أمير المدينة يستقبل سفير إندونيسيا لدى المملكة    أمير الكويت يزور القاهرة.. غداً    أمير الرياض يعتمد ترقية 238 موظفاً من منسوبي الإمارة    توقيع مذكرتي تفاهم لتعزيز استدامة إدارة النفايات وتشجيع المبادرات التوعوية    النيابة العامة: التستر وغسل الأموال يطيح بوافد و3 مواطنين لإخفائهم 200 مليون ريال    أمير المدينة يدشن مهرجان الثقافات والشعوب بالجامعة الإسلامية    المنتدى العالمي للتمويل الإسلامي يدعو لتعزيز التنمية المستدامة    القبض على 8 أشخاص لقيامهم بالسرقة وسلب المارة تحت تهديد السلاح    «الفضاء السعودية» تنشئ مركزاً عالمياً متخصصاً في مجالات الفضاء بالشراكة مع «المنتدى الاقتصادي العالمي»    "جائزة الأميرة صيتة" تُعلن أسماء الفائزين بجائزة المواطنة المسؤولة    سياسيان ل«عكاظ»: السعودية تطوع علاقاتها السياسية لخدمة القضية الفلسطينية    رصد 54 مخالفة في منشآت التدريب الأهلية في شهر مارس    افتتاح الملتقى السنوي الثاني للأطباء السعوديين في إيرلندا    أمطار مصحوبة بعدد من الظواهر الجوية على جميع مناطق المملكة    «مطار الملك خالد»: انحراف طائرة قادمة من الدوحة عن المدرج الرئيسي أثناء هبوطها    لتحديد الأولويات وصقل الرؤى.. انطلاق ملتقى مستقبل السياحة الصحية    فيصل بن فرحان: الوضع في غزة كارثي    عباس يدعو إلى حل يجمع غزة والضفة والقدس في دولة فلسطينية    وزيرا الإعلام والعمل الأرميني يبحثان التعاون المشترك    عبدالله خالد الحاتم.. أول من أصدر مجلة كويتية ساخرة    الأهلي بطلاً لكأس بطولة الغطس للأندية    النصر والنهضة والعدالة أبطال الجولة الماسية للمبارزة    تتضمن ضم " باريوس" مقابل "فيجا".. صفقة تبادلية منتظرة بين الأهلي وأتلتيكو مدريد    كبوة جواد أصيل ياهلال    فيصل بن بندر يؤدي الصلاة على عبدالرحمن بن معمر ويستقبل مجلس جمعية كبار السن    دولة ملهمة    نائب أمير مكة يطلع على تمويلات التنمية الاجتماعية    رابطة العالم الإسلامي تُعرِب عن بالغ قلقها جرّاء تصاعد التوترات العسكرية في شمال دارفور    اللواء الزهراني يحتفل بزفاف نجله صلاح الدين    استمرار هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة    منصور يحتفل بزواجه في الدمام    اللجنة الوزارية العربية تبحث تنفيذ حل الدولتين    " ميلانو" تعتزم حظر البيتزا بعد منتصف الليل    منتدى الرياض يناقش الاستدامة.. السعودية تتفوق في الأمن المائي رغم الندرة    الفيحاء يتوّج بدوري الدرجة الأولى للشباب    ديوانية الراجحي الثقافيه تستعرض التراث العريق للمملكة    النقد وعصبية المسؤول    مهنة مستباحة    فئران ذكية مثل البشر    إستشاري يدعو للتفاعل مع حملة «التطعيم التنفسي»    اكتمال جاهزية كانتي.. وبنزيما انتظار    محمية الإمام عبدالعزيز تشارك في معرض أسبوع البيئة    جامعة «نورة» تفتتح منافسات الدورة الرياضية لطالبات الجامعات الخليجية    منجزات البلدية خلال الربع الأول بحاضرة الدمام    ميتروفيتش ومالكوم يشاركان في التدريبات    المصاعد تقصر العمر والسلالم بديلا أفضل    سعود بن بندر يستقبل أعضاء الجمعية التعاونية الاستهلاكية    صحن طائر بسماء نيويورك    أول صورة للحطام الفضائي في العالم    ذكاء اصطناعي يتنبأ بخصائص النبات    تطبيق علمي لعبارة أنا وأنت واحد    أمير تبوك يواسي أبناء أحمد الغبان في وفاة والدهم    كبار العلماء: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون تصريح    وزير الدفاع يرعى تخريج الدفعة (82) حربية    هيئة كبار العلماء تؤكد على الالتزام باستخراج تصريح الحج    المسلسل    الأمر بالمعروف في الباحة تفعِّل حملة "اعتناء" في الشوارع والميادين العامة    «كبار العلماء» تؤكد ضرورة الإلتزام باستخراج تصاريح الحج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"الوسط" تنشر على حلقات كتاب باتريك سيل عن ابو نضال .لقاء "مصالحة" في الجزائر بين ابو اياد وابو نضال - ابو نضال يتهم فتح : انتم علمتموني كيف اقتل … ويهدد باغتيال خمسة آلاف اوروبي ! 9
نشر في الحياة يوم 30 - 03 - 1992

هذه الحلقة التاسعة من كتاب باتريك سيل "ابو نضال: بندقية للايجار" تكشف معلومات لم تنشر من قبل عن محاولة قام بها الجزائريون لتحقيق مصالحة بين ابو اياد وابو نضال في الجزائر وتتضمن تفاصيل ما جرى في هذا اللقاء، كما تكشف خفايا الصراعات الداخلية داخل منظمة ابو نضال… وكيف اغتال رجال ابو نضال زعيم منظمة الصاعقة زهير محسن في جنوب فرنسا. وقد حصلت "الوسط" من المؤلف نفسه على حقوق النشر المسلسل لهذا الكتاب باللغة العربية في العالم اجمع ولا يحق لأية جهة نشر اجزاء منه الا باذن خاص من "الوسط". وفي ما يأتي الحلقة التاسعة من الكتاب:
في نيسان ابريل 1987 التقى ابو اياد وأبو نضال، اللذان حاول كلّ منهما قتل الآخر خلال عقد من الزمن. التقيا وجهاً لوجه في الجزائر. كان الاثنان عريقين في عالم المخابرات، فالأول كان رئيساً لمخابرات منظمة التحرير الفلسطينية، والثاني كان يدير جهاز خدمات ذا تمويل جيد وأرصدة سرية في بلدان عديدة، وشبكة دولية من القتلة الضاربين. وكان الاثنان اشتبكا في العديد من المعارك، غير ان احداً منهما لم يحقّق انتصاراً فاصلاً. كانا ذات يوم صديقين، إلا ان الحب الذي تحوّل الى كراهية كان نموذجاً للمشاجرات المدمرة التي ابتليت بها حركة المقاومة الفلسطينية منذ البداية.
وكانت الحماية التي تمتع بها ابو نضال في اوقات مختلفة من دول عربية شتى جعلت وصول ابو اياد اليه يكاد يكون مستحيلاً. فهذه الأقطار التي اسبغت عليه الحماية كان لمنظمة التحرير فيها مصالح راسخة، ولذلك لم تكن لتستطيع ان تضرب فيها وتهرب ببساطة دون ان تغضب السلطات المحلية. وأبو اياد، من جهته، لم يكن هدفاً سهلاً هو الآخر، اذ كانت له شعبية داخل الحركة الفلسطينية، وكان يوحي بالولاء، وكان هو ايضاً محاطاً بحماية جيدة. ولذلك كان من الصعب على ابو نضال ان يعثر على قاتل يجهز عليه. ولهذا كله سعى كل واحد من الرجلين ان يحيّد الآخر بواسطة ديبلوماسية معقدة لدى دول عربية واوروبية، وعن طريق الاختراق والتلاعب، وهما الأسلوبان التقليديان لأجهزة المخابرات.
كان ارهاب ابو نضال يشكل اكبر معضلة عند ابو اياد. فعملياته كانت مؤذية للقضية الفلسطينية الى درجة ان ابو اياد اضطر ان يكرس وقتاً وجهداً كبيرين في سبيل ايقافها. ولقد اخبرني انه منذ 1980 ومن بين حوالي مئتي عملية لابو نضال تمكنت منظمة التحرير من إفشال مئة وعشرين، "اشعر بأننا جنّبنا العالم كثيراً من الرعب. وأنا لا احب ان اذكر هذه الاشياء لأننا لا نريد ان نظهر بمظهر من يؤدي دور الشرطة في أوروبا".
ومهما يكن من امر فان احداث لبنان خلال 1985 - 1986 فرضت هدنة واقعية بين الخصمين. وحسبما رأينا من قبل، فقد وقف رجال ابو نضال، اثناء حرب المخيمات الى جانب فتح ضد ميليشيات حركة "امل" التي تدعمها سورية. كانت تلك تجربة شافية للجراح. فحالما وحّد المقاتلون الفلسطينيون صفوفهم على الارض لم يعد ثمة معنى لأن يستمر زعماؤهم في محاولة قتل بعضهم بعضاً.
كان هذا هو الذي جعل من لقاء الجزائر، بين ابو اياد وأبو نضال، امراً ممكناً. اما المناسبة فكانت الدورة الثامنة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني التي انعقدت بين 20 و26 نيسان ابريل 1987 في قصر الصنوبر الذي يبعد حوالي خمسة عشر كيلومتراً غرب الجزائر العاصمة. وقد اطلق على هذه الدورة اسم "دورة الوحدة"، فالمناخ السائد بين الفئات الفلسطينية كان يجنح للمصالحة. وكان عرفات يومها اقلّ تعرضاً للضغط، ولذلك كان يميل اكثر الى المرونة. فجبهة الانقاذ الوطني الفلسطيني، التي اقامها معارضوه بدعمٍ من سورية، كانت الى أفول. كما ان ابو نضال نفسه كان اختلف مع السوريين، وكان اصدقاؤه الجدد الليبيون، والجزائريون الى حدٍ ما، يعملون بنشاط خلف الكواليس من اجل ترقيع المشاجرات الفلسطينية الداخلية. ومن الواضح ان الليبيين والجزائريين لم يكونوا يشتبهون باحتمال وجود ارتباطات له مع الموساد.
ولكن هل كان بوسع هذا الانشقاق التاريخي الذي وقع داخل فتح ان يلتئم؟ وهل كان باستطاعة ابو نضال وفتح ان يضعا حداً للحرب التي استعرت بينهما منذ عام 1974؟ لقد عمل الوسطاء بدأب وجدية. غير ان الحديث عن الهدنة كان يخفي وراءه مخاوف عميقة لدى كل طرف من النوايا الخفية لدى الطرف الآخر. فأبو نضال كان يشك بأن ابو اياد كان يخطّط لشق منظمته، بينما كان ابو اياد مقتنعاً بأن ابو نضال كان يتآمر، بتشجيع من اسرائيل والقذافي، على اختراق منظمة التحرير الفلسطينية والتغلغل فيها لدمغها بوصمة الارهاب من اجل تدميرها.
وفي طرابلس، قبل بدء دورة المجلس الوطني الفلسطيني، كان من المقرر ان يقابل عرفات وأبو اياد ابو نضال معاً. ولكن وصلت في اللحظة الاخيرة رسالة تقول بأن ابو نضال لا يوافق على الاجتماع مع ابو اياد. وقيل بأنه كان غاضباً من مقال في مجلة اسبوعية فرنسية هي "لانوفيل اوبسرفاتور" نقلت على لسان ابو اياد قوله بأن والدة ابو نضال كانت خادمة. وهكذا ذهب عرفات الى الاجتماع وحده. وعاد في الثانية بعد الظهر الى الدارة التي كان يسكنها مع ابو اياد.
وقال لي ابو اياد فيما بعد: "دقّ عرفات بابي، وبدا منزعجاً، وقال لي: "ليتني لم اذهب". ويبدو ان ابو نضال طالب، بتعيين ممثلين عنه في اثنين من الهيئات الأساسية لمنظمة التحرير، وهما اللجنة التنفيذية والمجلس الوطني، وعندما تردد عرفات واعترض، راح ابو نضال يستعمل لغة فظة خشنة، ويرفع صوته بطريقة وجدها عرفات غير مقبولة".
وقد تطلب الامر وساطة سريعة وبارعة ومتقنة على يد رئيس المخابرات الجزائرية الاكحل آيت، والديبلوماسي الجزائري الكبير الاخضر الابراهيمي، حتى تم ترتيب اجتماع بين ابو اياد وابو نضال في دارة قريبة من مقر قصر الصنوبر. وبكياسة لبقة، اقترح الجزائريون ان لا يصحب الخصمان الا حراس جزائريين، كي يتم تجنب وقوع صدام بين رجالهما.
ويلتقط ابو اياد طرف الرواية فيقول:
"دخلت ورأيته هناك، لأول مرة منذ اربعة عشر عاماً. كان يبدو شاحباً ومريضاً، وقد اطلق شاربيه. وعلى رغم اننا كنا نشعر بالبرود والتوتر، فقد تصافحنا وتعانقنا. كنا وحدنا. فبدأ يتصنع التواضع والوداعة ويتصرف بطريقة مهذبة اكثر من اللازم. ولم نستطع ان نقرر كيف نبدأ الحديث في الموضوعات المؤلمة التي جئنا لمناقشتها".
"انتم علمتموني القتل"
وقال ابو اياد بأنه اراد ان يسأل ابو نضال عن اشياء كثيرة، عن هجوم كل منهما على الآخر، وعن سبب شنه لبعض العمليات المعينة، وعن آماله للمستقبل.. وعن سبب سلوكه السيء مع عرفات.
فقال ابو نضال في ردّه بأنه اهين من قبل حارس ضخم جاء به عرفات معه، وبقي في الغرفة اثناء الاجتماع كله. وقد المح الى امتعاضه وعدم ارتياحه لوجود ذلك الرجل، ولكن عرفات لم يصرفه. غير ان شكوى ابو نضال الأساسية كانت من رفض عرفات انضمامه الى منظمة التحرير الفلسطينية.
وتجاذبا الجدال فترة طويلة استعرضا فيها تاريخ محاولات الاغتيال المتبادلة بينهما، وصاح ابو نضال: "انتم علمتموني كيف اقتل! انتم قتلتم صديقي احمد عبدالغفور. وأنا اتبع مثالكم وأقتدي بكم" وسرد له ابو اياد قائمة بممثلي منظمة التحرير الفلسطينية الذين اغتالهم عمداً: سعيد حمامي، وياسين، وقلق، وخضر، والسرطاوي. ولم يعترف ابو نضال سوى بقتل حمامي، بسبب اتصالاته السرية بالاسرائيليين، معلناً انه كان يستحق القتل ليكون امثولة للآخرين. فسأله ابو اياد: "وماذا عن الآخرين؟" وعندما ألح عليه بالاتّهام بأن اسرائيل اخترقت منظمته وراحت تتلاعب بها اعترف ابو نضال بذلك كما هو مروي في فصل سابق وقال نعم. ان منظمته يوجد فيها عملاء لاسرائيل، وأنهم يغذونه بالمعلومات احياناً، غير انه يحاول تصفيتهم واحداً واحداً.
وقال لي ابو اياد أن حديثه كان مليئاً بالتبجحات الجامحة الفارغة. فقد زعم انه قبض على 400 عميل للمخابرات الاردنية، وأنه سيقتلهم جميعاً في يوم واحد. وقال للجزائريين بأنه سيقتل خمسة آلاف اوروبي اذا اصيبت بأذى وفود المجلس الوطني الفلسطيني المجتمعة في الجزائر وأن لديه رجالاً ينتظرون اوامره في اكثر من ثلاثين بلداً، بما فيهم عملاء له في البيت الأبيض وأنه بحاجة الى ثروته الواسعة التي قدّرها بمئات الملايين من الدولارات لشراء مثل هؤلاء العملاء في الأماكن العليا. ثم تحدث بتعاظم، وعرض مشاطرته هذه الارصدة لو اختارت فتح ان تتعاون معه.
غير ان التبجح الاهوج سرعان ما تلاشى ليحل محله التودد العاطفي فبدأ يفضي بدخيلة نفسه قائلاً لأبو اياد: "انت الوحيد الذي يفهمني بصورة حقيقية" ثم حاول ان يعطي كلماته حرقة مؤثرة، ففك ازرار قميصه ليري ابو اياد جروح عملية القلب التي اجريت له في السويد، وقال: "انا رجل مريض، وتمر علي شهور دون ان استطيع مغادرة البيت. وقد اموت في غضون هذا العام. ولكن، قبل ان اموت، اريد ان يتمّ الاعتراف بي. اريد ان اقول للعالم انني تركت الحياة السرية لأدخل عالم السياسة". وقال ايضاً بأنه يعتبر منظمته تأتي بعد فتح فقط في الحركة الفلسطينية. ولذلك ينبغي ان تكون ممثلة في جميع الهيئات الفلسطينية كالفصائل الاخرى. ثم توسل: "ان عليكم انتم ان تساعدوني لتحقيق ذلك".
مشروع اتفاق
وفكّر ابو اياد بأن الخطة الاستراتيجية قد وضحت للعيان اخيراً! فهاهوذا ابو نضال يعترف بنيته الحقيقية. انه يريد الدخول الى المؤسسات الكائنة في قلب منظمة التحرير الفلسطينية كي يشوّه سمعتها كلّها ويضمن انها لا تنجو من وصمة الارهاب.
وهكذا رد عليه ابو اياد: "ولكنك عشت طول حياتك تكره منظمة التحرير. وأنت تعرف اننا لا نستطيع ان نعطيك تمثيلاً في داخلها تحت اسم "فتح: المجلس الثوري". إننا لا نبيع انواع البطيخ! فلا نستطيع ان نعرض في الواجهة دزينة من حركات فتح.. فتح عرفات، وفتحك انت، وفتح ابي موسى وهكذا… ان ذلك هو العبث بعينه!".
فاندلع غضب ابو نضال. وعندما استطاع ان يهدأ سأل عما اذا كان سيحصل على اي تنازل على الاطلاق. فاقترح ابو اياد هدنة من ستة اشهر يتم خلالها وضع نوايا وسلوك ابو نضال على محكّ الاختبار.
"سألني ابو نضال: "ما نوع الاتفاق الذي تريد؟ خذ! اكتبه". لقد كان يحجم عن الكتابة بنفسه لأنه يدرك ان خطّ يده طفوليّ، فأخذت قلماً وورقة وكتبت ما يلي:
1 - وقف كل حروب الدعاية بيننا.
2 - التعاون في كل القضايا التي لها علاقة بالأراضي المحتلة.
3 - حظر كامل على كل العمليات الارهابية ضد العرب والغربيين والاسرائيليين" فقال ابو نضال بأن عليه ان يستشير اعضاء منظمته قبل ان يوافق. ولكنهما عندما التقيا ثانية، وضع على وجهه قناعاً من الغضب الشديد، وتساءل بأسلوب استفزازي: "أي نوع من الاتفاقات هذا؟ تريدني ان اوقف القتل وشنّ العمليات. وتريدني ان اغلق فمي ولا اتدخل في أي شيء، فاذا وافقت على هذا كله، فما الذي يبقى لي كي اقوم به؟" ثم استمر يجادل ابو اياد: "اسمع. انتم منظمة علنية، وأنا منظمة سرية. فلماذا لا نعمل معاً وبذلك يكمل بعضنا بعضاً؟".
فرد عليه ابو اياد: "حسناً، ولكن شريطة ان نمسك نحن بالزمام… وأن نعطي نحن الأوامر".
وبدا على ابو نضال وكأنه يدرس الاقتراح بجدية. فاقترح جلسة مناقشات اخيرة يتمكن كبار زملائه من مشاركتهما فيها. ولكنهم عندما اجتمعوا سوية، ادرك ابو اياد بسرعة انه كان يضيع وقته. وقد تبخر واختفى سلوك ابو نضال المتواضع، وكانت لهجته ساخرة وعدوانية فقال للمجتمعين: "دعوني احكي لكم قصة صغيرة عن ابو اياد. في يوم معركة الكرامة المعركة التي هاجمت فيها اسرائيل معسكراً لفتح في الاردن في آذار/مارس 1968 كان الناس يبحثون عن ابو اياد بجنون، قلقين من احتمال مقتله. فقلت لهم: "لا تقلقوا. انه بخير حقاً! والواقع انه في بيتي ، يرتجف من الخوف!".
ولم يكد ابو اياد يصدق اذنيه، فصرخ: "كاذب! ايها الكاذب بلا خجل! لقد كنت انت الذي اختفيت فلم يعثر عليك احد" ولم يكن ذلك الاجتماع ودياً. وكان آخر مرة شاهد فيها كل منهما الآخر.
اغتيال زهير محسن
وبدلاً من مصالحة ابو اياد وابو نضال، فقد اثبتت مفاوضات الجزائر انها ليست اكثر من جولة اخرى في مبارزتهما. وبدأ ابو اياد يسعى لاختراق منظمة ابو نضال ولتشجيع حالات الهرب منها. كان يعلم ان تأرجح الوضع الداخلي لدى ابو نضال سيجعله قلقاً ويرغمه على توجيه طاقاته لحماية نفسه بعيداً عن العمليات الاجنبية.
واعتقد بعض الفلسطينيين في وقت لاحق ان ابو اياد قام بزرع عاطف ابو بكر، العضو القديم البارع المخلص لفتح، لدى ابو نضال منذ 1985 ليكون بمثابة "عميل" محّرض لإثارة انفجار داخلي بين صفوفه. وقد اعتقد ابو نضال، بالتأكيد، بمثل ذلك عندما انشق عنه ابو بكر. ولكن بعدما تحدثت مطولا مع ابو اياد وعاطف ابو بكر تشككت في امر هذه النظرية. فأبو بكر كان يبدو رجل مبادىء وثورياً بشكل لا يمكن معه ان يضع نفسه في خدمة مثل هذه العملية.
في الاشهر الاخير من عام 1987 شن ابو نضال عدداً قليلاً من العمليات الارهابية. ففي هذه الفترة قام بتدمير قواته في لبنان، ولعل احد دوافع اعمال القتل هذه التي ارتكبها بحق العديد من اقرانه كان خوفه من ان يكون ابو اياد يقوم بتأليب رفاقه ضده. وصلت التصفيات الداخلية في فترة 1987 و1988 الى اوجها الدامي في تشرين الاول اكتوبر 1988 باغتيال ابو نزار، نائبه، وعندئذ كان ابو نضال قد استأنف مسيرته الارهابية بسلسلة من الهجمات في قبرص والسودان واليونان والتي وصفناها آنفاً.
ولا بد من التوقف قليلاً عند تلك المرحلة.
ذات يوم في عام 1986، عندما كانت منظمة ابو نضال لا تزال في سورية طلبت مخابرات القوى الجوية من مسؤول الاتصال معها في المنظمة، عبدالكريم البنّا ابن اخ ابو نضال ان كان يعرف عضوا يدعى مجاهد البياري، لأنهم يرغبون في مقابلته. وعندما سمع ابو نضال بهذه الاستيضاحات بدا عليه القلق العميق وصرخ صاخباً بأن السوريين ربما كانوا يريدون تسليم البياري الى الكويتيين، بسبب نسف المقاهي، ورفض رفضاً قاطعاً ان يسمح بمقابلة البياري.
والواقع ان البياري كان في تموز يوليو 1979 في مدينة نيس على ساحل الرفييرا الفرنسية واحداً من فريق ابو نضال الضارب الذي قام بتحريض من العراق باغتيال زهير محسن رئيس منظمة الصاعقة، الفصيل الفلسطيني الذي اقامته ودعمته سورية. وعندما طلب السوريون مقابلة البياري، تبادر الى ذهن ابو نضال على الفور الشك في ان السوريين علموا بدوره، وأنهم كانوا مصممين على الانتقام. فطلب من البياري تفجير سيارة مفخخة وكان ذلك احد اختصاصاته في حزام اسرائيل الامني في جنوب لبنان. ولكن القنبلة انفجرت قبل موعدها في صيدا فقتلت البياري.
ثم بعث ابو نضال برسالة الى السوريين يسألهم عما اذا كانوا يحبون ان يقتل لهم زعيم جبهة التحرير العربية، الفصيل الفلسطيني التابع للعراق؟ وكما اوضح لي احد الأعضاء السابقين عند ابو نضال: "كان ابو نضال يقول للسوريين: انظروا، لقد قتلت زهير محسن بأمر من العراقيين، وأنا مستعد لقتل رجلهم بناء على اوامركم". وقد رفض السوريون هذه المقايضة.
التصفيات والمؤامرة
وفي الفترة بين 1987 و1988 قام ابو نضال بعمليات تصفيات كبرى في صفوف منظمته، في لبنان وليبيا، متهماً الذين امر بقتلهم بأنهم يتآمرون عليه او يعملون لحساب اطراف عربية وفلسطينية معادية له.
لقد ظلّ ابو نضال، وأبو نزار، وعبدالرحمن عيسى سنوات طويلة لا يفترقون ولا ينفصلون وقد قاموا ببناء المنظمة. ولكن، بحلول عام 1981، كان ابو نضال ارتحل الى بولونيا ثم امضى بضع سنوات بعد ذلك في اوروبا، بين وارسو وفيينا، بين زوريخ وبرلين، يتاجر بالاسلحة، ويؤسس شركات مالية، ويجمع الارصدة المتراكمة ويبتعد تماماً عن الشرق الاوسط. وحاول ان يدير المنظمة بالسيطرة من بعيد، فيرسل الى شركائه الواقعين تحت ضغط العمل الكثيف سيلاً اسبوعياً من المذكرات يوبخهم فيها، وينتقدهم ويحرض بعضهم على بعض. ولكن غيابه وأساليبه الدكتاتورية اثارت غضباً متزايداً. فبينما كان زملاؤه يتحملون العبء اليومي، كان يأمرهم بهذا وذاك ويتدخل في تفاصيل عملهم.
كانت تلك السنوات هي التي شهدت تطور المنظمة بسرعة وهي تعمل من قاعدتها السورية. فتوسعت الى ما يقارب من عشرة ا ضعاف حجمها السابق في لبنان. ولقد كان هذا التوسع مصدر "اعتزاز" للرجال الذين كانوا يديرون المنظمة فعلياً، بينما كان بالنسبة الى ابو نضال مصدر ذعر وقلق.
فمن وجهة نظره، كان المجندون الجدد كتلة من الرجال غير قابلة للهضم، رجال يخربون منظمته، وربما يشكلون تهديداً خطيراً لشخصه. ولكي يحكم بنفسه على هذه التطورات جاء ابو نضال الى سورية سراً لمدة اسبوع في تشرين الأول اكتوبر 1984، ثم لمدة اسبوعين في كانون الثاني يناير 1985، وعقد اثناء ذلك اجتماعات مطولة مع قيادته. ثم جاء في 22 تشرين الاول اكتوبر 1985 وأقام في سورية فترات متقطعة لمدة عام وخمسة اشهر حتى مغادرتها نهائياً في 28 آذار مارس 1987.
وفي هذه الفترة وصل النزاع الداخلي الى حد التأزم، فقام ابو نضال بتحركاته القمعية التي دحر بها زملاءه واستعاد السيطرة على منظمته.
وقد شملت خطواته تلك ما يلي:
في عام 1985، احلال افراد من عائلته محل ابو نزار وعبدالرحمن عيسى كموقعين على الحسابات المصرفية للمنظمة في سويسرا وأماكن اخرى.
في آب اغسطس 1986، ازاحة ابو نزار من منصبه كنائب للرئيس حيث استبدل به الشاب الموالي له حتى العبودية عصام مرقة بينما اعطي ابو نزار وظيفة اضعف بكثير هي رئاسة مديرية التنظيم.
تدبير وهندسة طرد المنظمة من سورية في حزيران يونيو 1987، بشن هجمات ارهابية في روما، وفيينا، وكراتشي، واسطنبول من دون معرفة سورية او موافقتها.
تمزيق المنظمة بين لبنان وليبيا من اجل السيطرة عليها اكثر.
تخفيض رتبة عبدالرحمن عيسى عام 1987 من رئيس مديرية المخابرات الى كادر صغير، حيث استبدل به مصطفى عوض علاء في لبنان وعلي الفرا الدكتور كمال في ليبيا.
ثم، بدءاً من تشرين الثاني نوفمبر 1987، وكذروة لتتويج هذه التحركات، اصدار اوامره بتدبير عملية تصفية ضد ضباط ورجال الجيش الشعبي التابع لمنظمته.
وكان زملاؤه بطيئين في فهم اهمية ومغزى التأثير المتراكم لهذه التحركات - باستثناء عدد قليل منهم - فسقطوا ضحية استراتيجيته المتفوقة.
هل كانت هناك اية صحة لاتهامات ابو نضال بأن زملاءه الذين كانوا مخلصين له يوماً يتآمرون عليه للاطاحة به في خريف عام 1987؟ ان ما هو اكيد هو انه من عام 1985 فصاعداً راح يلقى منهم مقاومة متزايدة. فالرجال الذين كانوا يديرون الامور اثناء غيابه الطويل في بولندا، والذين اسسوا المنظمة في سورية، وأدخلوها لبنان، ووسّعوها، بدأوا يغضبون من محاولاته عكس مسار التيار وإعادة المنظمة الى وجودها القديم كالقنفذ في ظلام العالم السفلي.
ولم يعجبهم ان يُرغموا على الخروج من سورية، ولا الانقسام او الانشطار بين ليبيا ولبنان، الامر الذي اضعف مركزهم. كما شعروا بأن الوقت حان لينأوا بأنفسهم عن الارهاب، وطالبوا بأن تكون لهم كلمة ومشاركة في صنع السياسة. اما ابو نضال فألقى بمسؤولية المشاكل التي كان يواجهها على عاتق الرجال الجدد الذين دخلوا قيادته العليا من فتح في عام 1985، وعلى رأسهم عاطف ابو بكر، الذي عمل ذات يوم سفيرا لمنظمة التحرير الفلسطينية، والذي اصبح المنظّر الفكري العقائدي للاتجاه "الوطني" الجديد. وعلى رغم ان ابا بكر كان نحيفا مهزولا في الجسم والوجه الذي يحمل تعبيرا صارماً متجهاً بنظره الى دخيلة نفسه، ويتحدث تارة باسلوب تعليمي وتارة بتصميم قاطع او ساخر، فقد كان من الناحية العقلية الفكرية فوق الآخرين. وكان خصما رهيبا، كما ادرك ابو نضال. فأمثاله من الرجال لم يكونوا مستعدين لأن يبصموا بالموافقة العمياء كالأختام المطاطية على اوامر ابو نضال. بل كانوا يريدون مناقشة حقيقية داخل المكتب السياسي واللجنة المركزية. وكانت لهم نظرة او رؤية لمستقبل المنظمة تختلف عن رؤيته اختلافاً كليا شاملا.
وهكذا بقي الدخان يتصاعد من الخلاف في داخل المنظمة من عام 1985 الى عام 1987 حول السلطة، والمال، والعمليات، والتوجه الفكري العقائدي، والعلاقات مع المنظمات الاخرى، وعملية صنع القرار. ولم يكن التحدي اكثر من شيء كامن، ولكنه ربما كان كافيا لجعل ابو نضال يخشى من ان يستخدم زملاؤه ضده ذات يوم القوات التي في امرتهم لازاحته، والسيطرة على المنظمة، ربما بمساعدة سورية.
فأبو نزار، وعبدالرحمن عيسى كانا، على رغم كل شيء، يعيشان ويعملان في سورية ويتمتعان بعلاقة حميمة مع اللواء محمد الخولي ومخابرات القوى الجوية. وبالنسبة الى شخص له طبيعة ابو نضال المصابة بهوس التشكك في الآخرين والتخوف منهم، كان ذلك سبباً كافياً لأن يبدأ هو بالضربة الاولى. وحسب العبارة الشائعة فقد كان ابو نضال مصمماً على ان "يتغدى بأعدائه قبل ان يتعشوا به".
كان رد فعله ان وضع في المناصب الهامة والحساسة رجالا يشاطرونه رؤيته في وجوب بقاء المنظمة كلها جهازا سريا خفيا، يعيش على قوانينه المتوحشة نفسها، ثم، وبمساعدتهم يتم ذبح الضباط والرجال القادرين وحدهم على اعطاء معارضيه العضلات التي يحتاجون اليها للوقوف ضده في تحد جدي.
نائب ابو نضال ينقلب
وأدت عمليات التصفية التي أمر بها ابو نضال في ليبيا ولبنان الى اخراج التوترات الداخلية الى العلن. وكان واضحاً ان ابو نضال قادر على الحكم بالموت على من شاء، وكان من القوة بحيث يضمن تنفيذ الحكم. وأراد عاطف ابو بكر، اعلى معارضيه صوتاً، ان يفضح التركيبة المروعة كلها. وشعر بأن من واجبه ان يتخذ موقفاً ويعلم الأعضاء جميعاً بما كان يجري. ذلك ان بقاءه صامتاً كان يعني مشاركته ابو نضال في جرائمه.
وفي أيار مايو وحزيران يونيو 1988 بدأ عاطف ابو بكر يوجه مذكرات الى اعضاء المكتب السياسي واللجنة المركزية لمنظمة ابو نضال يطالب فيها بتشكيل لجنة للتحقيق في عمليات القتل. كان ذلك تحدياً مكشوفاً لأبو نضال الذي كان ملزماً بقبوله. ولم يكتف ابو بكر بكتابة المذكرات، بل حاول ان يكسب ابو نزار الى صفه. ابو نزار، العضو المؤسس للمنظمة ونائب ابو نضال السابق الذي لا يزال من القوة الشعبية ما يكفي لتغيير اتجاه الحركة كله.
ورد ابو نضال على ذلك بنصب فخ فيه براعة الاستاذ، فعند مغادرة سورية كانت زوجة ابو نزار وأطفاله انتقلوا الى الجزائر، ولكنهم كانوا وحيدين هناك، ويفتقدون اصدقاءهم. فأبو نزار غالباً ما كان غائباً في مهمات في اماكن بعيدة. وناقشت العائلة اذا كانت ستنتقل الى قبرص، او حتى الى تشيكوسلوفاكيا. وببراءة متصنعة، اقترح ابو نضال على ابو نزار بهدوء ان عائلته ربما تكون افضل حالا لو انها رجعت الى دمشق، المدينة التي يحبونها والتي عاشوا فيها سنوات عديدة. فقبل ابو نزار الاقتراح بنية طيبة، واستطاع ان يحصل لعائلته على جوازات سفر ليبية، وفي نهاية آب اغسطس 1988 اعادهم الى سورية. وعندئذ اتهم ابو نضال ابو نزار بأنه عميل سوري، فعودة اسرته الى سورية بعد ان طردت منها المنظمة، تعني ان ابو نزار اتصل بالمخابرات السورية فوافقت على عودته.
وارتكب ابو نزار وعاطف ابو بكر غلطة تكتيكية اخرى، كانت قاتلة هذه المرة، فلم يكتفيا بعقد محادثات خاصة مغلقة بينهما - وهذا بحد ذاته خرق عصياني لقوانين وأنظمة المنظمة -، ولكن في خرق اخطر وأسوا للأمن، نظّم ابو بكر لقاء سرياً بين ابو نزار وأبو اياد في الجزائر في اوائل تشرين الاول اكتوبر 1988.
وفي تونس عام 1990 روى لي ابو اياد قصة هذا اللقاء مع ابو نزار. قال انه كان حديثاً طويلاً، عاصفا احيانا، شديد الصراحة بصورة خارقة احيانا اخرى، بدأ في التاسعة مساء ذات يوم، واستمر حتى الثالثة من فجر اليوم التالي. وفي الساعتين الاوليين، كانت لهجة ابو نزار تشير الى انه بوق رسمي لأبو نضال. وبينما كان ابو اياد يستمع اليه، كان يفكر في ان هذا الرجل ظل اقرب زملاء ابو نضال الى نفس ابو نضال وقد شاطره جريمته وارهابه خمسة عشر عاماً. "ثم فجأة - وكأن ضميره قد استيقظ، تغيّرت لهجته. فبدأ يخبرني بقصص لم اكد اصدقها. كيف كان ابو نضال يذلهم وكيف كان يتدخل في كل شيء. وقال ان الامر كان اسوأ من العيش في كومونة صينية". وسألني ماذا يفعل الآن؟ كيف يستطيع الهرب؟ هل اضمن سلامته؟ هل يهرب ويأخذ معه من الرجال اكبر عدد يستطيعه؟ فرددت عليه بأن هذا بالضبط هو ما يريده ابو نضال ان يفعله. ان كل ديكتاتور في التاريخ كان يحب ان يتخلص من الرجال الاقوياء الذين حوله، ثم يذرف عليهم دموع التماسيح! قلت له انه يجب عليه ان يبقى ويكافح، وعليه ان يفعل شيئاً عنيفاً لكسر قبضة ابو نضال، وربما اعتقاله وحجزه. ولم اشأ ان اقول بصراحة فظة فقط انه ينبغي عليهم ان يقتلوه، ولكننا نحن الاثنين معا كنا نعرف جيدا انه ما دام ابو نضال باقيا على قيد الحياة فسوف يظل خطراً".
وبطريقة او بأخرى، او عن طريق التنصت على المكالمات الهاتفية، علم ابو نضال باجتماع ابو نزار مع ابو اياد: فهذا اذن دليل مباشر على نوع المؤامرة التي كان يخشاها اكثر من اي شيء آخر، والتي لا يمكن ان تكون عقوبتها سوى الموت.
وبعد اسبوعين من الاجتماع، في صبيحة 18 تشرين الاول اكتوبر 1988، اغتال ابو نضال رفيقه القديم، ابو نزار. وقع الاغتيال في ضواحي طرابلس ليبيا في منزل واسع في حي سوق الجمعة، في احدى الدارات الثلاث في المجمّع الكبير الذي وضعه العقيد معمر القذافي تحت تصرف ابو نضال. كانت غرفة النوم الرئيسية في حجم شقة كاملة، ولها حمامها الخاص بها ومطبخها. وكانت تلك هي الغرفة التي ينام فيها ابو نضال احياناً وفيها تم قتل ابو نزار.
وكان عبدالرحمن عيسى في مهمة في السودان. وحسب افادته المسجلة على شريط، كان طار عائدا الى ليبيا مساء 17 تشرين الاول اكتوبر "كان من عادتي كلما رجعت من مهمة في الخارج ان اذهب رأساً الى مكتب ابو نضال لأقدم له تقريراً قبل ان اذهب الى منزلي، خصوصاً اذا كان لدي شيء حساس لايصاله اليه. ولكن شيئاً غريباً حدث هذه المرة. توجهت الى مكتبي ورفعت سماعة الهاتف قبل ان التقط انفاسي اللاهثة، لاتحدث مع ابو نضال. كان مكتبي على بعد بضع دقائق بالسيارة فقط عن مكتبه.
"صرخت: هاللو! لقد رجعنا!"
فأجابني بلهجة هادئة كالموت: "أهلاً وسهلاً! سوف نلتقي مساء غد!"
وهكذا توجه عيسى الى بيته، حيث اخبرته زوجته ان ابو نزار حاول العثور عليه مراراً عديدة، وقد كرر الاتصال بالهاتف. وفوجئ عيسى بذلك. اذ ان اعضاء المنظمة لم يكن مسموحاً لأحدهم ان يتصل بالآخر، وكانوا بالتأكيد ممنوعين من الاتصال به. فمنذ تخفيض رتبته ظل يعيش في عزلة تقريباً.
ولقد حاول عبدالرحمن عيسى وعاطف ابو بكر فيما بعد ان يعيدا بناء الاحداث كما وقعت ليلة 17 - 18 تشرين الاول اكتوبر 1988. ففي مساء 17 تشرين الاول اكتوبر اخذ ابو نضال ابو نزار وعاطف ابو بكر معه لزيارة القذافي في منزله. وبعد ذلك بقليل توجهوا بالسيارة الى منزل احمد جبريل، زعيم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، في قرية بالقرب من طرابلس.
وبعد هذه الزيارات الاجتماعية، اوصل ابو نضال ابو نزار الى فندقه - كان ينزل في فندق اثناء مجيئه من الجزائر لزيارة ليبيا، ثم اوصل عاطف الى منزله. وقد اتفقوا جميعاً على ان امجد عطا، رئيس امانة السر، سيذهب الى ابو نزار في الثامنة والنصف من صباح اليوم التالي، وأن عاطف ابو بكر سيؤتى به بعد ذلك بقليل، في حوالي العاشرة. ولكن، في صباح اليوم التالي، لم يأت احد لأخذ عاطف ابو بكر الى الاجتماع الذي دبر في الليلة السابقة. وعندما اتصل هاتفياً بأبو نضال، قال هذا الاخير بأنه مشغول، وطلب تأجيل الاجتماع الى اليوم التالي.
وطوال ذلك النهار 18 تشرين الاول/اكتوبر 1988 ظل عاطف يتوقع ان يكلمه ابو نزار بالهاتف او يأتي لزيارته، كما كان من عادته ان يفعل عند زيارته لليبيا. ولكن لم يظهر اي شيء من ابو نزار. وفي صباح اليوم التالي، عندما ذهب عاطف الى اجتماع مع ابو نضال، لم يكن ابو نزار حاضراً. وعندما سأل عنه عاطف، قال ابو نضال بأنه عاد الى الجزائر.
وعند الغداء في ذلك اليوم تحدث عاطف بالهاتف الى بيت ابو نزار في الجزائر فعلم انه لم يصل الى هناك. وطوال بعد الظهر الح على ابو نضال في السؤال، ولكن قيل له فقط بأن ابو نزار في طريقه الى لبنان.
وأخبرني عاطف خلال حديث طويل في تونس في عام 1990: "… وشعرت بأن في الامور شيئاً ما. وزاد قلقي اكثر عندما اكتشفت ان حاجات ابو نزار الشخصية لا تزال في غرفته بالفندق - كان يقيم في الطابق الثامن في فندق باب البحر. وقد بقيت تلك الاشياء هناك الى ان اخذها عاطف حمودة، الذي يعمل في المديرية المالية، يوم 25 تشرين الاول اكتوبر 1988 - بعد ثمانية ايام من اختفاء صاحبها. وبعد بضعة ايام، وصلت برقية من لبنان تقول بأن ابو نزار وصل الى هناك. فأرسل لي ابو نضال نسخة منها - وكان ذلك بحد ذاته شيئاً غير معتاد، اذ انه لم يكن من عادته ان يرسل الي نسخاً من البرقيات التي يتلقاها. فاقنعني ذلك بأن هناك خللاً ما".
وكان على عاطف ابو بكر ان يذهب الى عدن في ذلك الوقت، فلم يعد الى ليبيا الا بعد حوالي شهرين، في اوائل عام 1989. ولم يظهر اي اثر لأبو نزار. وكان ابو نضال يتهرب من الاسئلة عنه، ولكنه بدأ يوجه اتهامات كبرى وخطيرة ضد نائبه السابق، وراح يخبر الجميع بلا استثناء بأن ابو نزار اختلس اموال المنظمة ليشتري بها املاكاً له ولعائلته، وأن اربعين الف دولار كانت مفقودة وناقصة من حساباته.
وبما انه لم يكن هناك برهان على ان ابو نزار كان ميتاً، فقد راح اصدقاؤه يأملون ان يكون محتجزاً في احد سجون المنظمة. وفي نيسان ابريل 1989 صمم عاطف ابو بكر على مواجهة ابو نضال بالامر، وطلب عقد اجتماع. كان مضى على اختفاء ابو نزار ما يقرب من ستة اشهر. وكان هدفه هو استكشاف امكانية وجود طريقة لانقاذه.
وعقد الاجتماع ليلاً في حي الاندلس من مدينة طرابلس في ليبيا، في واحد من البيوت الآمنة التي كان ابو نضال يستخدمها احياناً. وفي مقابله عبر الطريق كانت هناك دارة تأوي الحراس. وبينما كانوا يتحدثون في غرفة الاستقبال الواسعة الجيدة التأثيث، كان اربعة من حراسه المسلحين يحومون بين المطبخ والقاعة، ويطلون برؤوسهم بين فينة واخرى من الباب ليروا ان كانت هناك حاجة اليهم.
وقال لي عاطف: "كنت وحدي، وشعرت بأنني قد مشيت برجليّ الى فخ. لم يكن هناك مخرج. وحتى لو وصلت الى الشارع حيا، فلن استطيع الذهاب بعيداً. وسألت ابو نضال كيف يبرر اعتقال، وربما حتى إعدام، واحد من كبار اعضاء المنظمة من دون علم القيادة او موافقتها. لقد فقد عضو من القيادة ولا يعرف احد من رفاقه ما اذا كان حياً ام ميتاً! وسألته: أتتهم نائبك نفسه بأنه عميل؟ كيف تفسر ذلك للمنظمة؟ اذا كان ابو نزار مذنباً بالخيانة، فابنتي التي في العاشرة من عمرها مذنبة كذلك".
وأخبرني عاطف انه بذل جهداً كي يتحدث بالطريقة الهادئة والتي هي مع ذلك صريحة ومباشرة، كما كان يتوقع منه ابو نضال. وبدا ان ابو نضال عصبي. فقد ظل ينهض واقفاً ثم يعود الى الجلوس، وكأنه يخطط لموت عاطف ثم يغير رأيه. وبدأ يجادل في ان ابو نزار عميل سوري. فصاح به عاطف: "ولكنه كان نائبك.. ومسؤولاً عن كل شيء في غيابك: الاسلحة، والمباني، والكوادر. فلماذا يخونك الآن؟ وكيف يمكن ان يصير عميلاً سورياً فجأة هكذا وهو في الجزائر؟ ليس هذا معقولاً أبداً!"
وأخيراً سأله ابو نضال سؤالاً صريحاً ومباشراً ومفاجئاً عما اذا كان يعتقد بأن ابو نزار وعبدالرحمن عيسى كانا يتآمران عليه. فأجاب عاطف بأنه يعتقد انهما بريئان براءة ابنته. فسدد اليه ابو نضال نظرة جعلته يشعر كأنه على وشك ان يأمر بقتله في التوّ واللحظة في مكانه. ولكنه لم يستطع ان يرغم نفسه بالضبط على ان يفعلها.
وقال لي عاطف: وأخيراً سمح لي بالذهاب عند منتصف الليل. ولكي اهدئه وأسترضيه، وافقت على ان اراه في اليوم التالي. ولكنني خرجت مقتنعاً بأنه اغتال ابو نزار هناك في ليبيا… تماماً".
وبعد وقت قصير، في أيار مايو 1989 علم عاطف ابو بكر بأن ام نزار كتبت رسالة طويلة الى المنظمة عن زوجها. فطلب عاطف ان يعرف محتوياتها. فجاء ابو نضال وأعضاء آخرون من اللجنة المركزية الى بيته، ووافق امجد عطا على قراءة الرسالة على المجتمعين بصوت عال. ووصف عاطف المشهد لي: "جلس ابو نضال على مقعد مقابل لي وراح يرقب وجهي طيلة القراءة، وقال: "سوف ترى ان هذه ليست لغة ام نزار. لا بد ان وكالة مخابرات كتبتها لها!". والواقع ان الرسالة كانت جريئة، وتطرق الموضوع بلا مداورة، وكانت بخط يد ام نزار. وفي احدى فقراتها تصف كيف ذهبت اثناء بحثها عن زوجها لمشاهدة الدكتور غسان وعصام مرقة في صيدا، وكيف لقيت منهما معاملة سيئة، ومدى الاذلال الذي شعرت به".
وتابع عاطف ابو بكر قصته: "واضطربت اضطراباً شديداً، وسالت الدموع على وجهي. فطلب ابو نضال من امجد عطا ان يوقف القراءة وسألني ما الأمر. فقلت انه لا شيء، وطلبت منه ان يتابع القراءة. غير انني لم اعد انصت اليه في الواقع، بل رحت افكر: اهذه هي اللحظة المناسبة، ام هل انتظر قليلاً؟ ثم قررت انها اما ان تكون الآن، او لا تكون الى الابد.
"وعندما انتهى عطا سألني ابو نضال عن رأيي. فتحدثت بوضوح وببساطة: ان مصير ام نزار هو المصير الذي ينتظر زوجاتنا جميعاً… واحدة واحدة. ههنا نفترق. انتم عصابة مجرمين!"
"وبعد ان قلت كلمتي، حاول ابو نضال ترقيع الامور. فقال انه سيتصل بي عندما اكون اقل جيشاناً وانفعالاً. غير ان نظراته كان ينضح منها الموت".
الاسبوع المقبل:
الحلقة العاشرة والاخيرة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.