كتنين لا تراه عيوننا المجردة، الصيف يلفح هنا بكل نيران قيظه. تبدو الصحراء أكثر حقيقة في الصيف. هل يمكن ان تنجح حملات السياحة المحلية الا في المناطق المحظوظة باعتدال الطقس كجبال الشمال والجنوب؟ وهل يكفي اعتدال الطقس ليغري الناس بالبقاء في الوطن؟ هل يمكن ان نشد المواطن للبقاء واغراءات السياحة المتكاملة بكل عروضها العائلية وغير العائلية تناديه من لندن وسويسرا وكان؟ في خلال أيام تشبعت بالصيف هنا بكل أواره وعدت احلم بجبال تغطيها الثلوج. وفي التهاب الرمل وانحسار السماء نشتعل نحن أيضاً باغراءات الاخضرار البعيد... وأعلم جيداً انني بعد أيام من الترحل تطغى مشاعر الغربة فأذوب حنيناً... أي تناقض هذا؟ يفيض بي عشق وطني إذ أتذوق زرقة أمواج الخليج، ونصاعة رمال سواحله والتماع الدفء في عيون أهلي. يفجعني ضيقي به احياناً وسط خضم الوجوه الغريبة لملامح شرقية وغربية تفيض بها الشوارع... ثم اتسلل خلف اقنعة الوجوه الى حقائق المشاعر الراضية والمشاعر الكابية. فأتساءل عن معنى الانتماء والاغتراب في حصار لقمة العيش وكرامة النفس. تملأني أسئلة المواطنة بالمزيد من أسئلة الأرض وخطانا عليها. العرب المشتتون في أصقاع الأرض ولا تهم الأسباب ولا أسباب ترحلهم... أتعاطف معهم. هل الذي يبقى في الأرض يحبها أكثر من الذي يبحث عن أرض أكثر عطاء؟ أو أكثر أمناً؟ أو أكثر دفئاً؟ هل كل من يبقى في الأرض يبقى برضاه؟ وهل كل من يبتعد يرحل برضاه؟ أليس هناك من يحمل منفاه قدراً هنا وهناك؟ أسمع ان متسللين أوقفوا عند نقطة تفتيش مفاجئة ففشلت محاولتهم للهروب من شقاء وطنهم... وأقرأ ان ذلك المعارض لا يملك حق الاعتراض على الأوضاع في مسقط رأسه لأنه استبدل أوراقه الثبوتية فسقطت عنه حقوق المواطنة. وأتساءل ان كان ذلك المشرد المتكور على نفسه في زاوية الاندرغراوند، أو مدخل متجر مغلق في ضاحية مثلجة يشعر بدفء المواطنة. هو وذاك المعارض يملكان الآن الأوراق الثبوتية نفسها... فهل لها قيمة لأي منهما! تحملني أسفاري الى مشارق الأرض ومغاربها... أطل من شرفات اللغات الغريبة... أحاور الوجوه المنعمة المطمئنة، والوجوه الحزينة الصارخة بالحنين... أتوقف لأحاور النادل الأفريقي في لندن، والايراني في باريس، والأفغاني في أميركا... والعربي في كل بقاع الأرض... ويخبرونني ان هناك ملايين الحالمين بأرض أخرى تحتضن خطاهم، بينما تهتز أجسادهم وترتجف تحت رحمة قارب يصارع أخطار المحيط أو حدود تتربص بحمايتها حاميات مدججة. ما الذي يجعل للوطن معنى غير معنى الأرض المستقرة تحت قدميك؟... وكيف أصبح للأرض جدراناً وأسواراً لا مرئية تغلق في وجه هذا أو ذاك؟ تولد على بقعة ما لأن رجلاً احتضن امرأة ما فجأة. وتتعلم سريعاً أبجديات انتمائك وبديهياته، قد تكون واحداً من ملايين أطفال الشوارع في البرازيل أو الهند ليس له حتى منزل يأوي اليه... أو واحداً من المرفهين في ولاية أميركية مزدهرة تضمن له حقوقه مدرسة ومكتبة وعناية صحية ورعاية اجتماعية ان جاء أبواه عاطلين أو مجرمين أو مدمني مخدرات. وقد تكون واحداً من المعذبين في الأرض أبوك فلاح تركي أو مزارع صيني، أو طفل معارض خطفه زوار الليل في الارجنتين أو العراق أو ذبحه ناشطون في الجزائر. انت بعد ذلك مكمل بميزان ذي كفتين... لك حقوق وعليك مسؤوليات... وليس ميزاناً عادلاً لكل الناس... قد يجحف معك او يتحيز اليك. قد لا تنال كل حقوقك فتغضب.... وقد لا تتحمل كل مسؤولياتك فتحبط، وتبدأ في النظر الى موازين الآخرين وتوازناتها، وتعيد النظر في معطيات الانتماء. تغانجك أحلام الحشيش الأخضر في أراضي الآخرين... ولكنه ليس زمن الهجرات البدوية الطليقة... حتى في زمن التصحر أو زمن الحروب الدموية، تحمل انتماءك معك حين تحمل اسم أبيك جدك ولقب القبيلة... أو لا تحمل اي اسم أو تفاصيل. انه زمن الأوراق والأرقام... حتى لو سيرتك أحلامك وأوهامك... وحين تمزق أوراق رقمك القديم، قد تعود يتيماً مشرداً بلا أرض تحتضن ظلك بحنان...