"ألِف اليباس مع الصقيع عبر الدروب، وفي الوجوه المغلقة هلّت عليه مع الربيع بعض البراعم مورقة وبكى لرائحة الصغار السُمر... واشتعلت دموع شد المخلّع جسمه ليعود، لن يطوي مشيبه في جوف غربته الغريبة" خليل حاوي أي شعور طاغ هذا الذي نسميه الوطن؟ يربطنا من شغاف قلوبنا ببقعة معيّنة على هذه الارض المترامية الاطراف. يغرقنا حزناً إذا بعدنا عنها بارادتنا، ويحرقنا غضباً إذا ابعدنا عنها بغير ارادتنا... تلك البقعة قد لا تكون الاجمل... ولا الادفأ... ولا الاكثر خصباً الا في عيوننا. شيء ما عنيف التدفق كالسيول التي تعرفها صحارينا... ينهمر في اعماقنا... يذكرنا بأن جذورنا تظل تضرب هناك بعيداً... بعيداً... تحت الرمال... مهما حملتنا خطانا الى جنان نائية نظل بها غرباء. صغيرة هي الارض رغم اتّساعها... ولكنها تصبح في امتداد الكون كله متاهات مترامية... حين تحن خطانا لتلك المعالم والتضاريس التي عشقناها في الطفولة... خيالات تتردد اصداؤها في الذاكرة ظلالاً وطيوفا، وهمسات احاطتنا بالدفء والانتماء... شوقاً يثير كل اصوات الحداء في الوجدان حنيناً الى الوطن...! وما هو الوطن؟ قد يكون بالغريزة تلك الارض التي تفتحت اعيننا على سمرة ترابها وزرقة سمائها حين وعينا وجودنا أول ما عرفنا الوعي بالوجود. وقد لا يكون بالضرورة تلك الارض التي نحمل الاذن رسمياً بالسكن فيها... اوراقاً بخطوط وحروف وألوان تختلف من حدود الى حدود. وهو ليس اطلاقاً تلك الارض التي نختارها لسبب او آخر فنستقر فيها لنزرع او نجسد احلام طفولتنا في شبابنا... ملايين البشر تتجول خطاهم، برضاهم وبغير رضاهم على أراض لا تحمل عبق الوطن. ولكن الوطن ليس طيناً او حجارة... بل هو ذلك الدفء الذي يملأ الاعماق بالانتماء... اينما كنا. الوطن... هو الآخرون حين نجد انفسنا فيهم. هو ذلك الشعور بالرضى عنا وعنهم. نرى في احلامهم احلامنا... وفي آمالهم آمالنا.... وفي احتياجاتهم احتياجاتنا... هو تلك الوجوه التي تعكس اوجاعنا وابتساماتنا فنذوب امتزاجاً بها... وتلك العيون التي تتفاهم معنا صامتة بلغة لا تحتاج الى شفاه... وتلك المعالم التي تثير بنا الاعتداد والاعتزاز والانتماء. الوطن؟ هو كل تلك الالتزامات التي نفرضها بأنفسنا على انفسنا حين نقبل ذلك الانتماء... لا تلك الالتزامات التي تُفرض علينا ولا ننفذها الا غصباً عنا. هو تلك الحقوق التي نؤمن اننا نستحقها لاننا نحمل الوطن في افئدتنا... وليس تلك الحقوق التي تتيحها لنا تصاريح رسمية منقوشة وموثقة بطوابع واختام. هو تلك البقعة التي نختارها - لو كان لنا الاختيار - لتكون فيها هجعتنا الابدية... وليس تلك التي نختارها مستقراً موقتاً لزمن يطول او يقصر. الوطن... بقعة تنبض دفئاً... قد تكون يباباً... صحارى قاحلة او جبالاً جرداء. وقد تكون ادغالاً مميتة او امتدادات جليدية. ولكنها تظل في نبضنا بها اجمل الجنان. تظل المنزل الادفأ... والمستقر الاثير... سعداء هم... من يعرفونها دفئاً يملأ اعماقهم ولو كانوا في العراء...