لم تحققه بعد؟ - أمور كثيرة تشغل طموحي وتقصر عنها امكاناتي. في بالي احلام كثيرة. منها ما يسقط على الطريق ومنها ما يأخذ طريقه الى التحقيق. الحلم مادة مقبلة. والمهم ان النبع بي لا يزال يرشح احلاماً آتية. وهذا يريحني لأن التوقف عن الحلم هو الوقوع في الموت. عندي تآليف موسيقية هيأت مخططاتها وأحلم بتنفيذها. موسيقى فقط من دون كلام. لكنني اخشى ان يدهمني العمر ولا اتمكن من ذلك. فالأمور الحياتية المعيشية تلح علي وتجعلني اسيرها. والعمر يمضي وأنا اخاف. اكبر وأنا غير منتبه الى أنني أشيخ. وأخاف ان اعتاد على شيخوختي وأسكن فيها. اردد عالياً كل يوم يأتي سأحقق احلامي. أتوغل في العمر وحيداً، ومن داخل وحدتي سأظل أعطي وأنتج. لن استقيل حتى اسقط واقفاً على الحلبة فألحق به، هذا الذي ينتظرني هناك، وحيداً هو الآخر. * * * يسكت منصور. يسكت طويلاً. يتمدد في سكوته قول رحباني شهير: "من كترما ناديتك وِسِع المدى". فجأة يطرق علينا الباب. نلتفت كلانا صوبه. وننتظر، للحظة شاردة، ان ينفتح و... يدخل عاصي. قصيدة جديدة لمنصور الرحباني هذه "خواطر تونسية" دوّنها منصور الرحباني حين كان يقدم مسرحيته "صيف 840" على مسرح قرطاج في تونس قبل عامين ثم سكبها اخيراً في هذه القصيدة غير المنشورة التي تنشرها "الوسط" للمرة الاولى. في المسرح القديم في قرطاجه رأيتُ يا جميلة الزمان كأنه بحر من الأنين ينبع من حجارة الوقتِ... الدمعُ صار نجمة تلمع في مجرّة السنين وامتلأ المكان بالدم والهتاف والرومان وكانت الوحوش يا صديقتي تحاصر المصارع الوحيد لأنه وحيد لأنه منكسر وطنه وحيد جيء به من ساحل في شرقنا بعيد هل بعد تنمو في الربى شقائق النعمان؟ يا فرح القتل ويا سيد كل آن توحدت اصواتهم: الوحش والرومان * * * وأنت أيضاً كنتِ تضحكين وتجلسين في مقاعد الرومان... وفجأة رأيتُني انا هو المصارع السجين حاصرني الشكُ - الحب وحش الغيرة الحزين - وأنتِ تضحكين هذا دمي يُسفَح كل يوم يرسم درب الدمع للعاشقين وأنتِ يا جميلة الزمان من ذلك الزمن حتى الآن ما زلتِ تجلسين في مقاعد الرومان.