وصول أبطال آيسف 2024 إلى جدة بعد تحقيق 27 جائزة للوطن    «التعليم» تحدد أنصبة التشكيلات المدرسية في مدارس التعليم العام    الأرصاد: استمرار التوقعات بهطول أمطار بعدد من المناطق ورياح نشطة في الشمال    حبس البول .. 5 آثار أبرزها تكوين حصى الكلى    رئيس وزراء اليونان يستقبل العيسى    أوتافيو يتجاوز الجمعان ويسجل الهدف الأسرع في «الديربي»    4 نصراويين مهددون بالغياب عن «الكلاسيكو»    أمير عسير يُعزّي أسرة «آل مصعفق»    الفضلي: «منظمة المياه» تعالج التحديات وتيسر تمويل المشاريع النوعية    خادم الحرمين يستكمل الفحوصات الطبية في العيادات الملكية    «عضو شوري» لمعهد التعليم المهني: بالبحوث والدراسات تتجاوزون التحديات    برعاية الملك.. انطلاق مؤتمر مستقبل الطيران في الرياض.. اليوم    البنيان: تفوق طلابنا يبرهن الدعم الذي يحظى به التعليم في المملكة    السعودية.. يدٌ واحدةٌ لخدمة ضيوف الرحمن    متحدث «الداخلية»: «مبادرة طريق مكة» توظف الذكاء الاصطناعي    1.8 % معدل انتشار الإعاقة من إجمالي السكان    جائزة الرعاية القائمة على القيمة ل«فيصل التخصصي»    السعودية من أبرز 10 دول في العالم في علم «الجينوم البشري»    5 بذور للتغلب على حرارة الطقس والسمنة    وزارة الحج والعمرة تنفذ برنامج ترحاب    نائب أمير منطقة مكة يُشرّف حفل تخريج الدفعة التاسعة من طلاب وطالبات جامعة جدة    ولي العهد يبحث مع سوليفان صيغة شبه نهائية لاتفاقيات استراتيجية    المملكة تؤكد استعدادها مساعدة الأجهزة الإيرانية    وزير الخارجية يبحث ترتيبات زيارة ولي العهد لباكستان    «أسمع صوت الإسعاف».. مسؤول إيراني يكشف اللحظات الأولى لحادثة «الهليكوبتر»!    جائزة الصالح نور على نور    مسابقة رمضان تقدم للفائزين هدايا قسائم شرائية    تأجيل تطبيق إصدار بطاقة السائق إلى يوليو المقبل    الشيخ محمد بن صالح بن سلطان «حياة مليئة بالوفاء والعطاء تدرس للأجيال»    تنظيم مزاولة مهن تقييم أضرار المركبات بمراكز نظامية    أمير تبوك يرأس اجتماع «خيرية الملك عبدالعزيز»    «الأحوال المدنية المتنقلة» تقدم خدماتها في 42 موقعاً حول المملكة    القادسية بطلاً لكأس الاتحاد السعودي للبلياردو والسنوكر    هاتف HUAWEI Pura 70 Ultra.. نقلة نوعية في التصوير الفوتوغرافي بالهواتف الذكية    تأملاّت سياسية في المسألة الفلسطينية    165 ألف زائر من بريطانيا للسعودية    "إنفاذ" يُشرف على 38 مزادًا لبيع 276 من العقارات والمركبات    الاشتراك بإصدار مايو لمنتج «صح»    5.9 % إسهام القطاع العقاري في الناتج المحلي    الخارجية: المملكة تتابع بقلق بالغ ما تداولته وسائل الإعلام بشأن طائرة الرئيس الإيراني    الملاكم الأوكراني أوسيك يتوج بطلاً للعالم للوزن الثقيل بلا منازع    ثقافة سعودية    كراسي تتناول القهوة    المتحف الوطني السعودي يحتفي باليوم العالمي    من يملك حقوق الملكية الفكرية ؟!    بختام الجولة ال 32 من دوري روشن.. الهلال يرفض الهزيمة.. والأهلي يضمن نخبة آسيا والسوبر    يوم حزين لهبوط شيخ أندية الأحساء    «الخواجة» نطق.. الموسم المقبل ضبابي    عبر كوادر سعودية مؤهلة من 8 جهات حكومية.. «طريق مكة».. خدمات بتقنيات حديثة    بكاء الأطلال على باب الأسرة    أمير القصيم يرعى حفل تكريم الفائزين بمسابقة براعم القرآن الكريم    الانتخابات بين النزاهة والفساد    تحقيقات مع فيسبوك وإنستغرام بشأن الأطفال    جهود لفك طلاسم لغة الفيلة    ارتباط بين مواقع التواصل و«السجائر الإلكترونية»    سقوط طائرة هليكوبتر تقل الرئيس الإيراني ووزير الخارجية    الديوان الملكي: خادم الحرمين يستكمل الفحوصات الطبية    انقسام قادة إسرائيل واحتدام الحرب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"الوسط" تنشر على حلقات كتاب باتريك سيل الجديد . أبو نضال : القصة السرية لأكبر الألغاز العربية
نشر في الحياة يوم 03 - 02 - 1992

هذه قصة "اكبر الالغاز العربية". قصة الرجل الذي تطارده، ومنذ سنوات، اجهزة المخابرات السرية في عدة دول كبرى، فلم تعثر عليه حتى الآن.
انها قصة ابو نضال صبري البنا الرجل الذي ارتبط اسمه خلال السنوات الماضية، ولا يزال، بعدد كبير من اعمال العنف المسلح وعمليات الاغتيال والهجمات على اهداف غربية واسرائيلية.
هذه القصة لم تكتب حتى الآن بشكل مفصل وكامل ودقيق: فلا احد يعرف تماماً من هو ابو نضال، وما هي نشأته، وما طبيعة علاقاته مع قادة منظمة التحرير الفلسطينية، ومع عدة دول وجهات دعمته وساندته في فترات مختلفة، ولماذا اتبع، فعلاً، المنهج الذي سار عليه واختار طريق العنف المسلح.
قصة ابو نضال، بكل تفاصيلها واسرارها وخلفياتها ومعلوماتها المذهلة، كتبها الآن بتريك سيل الصحافي والكاتب البريطاني الذي يعتبر احد ابرز الخبراء الاوروبيين في شؤون الشرق الاوسط، وهو مهتم بهذه المنطقة وشؤونها منذ اكثر من ثلاثين سنة، ويعرف عدداً كبيراً من قادتها وكبار المسؤولين فيها. قصة ابو نضال ستصدر اليوم 3 شباط فبراير 1992 في كتاب يحمل عنوان "ابو نضال: بندقية للايجار".
هذا الكتاب سيصدر، في وقت واحد اليوم 3 شباط فبراير، عن دور نشر كبرى في الولايات المتحدة وبريطانيا والمانيا الغربية وايطاليا واليابان وهولندا. وقد احيطت عملية صدوره بالتكتم حتى اللحظة الاخيرة. والكتاب يقع في اكثر من 300 صفحة، وهو يتضمن معلومات مثيرة واسراراً مهمة ليس فقط عن ابو نضال بل عن حقبة اساسية وحساسة جداً من تاريخ منطقة الشرق الاوسط: ويعتبر هذا الكتاب بمثابة تحقيق عربي - عالمي، الاول من نوعه، عن ابو نضال، اذ ان المؤلف استقى معلوماته من مصادر عربية واجنبية متعددة. من هنا اهتمام دور النشر العالمية بهذا الكتاب.
وقد الف باتريك سيل عدة كتب عن مواضيع تتعلق بالشرق الاوسط، كما كتب الآلاف من المقالات والتعليقات، في الصحف والمطبوعات الاوروبية والاميركية والعربية، عن العالم العربي. والكتاب الاخير الذي اصدره عن الرئيس حافظ الاسد عام 1988 يعتبر، في نظر الخبراء والمهتمين بشؤون الشرق الاوسط، "افضل وأهم ما كتب" عن الرئيس السوري وعن سورية في عهده.
مجلة "الوسط" حصلت على حقوق النشر المسلسل لكتاب باتريك سيل عن ابو نضال باللغة العربية وفي العالم اجمع، وتبدأ في هذا العدد، وبالاتفاق مع المؤلف، نشر ابرز ما في هذا الكتاب وعلى حلقات. اضافة الى ذلك نشير الى ان "الوسط" اتفقت مع باتريك سيل ليكتب لها، بصورة منتظمة مقالات ويقوم بمهمات صحافية للمجلة.
وفي ما يأتي الحلقة الاولى من كتاب ابو نضال:
كان إنذار الأمم المتحدة لصدّام حسين ينتهي في منتصف الليل يوم 15 كانون الثاني يناير 1991. وفي غضون ساعات من انتهائه كان من المخطّط لعاصفة الصحراء ان تدمّر العراق بعنفٍ وشراسةٍ. وفي الليلة التي سبقت الموعد النهائي، في السابعة مساء 14 كانون الثاني يناير طلب ابو إياد صلاح خلف رئيس مخابرات منظمة التحرير الفلسطينية سيارته المرسيدس المصفحة ضد الرصاص ليذهب به سائقها من مكتبه وسط تونس الى منزل المسؤول عن أمن فتح هايل عبدالحميد ابو الهول الذي كان عاد قبل ذلك بيوم من بغداد مع ياسر عرفات.
كانت منظمة التحرير الفلسطينية تحاول بشكل محموم ان تتجنب او تستبق حرباً في الخليج شعر ابو اياد انها وشيكة الوقوع. وكان ياسر عرفات عقد طيلة ذلك اليوم مشاورات مليئة بالقلق في تونس مع مبعوثين فرنسيين، وايطاليين وجزائريين. وكان عاد لتوّه الى بغداد حيث توسّل الى صدّام حسين أن يعلن استعداده للانسحاب من الكويت. كان قادة المنظمة اعتنقوا صدّاماً، لكنهم كانوا يعرفون ان حرباً إذا نشبت فسوف تدمّرهم جميعاً. ولشدة ذعر عرفات ظلّ صدّام متصلباً. فعلى الرغم من الجيوش الهائلة التي كانت محتشدة ضده، بدا على صدام انه يعتقد ان الحلفاء لن يجرؤوا على مهاجمته، وأنهم حتى اذا فعلوا فسوف تكون قواته قادرة على صدّهم. وكان أبو إياد مريضاً من شدة القلق، فأراد الحصول على معلومات مباشرة من ابو الهول عن مزاج صدّام غير الواقعي الى حد مفزع. وكان يريد ايضاً مراجعة خطط منظمة التحرير الفلسطينية في حالة وقوع حرب.
وكانت دارة ابو الهول في ضاحية قرطاجنة الوريفة الظلال على بعد نصف ساعة بالسيارة من مكتبه تقريباً. وقد فتح احمد سعيد الذي كان مسؤولاً عن امن ابو الهول الشخصي في تلك الليلة باب الدارة وأدخل ابو إياد، الذي كان يصحبه فخري العمري، أحد كبار مساعديه في المخابرات. وكان هناك عشرة حراس آخرين مناوبين: واحد امام البيت، وآخر عند المدخل الخلفي، بينما تكدّس الآخرون معاً في غرفة صغيرة بالقرب من باب الحديقة متحلقين حول جهاز تلفزيون صغير جلبه محمود مرعي، سائق ابو إياد، من المرسيدس التي جاء بها. وكانت الليلة باردة ماطرة. وفي داخل الدارة وفي غرفة الحرس على حد سواء، كانت ازمة الخليج حديث الجميع. وكان أبو إياد وأبو الهول يعلمان أن صدّاماً يقامر بمصيرهم بشكل خطير ….
وكان الأمن حول البيت متراخياً، كما هو المعتاد في الترتيبات المحلية لمنظمة التحرير. فقد تُركت رشاشات الكلاشينكوف في السيارات الواقفة خارجاً، أو كُدست في خزانة في الزاوية. ولم يكن مدير أمن أبو إياد الشخصي فؤاد النجار، قد وصل مع "معلّمه"، بل جاء بعده بساعة أو نحوها.
ونهض احد هؤلاء الحراس، وهو شاب مهتاج يدعى حمزة ابو زيد، يتمشى خارج غرفة الحرس، وبدأ يفتعل شجاراً مع علي قاسم، الرجل المرابط على الباب الأمامي للدارة. وصدرت عن الاثنين ضوضاء بلغ من شدّتها ان جعلت احمد سعيد يصيح بهما طالباً منهما السكوت. ثم بحجة تناول منديل كلينكس من علبة داخل السيارة، فتح حمزة باب مرسيدس أبو إياد. وحاول علي قاسم أن يوقفه، فراهنه حمزة على ان رصاص رشاشه الكلاشينكوف يستطيع ان يخترق الدرع الذي يصفّح السيارة، فتحداه علي قاسم ان يجرؤ على المحاولة. وسرعان ما كانا يصطرعان ويتناطحان بحيث اضطر الآخرون الى فصلهما. ثم قال حمزة ان مصباح الضوء الذي فوق الباب الأمامي بدأ في الخفقان، وطلب من علي قاسم ان يقرع الجرس ليطلب من احدهم تبديله. لكن علي قاسم دفعه بعيداً.
وبعد لحظة، وعندما ابتعد علي قاسم قليلاً، هرع حمزة الى الباب وقرع الجرس بنفسه. ففتحت خادمة الباب ودخل. كانت الساعة الحادية عشرة الا ربعاً وقد توقّع علي قاسم ان يخرج ابو الهول ليوبخ حمزة على إقلاق راحته. ولكنه بدلاً من ذلك سمع اطلاق رصاص من داخل المبنى. فصرخ طالباً النجدة. فخرج الحرّاس مسرعين يبحثون عن اسلحتهم وتفرقوا لاحتلال مراكزهم وهم يظنون ان الهجوم قد جاء من الخارج. واستغرق الأمر بضع لحظات قبل ان يدركوا ان اطلاق النار كان يأتي من داخل البيت.
"الاسرائيليون هنا"
وكانت زوجة أبو الهول نائمة في غرفتها، فأيقظها فجأة انفجار مصمّ الدويّ من الرصاص في غرفة الجلوس بالطابق الأرضي. كان حمزة أطلق النار على ابو إياد في رأسه وأصاب فخري العمري الذي حاول ان يتوارى خلف أريكة. وسمعت حمزة يصرخ مرات متتالية: "فليساعدك عاطف أبو بكر الآن". ثم سمعت زوجها يصرخ بدوره: "ماذا فعلت يا حمزة؟ ماذا فعلت؟". ثم سمعت رشقة من الرصاص، فرشقة أخرى. كان ابو الهول حاول ان يصل الى الباب، فأطلق حمزة عليه النار وأصابه في ساقيه. فتصارع مع حمزة، الذي أطلق عليه النار في معدته من مسافة قريبة.
وهرعت زوجة ابو الهول الى الغرفة المجاورة، حيث كانت ابنتها التي هي في السابعة عشرة من عمرها تجثم منكمشة في فراشها وهي ترتجف. فأخذتها بين ذراعيها بينما كانت تسمع صوت رجل يركض صاعداً الى الطابق العلوي. وسرعان ما اقتحم حمزة الغرفة وأغلق الباب وأقفله وهو يصرخ: "الاسرائيليون هنا! لقد اطلقوا النار على أبو الهول". وصرخت زوجة أبو الهول: "هل هو حيّ؟ دعني أذهب إليه".
- "إنه جريح. لا تسأليني أكثر من ذلك".
فجلست المرأتان في زاوية على الأرض. كانت البنت تبكي وامها تحاول أن تواسيها، بينما راح حمزة يذرع الغرفة، ويلتقط بعض الأشياء الصغيرة من على طاولة الفتاة، ويتفحصها ثم يعيدها الى مكانها وهو ينظر من النافذة. ولمعت ومضات مفاجئة من البرق وسمع صوت هطول المطر وانهماره من حافة السطوح. كان الظلام حالكاً دامساً في الخارج. اما الطابق السفلي فقد ران عليه الصمت.
وفجأة سأل حمزة الفتاة: "أهذا فراشك؟" وعندما لم تُجب الفتاة جأر فيها بصوتٍ عال: "أهذا فراشك؟" فلكزتها امها متوسلة بها ان تقول نعم.
وصرخ حمزة بغضب: "لِمَ لا يكون لي سرير كهذا؟ أو مقعد؟ أو غرفة؟ هل السبب أنني لست ابن أحد الأثرياء الفلسطينيين؟" ثم راح يصبّ جام غضبه وحقده على منظمة التحرير وقادتها الذين سمّاهم "عملاء، خونة، مأجورين، وحمأة متعفنة من الفساد". وسمعته زوجة ابو الهول يلعن عاطف ابو بكر، المنشق البارز عن منظمة ابو نضال، ويقسم على قتله. ثم اخرج من جيبه مظروفاً ومد يده الى داخله فتناول حبة وابتلعها. ثم ابتلع اخرى، وثالثة في غضون الساعات الخمس التي احتجزهما خلالها كرهينتين.
وسمعوا سيارات تصل الى البيت وأصوات اقدام تتراكض جيئةً وذهاباً. فقد وصل رجال الشرطة التونسية. فنزعوا اسلحة السائقين والحراس الفلسطينيين، ونقلوا القتلى والجرحى. كان ابو اياد والعمري ماتا. اما أبو الهول، الذي نزف كثيراً من دمه، فقد توفي على طاولة العمليات في المستشفى بعد ذلك بفترة وجيزة.
ورن جرس الهاتف في الطابق العلوي تكراراً. واخيراً اجاب حمزة. واستذكرت زوجة ابو الهول في ما بعد انه بدا هادئاً جداً ومقتنعاً تماماً بأنه فعل الشيء الصحيح. وسمعته يقول: "لقد قتلتُ ابو اياد. وانني احتجز عائلة ابو الهول رهينة، ولن أطلق سراحها حتى تأتوني بعاطف ابو بكر"، ثم اضاف: "لدي رسالة اليه".
وسلط رجال الشرطة التونسية طوفاناً من الضوء على المبنى، ثم صاحوا ينادونه بمكبر الصوت بعد ان غمروا النوافذ بالنور: "حمزة! يا حمزة! اطلق سراح المرأتين. لا نريد منك اي شيء آخر" وكرروا هذه الرسالة كلّ نصف ساعة ليعقبها صمت كصمت القبور. وتناول حمزة مزيداً من الحبوب من مظروفه.
وفي ساعات الصباح الاولى ناداه رجال الشرطة مرة اخرى قائلين انهم يريدون التفاوض معه، وسألوه عما يريد؟ فأجابهم انه يريد طائرة تقلع به الى خارج البلاد. فقالوا له ان عليهم ان يحصلوا على اذن بذلك من سلطات اعلى. وعندما عادوا قالوا له انهم يريدون منه شيئاً يحدد هويته. وعندما اقترح عليهم ان يرمي لهم بطاقة هويته من النافذة اجابوه ان المطر قد يتلفها، غير ان حواراً بدأ معه، وسرعان ما اقنعوه بالنزول الى الطابق السفلي وتسليم البطاقة اليهم من خلال الباب الامامي، الذي فتحه جزئياً. ثم سمعته زوجة ابو الهول يغلق الباب ويعود صاعداً الدرج يجر قدميه. ثم سمعت صوت رشاشه يطقطق ساقطاً على الارض. وعندها اسرعت الى ارضية الدرج، فرأته وقد تهاوى فاقد الوعي على الدرج. واكتشفت في ما بعد انه قد أُغمي عليه بفعل الغاز الذي رشّه رجال الشرطة في القاعة من الخارج، فركضت نازلة وتجاوزته وهو منطرح، وفتحت الباب ومكّنت الشرطة من الدخول.
سيرة حياة قاتل
كان حمزة ابو زيد مجرد شاب فلسطيني آخر له ماض مضطرب. "عنوانه الدائم" كما هو مسجل في ملفّه لدى منظمة التحرير الفلسطينية هو: دكان مصطفى سليم، خلف مدرسة البنات، مخيّم الوحدات للاجئين، الاردن.
وقد ولد في المخيم عام 1963، وقضى التسعة عشر عاماً الاولى من حياته هناك. كانت عائلته هربت من فلسطين عام 1948، تاركة منزلها في قرية السفيرية، بالقرب من يافا، امام زحف الجيوش الاسرائيلية الغازية. ومن مذكرتين داخليتين لمنظمة التحرير استطعت ان أتتبع حياة حمزة العقيمة الجوّالة في السنوات العشر التي سبقت قتله ابو اياد وزميليه في تونس. وهي تكشف الكثير عن اساليب عمل المنظمة، كما تكشف الكثير عن حمزة نفسه. ويبدو من معلومات هاتين المذكرتين ان حمزة عمل مع حركة فتح بين 1982 و1986 وتولى مسؤوليات امنية صغيرة، لحساب منظمة التحرير، في باكستان وتونس وبلغاريا وقبرص والعراق، كما عمل عام 1986 حارساً شخصياً لأبو الهول. لكن حمزة كان مشاكساً سيء السلوك ففصلته منظمة التحرير الى ان ظهر على السطح في ليبيا ربيع عام 1990 عندما زار مكتب منظمة التحرير عدة مرات في طرابلس، طالباً ان يأخذه ابو الهول في خدمته ثانية. وفي ايار مايو 1990 جاء ابو الهول الى ليبيا ليحضر حفل تأبين لتكريم ذكرى ابو جهاد، القائد العسكري في منظمة التحرير الذي اغتاله الاسرائيليون في تونس في نيسان ابريل 1988. واستطاع حمزة ان يرى ابو الهول، فألقى بنفسه تحت قدميه باكياً، متحسراً على حالته التي يرثى لها، ومتوسلاً ان يعود الى الخدمة. فرقّ له ابو الهول وأعاده الى تونس حيث عينه مرة اخرى حارساً شخصياً له في منزله. ولم يتم استجواب حمزة في اي وقت عن نشاطاته اثناء السنوات التي غاب فيها عن الانظار. وفي تشرين الاول اكتوبر 1990، وبحجة الرغبة في رؤية اخت له مفقودة منذ زمن طويل أخذ حمزة اجازة من ابو الهول كي يذهب الى ليبيا لمدة اسبوعين. وفي ذلك الوقت - كما اخبر مستجوبيه فيما بعد - كلفه شخص من منظمة ابو نضال يدعى باسم "غالب" بمهة قتل ابو اياد. وقال حمزة انه لم يرد ان يفعل ذلك بادئ الامر، لكن قيل له ان ابو اياد هو "مصدر الفساد" كله في الحركة الفلسطينية، وأنه هو الخائن "الذي استخدم عاطف أبو بكر لشق منظمة ابو نضال وأنه يجب ان يموت "لكي تعيش الثورة الفلسطينية".
وبعد الاغتيالات التي تمت في دارة ابو الهول ليلة 14 كانون الثاني يناير 1991 ألقت الشرطة التونسية القبض على حمزة واقتادته بعيداً لاستجوابه. ولم يُسمح لضباط منظمة التحرير بالاشتراك في الاستجواب، ولم يُعطَ لهم نص مكتوب لما قاله حمزة. كانت السلطات التونسية تخشى ان تكون الاغتيالات مقدمة لغارة اسرائيلية، او انها قد تُشعل اضطرابات وقلاقل شعبية. وكان التونسيون ذاقوا طعم العدوان الاسرائيلي في تشرين الاول اكتوبر 1985، عندما اقتحمت الطائرات الاسرائيلية مجالهم الجوي وقصفت مقر عرفات في تونس. تم تكرّر العدوان في نيسان ابريل 1988 عندما قام فريق اسرائيلي محمول بحراً باغتيال ابو جهاد في بيته. فكانوا حريصين عند ذاك على التقليل من شأن القضية بأقصى قدر مستطاع.
غير ان ياسر عرفات لم يقبل ذلك على الاطلاق، فأثار القضية مع الرئيس التونسي زين العابدين بن علي الذي قام، في شباط فبراير 1991 بتسليم حمزة الى منظمة التحرير لمحاكمته. وكان الاتفاق يقضي بابعاده من البلاد كي توفر منظمة التحرير على تونس الجدل والخلاف اللذين قد ينجمان عن محاكمته في محكمة تونسية. وأعلن طبيب تابع لمنظمة التحرير بعد فحص حمزة انه مدمن على المخدرات، فأعطاه خمسة اضعاف الجرعة الطبيعية المعتادة من المسكنات قبل ان تطير به طائرة خاصة الى صنعاء، عاصمة اليمن، حيث استجوبته منظمة التحرير وحاكمته واصدرت عليه حكماً بالاعدام. وكانت الفكرة هي ان تحضر زوجتا ابو اياد وابو الهول عملية الإعدام عند تنفيذها. لكن عملية الاعدام لم تنفذ علناً.
وفي حزيران يونيو 1991 عُثر على حمزة ميتاً في زنزانته. واعلن بعد ذلك ان حمزة اعدم.
ابو اياد يعترف
في اوائل صيف 1990، قبل تسعة اشهر من اغتياله، بعث الي ابو اياد برسالة الى لندن يقول فيها انه يريد ان يراني اذا تصادف ان جئت الى تونس. فأثار ذلك فضولي. ما الذي يمكن ان يريده؟ ولم اكن رسمت خطط اجازتي، وهكذا اتخذت - باندفاع لا شعوري - قراراً بأخذ زوجتي واطفالي الى فندق اعرفه خارج مدينة تونس. انا اعرف الشرق الاوسط جيداً. فقد ترعرعت فيه، وتنقلت في المنطقة، وكتبت عنها على مدى ثلاثين عاماً، كمؤلف ومراسل اجنبي لصحيفة "الأُبزرفر" اللندنية بشكل رئيسي. وكان اسهامي الاساسي في الموضوع كتابين عن سورية هما: "الصراع على سورية" الذي طبع لاول مرة عام 1965، وكتاب أحدث عن سيرة حياة الرئيس حافظ الاسد، أثار كثيراً من الجدل والخلاف. فقد منعه السوريون. والواقع برغم انني احب ان اعتقد أنه قد قُرئ بنهم شديد انه لم يسمح ببيعه علناً في اي بلد عربي، وقد عبّر الاسرائيليون ايضاً عن اعتقادهم انني كنت قاسياً عليهم. واعترض الاميركيون على انتقادي لسياستهم في الشرق الاوسط، وظن اللبنانيون المسيحيون انني بعتهم للسوريين، بينما شعر عرفات وغيره من الفلسطينيين انني لم أنصف قضيتهم عندما وصفت صراعهم مع الاسد. وقد خطر في بالي ان ذلك ربما كان ما يريد ابو اياد ان يفاتحني به بصراحة. وعندما كنت اقوم بابحاثي عن الاسد في دمشق التقيت وتزوجت ابنة ديبلوماسي عربي متقاعد. وبرغم هذا الارتباط بالعرب، فانني واثق من ان معظم قرائي يعتبرونني مراقباً مستقلاً، ليس له مصلحة ذاتية، ولا ولاء لجانب ضد آخر، ولا هدف خفيّ سوى ملاحقة تلك الطريدة المراوغة والمتقلبة المتهربة باستمرار دائم في الشرق الاوسط، وهي: الحقيقة التاريخية. كنت التقيت بأبو اياد عدة مرات من دون ان اعرفه جيداً ….
وقد ترك لديّ انطباعاً ايجابياً اكثر من مسؤولين فلسطينيين آخرين. فهو هادئ، يتكلم بلطف، ومتزن رصين، نوع من الرجال تأتيه السلطة وتناسبه بشكل طبيعي، وهو صاحب دماغ سياسي حاد الذكاء، واسلوب شديد الطلاقة آسر، وكان مدبّر الامور، ورجل المهمات السرية، وكاتم اسرار منظمة التحرير. وكان مثيراً للاهتمام في عدة جوانب. فهو معروف بأنه وطني ملتزم يقف على يسار فتح. وكان كذلك واحداً من اول الذين اوصوا، في مقابلة مع صحيفة "الموند" الفرنسية عام 1972 بتسوية بالمفاوضات مع اسرائيل ترتكز على حل بدولتين، حيث تعيش دويلة فلسطينية الى جانب اسرائيل، وتنسجم معها، وهي تسوية لم يكن معظم الفلسطينيين في ذلك الوقت مستعدين لقبولها بعد.
وكانت أم ابو اياد يهودية وقد ترعرع وهو يتكلم العبرية مع الاولاد اليهود الذين كانوا في مثل سنّه، ويلعب معهم على الساحل في تل ابيب.
هكذا كان الرجل الذي جئت لمقابلته في تونس في اوائل صيف عام 1990 … تناقشنا قليلاً حول كتابي عن سيرة حياة الاسد. وكما توقعت فقد كانت فيه اشياء لم تعجبه. كان يعتقد انني نظرت الى الاحداث من وجهة النظر السورية اكثر من اللازم. فان قُدّر لي ان اطبع نسخة جديدة، فان هناك بعض التصحيحات للوقائع كان يرغب مني ان اقوم بها. ولكن سرعان ما اتضح ان في ذهنه موضوعاً آخر. كان يريد ان يتحدث عن الارهاب، وبصورة خاصة عن ابو نضال.
قال وقد علت وجهه تكشيرة عابسة: "ان الغرب لم يقتنع بعد بأن منظمة التحرير الفلسطينية شريك لا غنى عنه لسلام الشرق الاوسط. وقد قلل من شأن القرارات التاريخية التي تبناها المجلس الوطني الفلسطيني في تشرين الثاني نوفمبر 1988 التي تذكر "الكفاح المسلح" مجرد ذكر، وذلك لأول مرة، كما فصّلت بوضوح مطلق استعداد منظمة التحرير للتفاوض على تسوية سلمية مع اسرائيل".
"ولكن كيف نجعل الغرب يرى ذلك"؟ في اعتقاد ابو اياد ان العقبة الكبرى هي الارهاب، وهو امر واجه الاسرائيليون به كل ذكر للتسوية السلمية. وان كان هناك رجل واحد مسؤول عن "تسويد سمعة" الفصائل الفلسطينية جميعاً فان هذا الرجل، في اعتقاد ابو اياد، هو ابو نضال.
وتحدث ابو اياد مطولاً عن ابو نضال ثم اعترف لي، بصورة غير عادية، "انني اشعر بالذنب لانني كنت مسؤولاً عن عدم التصدي للتهديد الذي يمثله ابو نضال في وقت مبكر اكثر. كان يجب ان اقتله قبل خمسة عشر عاماً. وانني اعترف بذلك الآن. لقد اردت ان اعتقد انه وطني انحرف عن الجادة، وانني استطيع ان اكسبه واعيده اليها. لقد ترددت زمناً طويلاً جداً اكثر من اللازم في الاقتناع بأنه خائن" ….
"الاختراق" الاسرائيلي
وحاولت ان استجوب ابو اياد أين أدلّته؟ فقال بطريقة تلطّف من حدة الموضوع انها "ليست مضمونة بشكل كامل. فعندما لا يكون لديك بلدك الخاص بك، ولا تستطيع السيطرة على المطارات، والموانئ، والحدود، والفنادق، وسائقي التكسيات، فان تجميع الادلة يكون صعباً. فمكافحة التجسس بشكل فعال تعتمد على السيطرة على البيئة بنسبة مئة في المئة وهذا ما لم تستطع منظمة التحرير ان تحققه أبداً". وقال ان منظمة التحرير لم تكن قادرة على مراقبة تحركات ابو نضال بدقة واحكام في العراق وسورية. اما في ليبيا فالامر اشد صعوبة. وحتى في لبنان وتونس. فرغم ان هذين البلدين يعجان بالعملاء الاسرائيليين، على حد قوله، لم يُسمح لمنظمة التحرير بالحصول على التسهيلات والمرافق التي تحتاج اليها. واضاف: "اننا نعلم علم اليقين بأن الموساد جاء الى هنا في تونس عندما وصلنا نحن في عام 1982 وأن للموساد بيوته الآمنة الخاصة به، واسلحته، واتصالاته".
ولم يكن ابو اياد مراهقاً فلسطينياً نصف ناضج وهو يتحدث اليّ، بل كان الرئيس القديم العتيق لمخابرات منظمة التحرير الفلسطينية. وبما انني كنت متشكّكاً، فقد رحت ادوّن ملاحظاتي بعناية. فقال: "لِمَ لا تكتب شيئاً عن هذا كله؟" فسألته هل يخبرني بما يعلم؟ هل يفتح لي سجل محفوظاته وملفات ارشيفه؟ وهل يساعدني في العثور على الهاربين من منظمة ابو نضال الذين يقال انهم مختبئون في تونس وغيرها تحت حماية منظمة التحرير؟ كنت حريصاً بصفة خاصة على مقابلة رجلين انشقّا عن ابو نضال وسط حملات علنية ملتهبة في تشرين الثاني نوفمبر 1989 ثم تواريا تحت الارض، احدهما هو عاطف أبو بكر، الرئيس السابق للمديرية السياسية في منظمة ابو نضال، والمعروف في الدوائر الفلسطينية كمفكر وديبلوماسي وشاعر، اما الثاني فكان شخصية مختلفة تماماً، وهو عبدالرحمن عيسى ورئيس مخابرات منظمته ابو نضال طيلة عشرين عاماً. فان كان هناك من يعرف اسرار ابو نضال، فهما هذان الرجلان. وسألت ابو اياد ان كان يستطيع ان يدبر لي امر الالتقاء بهما، فأجاب انه يستطيع ذلك في اي وقت أشاء.
وعدت الى لندن لأفكر جيداً في ما كنت أورط نفسي فيه. لم اكن صدّقت قصة ابو اياد، بل كنت اعتقد انها منافية للعقل وللطبيعة. غير انني خضعت لاغراء محاولة معرفته اكثر، والاطلاع على الكيفية التي يعمل بها عقله، والقاء نظرة على العالم الفلسطيني من الداخل. لقد كان واضحاً انه يريد ان يستعملني لفضح ابو نضال، الرجل الذي يكرهه الآن. والامر صحيح كذلك بالنسبة الى الهاربين المنشقين. فمن الواضح ان المعلومات التي سيقدمونها لي ستكون موجهة بانحياز الى جانب معين وليست موضوعية. فبعد النزاعات والانشقاقات، يرمي الثوريون بعضهم بعضاً بأشنع الاتهامات البغيضة ويخترعون القصص. ولكنني شعرت بأن لديّ من الخبرة القديمة في السياسة العربية ما يكفي لتمكيني من معرفة طريقي وَسَطَ المتاهة الملتوية. ترى هل استطيع ان ارى عدداً من الناس كافياً لتمكيني من تدقيق مادتي وفحصها واعادة تمحيصها؟ وهل استطيع ان اختبر مدى صحة ما اعلمه وأطلع عليه مع مختصين في شؤون المخابرات خارج الحركة الفلسطينية؟ وفي اي حال، فقد كان الموضوع مهماً الى درجة كافية جعلتني اشعر بأن عليّ، مهما حدث، ان اتوصل الى حقيقة الامر في ادعاءات ابو اياد ان استطعت. ومن المؤكد انني لم اكن اعرف ماذا اتوقع. ولم تكن لدي فكرة عن المكان الذي سيقودني اليه طريق البحث، غير انني شعرت بأنه حتى ولو لم اخرج منه بشيء، فانني سأملك فرصة تعلّم شيء ما عن واحد من اكبر الالغاز الغامضة في السياسة العربية: من هو ابو نضال وما هي حقيقته بالكامل؟ واخبرت ابو اياد انني سأعود الى تونس في وقت لاحق من ذلك الصيف.
وقبل ان اغادر لندن، بدأت اجراء بعض البحوث التمهيدية، فتحريت عن مراجع عن ابو نضال في اثنين من بنوك المعلومات فعثرت على روايات عن هجمات رجاله على عدة اهداف اسرائيلية فلا يمكن ان يكون ذلك من عمل "عميل اسرائيلي". غير انني تذكرت ان ابو اياد شدد كثيراً على اهمية اغتيال ابو نضال لعدد من الفلسطينيين البارزين. فقد استعمل عبارة رسخت في ذهني: "اننا في الغالب لا نكون متأكدين مما اذا كان القاتل هو الموساد ام ابو نضال. واعترف بأن ذلك يحيرنا". …
في مقابل تفسير ابو اياد لتصرفات ابو نضال كان هناك بالطبع تفسير بديل ومفهوم بشكل كامل. فلعل ابو نضال هو ببساطة ما قال عن نفسه: "رافض رفضاً كاملاً يرى ان عرفات خائن لمجرد تفكيره بتسوية مع اسرائيل"، ومستعد لاغتيال "الحمائم" الذين يؤيدون التفاوض مع اسرائيل.
وفي تلك الفترة اجتمعت في لندن بجنرال سابق في جهاز المخابرات العسكرية الاسرائيلية، وكان هو نفسه يقوم باجراء بحث حول موضوع آخر مختلف تماماً. وبعد حديثنا فاجأته بسؤال مباشر عما اذا كانت اسرائيل تخترق تنظيمات فلسطينية وتتلاعب بها، فنظر اليّ ملياً ثم قال: "اختراق نعم، اما تلاعب فلا". ثم توقف وأضاف بابتسامة صغيرة: "لا احد يعترف بذلك".
اللغز المحير
وعدت الى تونس مرات عدة في ذلك الصيف والخريف الذي تلاه عام 1990. وكان ابو اياد عند كلمته فوفى بوعده. وفي سريّة عظيمة، دبّر لي لقاء مع عاطف ابو بكر، وكان عندئذ مختفياً خوفاً من انتقام ابو نضال. وعاطف أبو بكر هو ابرز الهاربين من منظمة ابو نضال، وقد اثبت لي انه مصدر ومرجع لا يقدّر بثمن …
وحاولت اقناع شخص آخر من الهاربين البارزين، هو عبدالرحمن عيسى، الرئيس السابق لمخابرات ابو نضال، بالتعاون معي، وتحدثت معه هاتفياً في الجزائر، آملاً في زيارته هناك. ولكنه قال انه لن يتكلم الا في مقابل مبلغ كبير جداً من المال. وعندما ابلغت ابو اياد بذلك، ضحك وقدم لي اشرطة كاملة غير محررة لحديث طويل كان اجراه مع عيسى على مدى ساعات بعد ان انشق عيسى عن ابو نضال عام 1989. ولم يكن عيسى مدركاً لوجود ميكروفونات خفية، فلم يعلم بأن عملية استخلاص المعلومات منه كان يجري تسجيلها. وهكذا فعلى الرغم من انني لم اقابل عيسى بنفسي ابداً، فقد حصلت على روايته لقصة حياته كما حكاها هو لأبو اياد.
كما اوصلني ابو اياد الى الكثيرين من ضباط مخابراته، والى مدير محفوظاته في الارشيف، وهو رجل ممتلئ، ذو ذاكرة موسوعية. وخارج فلك مخابرات ابو اياد، تمكنت طبعاً من التحدث مطولاً مع كثير من الفلسطينيين الاخرين الذين سبق لهم التعامل مع ابو نضال او الذين كانت لهم به معرفة غير مباشرة. وكان اهم هؤلاء واكبرهم قيمة هو القائد الفدائي ابو داوود، الذي تشابكت خطوط حياته العملية مع حياة ابو نضال على مدى سنوات طويلة ….
كان معظم الهاربين الذين التقيت بهم يعيشون في خوف. وقد رُتبت لقاءاتنا خلال الاشهر في "بيوت آمنة" تابعة لمنظمة التحرير في تونس وضواحيها، يتم الوصول اليها بعد رحلات طويلة بالسيارات، وليلاً في العادة. وعلى الدوام، كان لدى الذين قابلتهم بنادق موضوعة في متناول ايديهم بسهولة على الطاولة بجوار مسجلتي، او مخبأة بشكل عفوي في فرش المقاعد والكراسي كان برفقتهم حراس شخصيون من الشباب مسلحون بالرشاشات. وعندما لم يكن هؤلاء الحراس في المطبخ يعدّون القهوة، كانوا يجلسون بتكاسل في الممر، او على الشرفات، حيث يستطيعون ان يراقبوا الطرق والمشارف المؤدية الى المكان.
وخلال عامي 1990 و1991 قادتني ابحاثي الى فنادق صغيرة في قبرص ومالطة، والى باريس ومرسيليا، والى ايطاليا والنمسا واليونان، والى مكاتب وشقق عدد من الرجال في العواصم الغربية المهتمة بمكافحة الارهاب. ولهؤلاء جميعاً شكري وعرفاني، وان كنت لا استطيع ان أسميهم.
ان هدفي من هذا الكتاب ان ارسم أدق صورة ممكنة لأبو نضال وللمنظمة التي ظل على رأسها طوال الاعوام السبعة عشر الماضية … ومن بين جميع رجال العنف في الشرق الاوسط المعاصر، يقف ابو نضال واحداً من اعتى الالغاز المحيّرة واكثرها اثارة للفضول. لماذا يَقْتُل؟ وبأمر من؟ وما التأثير الذي يُحدثه؟ وكيف استطاع ان يبقى وينجو طيلة هذه المدة ونصف مخابرات العالم السرية في أعقابه؟ ليس هناك تاريخ حياة في السنوات الاخيرة يلقي ضوءاً اكثر من حياته على حروب الشرق الاوسط السرية التي تكثر فيها الاحابيل القذرة والتي نادراً ما تكون الاشياء فيها على حقيقتها كما تبدو في ظاهرها.
هذه ليست قصة جميلة. انها رحلة الى عالم العنف الكالح البغيض تحت الارض، حيث المبادئ والقيم والرحمة العادية غير معروفة، وحيث الموت يترصد عند كل منعطف، ويتربص في كل زاوية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.