يدعو المشير محمد عبدالغني الجمسي وزير الدفاع المصري الاسبق، في هذا المقال الخاص ب"الوسط"، الدول العربية الى الاستمرار في مفاوضات السلام مع اسرائيل، اياً تكن العقبات، ويتوقع، في الوقت نفسه، ان تمارس الولاياتالمتحدة ضغوطاً على اسرائيل معرباً عن اعتقاده ان الدولة اليهودية "غير قادرة على مواجهة الولاياتالمتحدة". وفي ما يأتي نص هذا المقال الخاص: انتهت الجولة الرابعة من محادثات السلام بين العرب واسرائيل بينما تشير كل الدلائل الى ان هذه المحادثات الثنائية لم تحقق تقدما يذكر. والحقيقة التي اوضحتها المحادثات خلال الاشهر القليلة الماضية هي تعنت وتصلب اسرائيل في موقفها من موضوعين رئيسيين: فلم تعلن الحكومة الاسرائيلية او وفدها في المفاوضات في اي وقت، عن نيتها الانسحاب من الاراضي العربية المحتلة، كما انها لم توافق ابدا على ايقاف بناء المستوطنات فيها، الامر الذي اصاب المفاوضين العرب بالاحباط، لأن ذلك يتعارض تماماً مع الموقف العربي الذي ينادي بأن تكون الارض مقابل السلام. واذا كان هذا هو الموقف الرسمي لاسرائيل حتى الآن فهل يعني ذلك ان المفاوضات وصلت الى طريق مسدود؟ ان الخبرة المكتسبة من المفاوضات المصرية - الاسرائيلية التي جرت بعد رحلة الرئيس الراحل السادات الى القدس عام 1977 تبين لنا استراتيجية اسرائيل في مثل هذه المفاوضات. ففي يوم 25 كانون الاول ديسمبر 1977 في مدينة الاسماعيلية تقدم الوفد الاسرائيلي برئاسة مناحيم بيغن رئيس الوزراء الى الوفد المصري برئاسة الرئيس السادات بمشروع للسلام اقترح فيه ان تظل المستوطنات الاسرائيلية الموجودة في سيناء في اماكنها. وقال بيغن: "ان هذه المستوطنات المدنية ستكون بعد الانسحاب الاسرائيلي تحت السيادة المصرية، وان وجودها على ارض مصرية لا يشكل مساساً بسيادة مصر". وأضاف انه لا يستطيع ترك هذه المستوطنات من دون وسائل للدفاع عن النفس، ولذلك تحتفظ اسرائيل بقوات قليلة للغاية لحمايتها. واعرب بيغن عن امله في ان يتفهم الرئيس السادات هذا المبدأ الانساني. لقد كان معنى مشروع بيغن انه لن يتم انسحاب اسرائيلي من سيناء الى حدودنا الدولية، وهو امر كان يدعو الى السخرية. وتحول الملل الذي اصاب الوفد المصري الى نفاد للصبر وشعور بالاستياء. وبعد شهور عدة من المفاوضات التي كانت تتعثر احياناً وتتوقف احياناً اخرى، وبعد تدخل الولاياتالمتحدة في المفاوضات لحسمها رضخت اسرائيل - بعد عناد طويل - للمنطق والحق العربي بالانسحاب من سيناء وازالة المستوطنات منها. والسؤال هو: هل تتبع اسرائيل في مفاوضاتها الحالية مع العرب الاسلوب نفسه الذي اتبعته من قبل؟ اعتقد ذلك، واقول على الفور انها تسير في طريق التشدد للوصول الى افضل المكاسب السياسية في ظل سيطرتها واحتلالها الارض العربية بالقوة العسكرية التي تتفوق فيها على العرب، ولكنها ستضطر في النهاية الى الوصول الى حل وسط يرضيها من ناحية، ويرضي العرب من ناحية اخرى، وينال مباركة الولاياتالمتحدة لتحقيق اهدافها في المنطقة العربية والشرق الاوسط من ناحية ثالثة. وأرى ان ذلك لن يتم الا بعد التدخل الايجابي من جانب الولاياتالمتحدة لدفع الطرفين الاسرائيلي والعربي للوصول الى هذا الحل الوسط. ماذا ستفعل اميركا؟ ولعلنا نتفق على ان الولاياتالمتحدة يهمها ومن مصلحتها ان يتحقق انهاء الصراع العربي - الاسرائيلي وحل المشكلة الفلسطينية. فقد تعهد الرئيس الاميركي بوش في حديث له يوم 12 آذار مارس 1992 بأنه سيواصل السعي لتحقيق السلام في الشرق الاوسط، وقال ان تصوره لمستقبل المنطقة مبني على حل القضية الفلسطينية وعلى ابرام معاهدات سلام بين العرب واسرائيل وفتح الحدود بينهما. وفي حديث لمجلة "ميدل ايست انسايت" التي تصدر في واشنطن قال بوش انه يريد "استخدام المصداقية التي حصلت عليها واشنطن خلال ازمة الخليج لإنجاح محادثات السلام بين العرب واسرائيل، ولا تزال تربطنا باسرائيل علاقة سليمة وقوية ولكن هناك بعض الخلافات". وأكد بوش ان احد هذه الخلافات يتعلق بالمستوطنات التي يرى انها لا تساهم ابدا في عملية السلام، وان هذه سياسة اميركية قديمة وصحيحة وانه لا يعتزم تغييرها. واوضحت حكومته لاسرائيل ان المستوطنات عقبة في طريق السلام. وفي تصريح اكثر وضوحاً قال بوش: انه يرغب في ان يرى "الشرق الاوسط وقد تحول الى منطقة يستطيع فيها الناس التحرك بسلام حيث يمكن تلبية وضمان مطالب اسرائيل الامنية الحقيقية عبر اتفاقية سلام وليس بواسطة السلاح". والمشكلة الرئيسية التي تواجه استئناف عقد المفاوضات الثنائية هي موضوع المستوطنات الاسرائيلية التي تصر اسرائيل على الاستمرار في بنائها في الارض العربية المحتلة، وهو امر يرفضه العرب كما ترفضه الولاياتالمتحدة. ومن هنا نقرأ ونسمع عن خلاف بين وجهتي النظر الاسرائيلية والاميركية بخصوص ضمانات القروض التي تطلبها اسرائيل من الولاياتالمتحدة التي ترفض منح هذه الضمانات الا اذا توقفت اسرائيل عن بناء اية مستوطنة جديدة وبحيث تتابع اميركا مع اسرائيل كل عمليات التشييد والبناء. ويؤكد بوش ان هذا المشروع يأتي في اطار الحرص على مصالح اميركا اولاً، وانه ابلغ كل الاطراف بما فيها الكونغرس واسرائيل منذ كانون الثاني يناير الماضي، انه يعارض بناء المستوطنات الجديدة. وتصاعد الخلاف السياسي بين اسرائيل والولاياتالمتحدة نتيجة لمحاولة اسرائيل الحصول على الضمانات الاميركية لقرض قيمته عشرة مليارات بلايين من الدولارات على ان يظل بناء المستوطنات جارياً، كما خططت له اسرائيل، الامر الذي يضمن لها ابتلاع الضفة الغربية وتهديد القدس حتى تصبح عاصمة لها من وجهة نظرها. وتطور تصاعد المواجهة بين جماعات الضغط اليهودية والادارة الاميركية بسبب رفض ضمانات القروض، فقد بدأ اللوبي اليهودي الاميركي حملة منظمة للتعريض بالرئيس الاميركي بوش ووزير الخارجية جيمس بيكر فور اعلان سبعين عضوا من اعضاء مجلس الشيوخ الاميركي معارضتهم لرفض الرئيس بوش تقديم ضمانات القروض لاسرائيل. واعلنت السيدة شوشانا كاردن رئيسة مؤتمر رؤساء المنظمات اليهودية الاميركية انه برفض الرئيس الاميركي منح ضمانات القروض فان اسرائيل تفقد حليفها الاكبر والاقوى، وان هذا الرفض يفسد مسيرة السلام ويشجع الدول العربية على الاستمرار في مواقفها. وامتنعت كاردن عن الافصاح بمعارضة اليهود الاميركيين لبوش في معركته الانتخابية، وقالت: "ان التصويت سيتم بطريقة ديموقراطية، وسوف تكون المنظمات اليهودية قوية ونشيطة ومؤثرة في الاطار الديموقراطي". هذا الموقف الذي يحدث حالياً بين اميركا واسرائيل يذكرنا بموقف مماثل اتبعته اسرائيل اثناء مفاوضات فك الاشتباك الثانية على الجبهة المصرية بين مصر واسرائيل بمعاونة ومشاركة اميركا عندما وضعت اسرائيل العراقيل امام المفاوضات حتى حصلت على مكاسب سياسية واخرى مادية من الولاياتالمتحدة. ويبدو ان اسرائيل تقوم بالمحاولة نفسها للحصول على ضمانات القروض من الولاياتالمتحدة، وتقوم في الوقت نفسه ببناء المستوطنات في الارض العربية المحتلة لاغتصابها. والرأي عندي هو ان الولاياتالمتحدة قد تنجح في الضغط على اسرائيل لايقاف بناء المستوطنات مرحلياً، وبالتالي تستأنف المحادثات الثنائية بين العرب واسرائيل، واعتقد ان اسرائيل غير قادرة على مواجهة الولاياتالمتحدة التي تؤيدها سياسياً وتدعمها اقتصادياً وتعاونها عسكرياً، بحيث تضمن لها التفوق العسكري الدائم على الدول العربية. ويجب الا ننسى ابدا ان نجاح المفاوضات العربية - الاسرائيلية هو نجاح لسياسة اميركا في المنطقة العربية والشرق الاوسط، الامر الذي يحقق لها احدى مصالحها الرئيسية التي تضمن امن واستقرار المنطقة وهي السياسة الاميركية المقررة منذ عهد روزفلت الى عهد ريغان. لذلك يجب علينا - نحن العرب - الا نيأس، وان يكون هناك اصرار عربي على الاستمرار في المفاوضات حتى يمكن كشف النيات الحقيقية لاسرائيل نحو السلام الذي يسعى العرب لتحقيقه. وفي تقديري ان الابتزاز الاسرائيلي سيفشل في المرحلة الحالية، وان المفاوضات الثنائية سوف تستأنف لتكون منبراً دولياً لشرح وجهة النظر العربية الامر الذي يعتبر مكسباً كبيراً للقضية العربية والفلسطينية، وسوف تكون النتائج افضل اذا تم تنسيق المواقف العربية قبل استئناف الجولة الخامسة للمفاوضات الثنائية. * وزير الدفاع المصري الاسبق.