الجهود الحثيثة التي تبذل حالياً لاقرار السلام في الشرق الاوسط يقابلها "سباق رهيب" بين عدد من دول هذه المنطقة من اجل امتلاك تكنولوجيا التسلح النووي أو - بالنسبة الى بعض هذه الدول - تطوير ما لديها بالفعل من اسلحة الدمار الشامل، وهذه مفارقة جديرة بالتأمل، وجديرة أيضاً بالدراسة، خصوصاً عندما نلاحظ ان الولاياتالمتحدة، الدولة الاقوى في عالم اليوم، هي الداعية الرئيسية الى عملية السلام وفي الوقت ذاته هي المسؤولة عن تنظيم تسليح دول المنطقة. وليس بعيداً عن الأذهان تعهد الادارة الاميركية غير مرة ضمان استمرار تفوق اسرائيل العسكري على الدول العربية. ونعرف جميعاً ان في حوزة اسرائيل اليوم من اسلحة الدمار الشامل ما ليس له وجود لدى أي دولة عربية، خصوصاً القنبلة النيتروجينية التي تتميز بقدرتها على قتل البشر والكائنات الاخرى من دون ان تدمر البنايات والاجهزة والمعدات. إن الأبعاد التقليدية الخطيرة لسباق التسلح لا تخفى على احد، الا ان بعداً جديداً اشد خطورة أضيف اليها في الفترة الاخيرة ونقصد به البعد النووي، فتكنولوجيا التسلح النووي، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، لم تعد بعيدة المنال بالنسبة الى مناطق في العالم الثالث يسودها التوتر ومنها منطقة الشرق الاوسط بالطبع، وهذا من شأنه "خلخلة" موازين القوة بين القوى الاقليمية وإحياء الصراعات المؤجلة. فالعلماء النوويون الذين ينتمون الى الاتحاد السوفياتي السابق منحهم انهيار هذا الكيان فرصة تحقيق "حلم" طالما راودهم، وهم عاكفون على اجراء ابحاثهم داخل مراكزهم المحصنة في غرب سيبيريا وشمال كازاخستان: انه حلم الهجرة الى الولاياتالمتحدة والغرب عموماً حيث الرفاهية وبحبوحة العيش، وفئة كبيرة من هؤلاء العلماء لن تتردد في الانتقال الى بلدان في الشرق الاوسط اذا تعذر عليها السفر الى الغرب، فالاغراء المادي اقوى من ان يقاوم اذا علمنا ان راتب الواحد منهم لا يتجاوز في بلاده خمسين دولاراً. ورغبة الكثيرين من العلماء النوويين السوفيات سابقاً في الخروج من بلادهم قديمة وهي ليست وليدة انهيار الكيان الذي كانوا ينتمون اليه بل انها كانت موجودة وقوية حتى خلال اقوى فترات الحكم الشيوعي، فالزعماء السوفيات كانوا يذكرونهم دائماً بأهمية التفوق على الولاياتالمتحدة، خصوصاً في مجال التسلح وغزو الفضاء، ومن ثم فإن هؤلاء العلماء كانوا يدركون ان نظراءهم الاميركيين اكثر منهم تفوقاً ربما لأنهم ينعمون بأوضاع اقتصادية ومعيشية افضل، ومن هنا أخذوا يتسربون واحداً بعد الآخر، واللافت ان هذا الامر يتم في معظم الاحيان بالتنسيق بين الولاياتالمتحدة واكبر دولتين كان يضمهما الاتحاد السوفياتي السابق وهما روسيا الاتحادية وأوكرانيا، وهذا لا يمنع ان البعض استطاع ان يفلت من سيطرة مثل هذا التنسيق ليذهب منفرداً الى حيث تنتظره مصلحته الشخصية. ايران واسرائيل العلماء السوفيات سابقاً في مجال التسليح النووي ثبت ان بعضهم توجه الى ايران وبعضهم موجود الآن في اسرائيل في اطار هجرة اليهود السوفيات اليها والتي انفتح بابها على مصراعيه في الفترة الاخيرة، وهؤلاء الذين شقوا طريقهم الى دول في منطقة الشرق الاوسط يقال انهم، من حيث خبرتهم في التسليح النووي، من الدرجة الثانية او حتى الرابعة، اذ ان علماء الدرجة الاولى كانوا من نصيب الغرب، ولكن هذا لا ينفي ان المنتمين الى الدرجات الدنيا هم ايضا علماء ولديهم من دون شك خلفية علمية تؤهلهم لاجراء الابحاث اللازمة لصنع او تطوير الاسلحة الاكثر قدرة على التدمير والفتك، ومن ثم فإنهم يمثلون - بداهة - احد مصادر الخطر في المنطقة التي تفتقد منذ سنوات طويلة الى الاستقرار. في قلب منطقة الشرق الاوسط توجد دولة مدججة بالسلاح النووي هي اسرائيل وهي لا تكتفي بما تملكه بل ترغب في الاضافة اليه وتطويره، والفرصة سانحة امامها لتحقيق ذلك، خصوصاً انها تلقى دعماً اميركياً لا حدود له، وهدف هذا الدعم كما اعلن جيمس بيكر وزير الخارجية الاميركي السابق والمسؤول الاول عن حملة الرئيس بوش الانتخابية هو ان تحافظ اسرائيل على تفوقها النوعي بين جيرانها، وهؤلاء الجيران لا ينتظر منهم الاكتفاء بمجرد "الفرجة" إزاء ما يحدث، فكل دولة في المنطقة تريد ايضاً امتلاك المزيد من الاسلحة، وهكذا بات السباق نحو الأسلحة النووية والكيماوية والبيولوجية مستعراً ولم تحقق اي دولة عربية "تقدماً ملموساً" في هذا المضمار، باستثناء العراق قبل ان يعود تقريبا الى نقطة الصفر بعد هزيمته في حرب الخليج الاخيرة. سوق السلاح في منطقة الشرق الاوسط لم يعد حكراً على الولاياتالمتحدة والدول الاوروبية، فدول الاتحاد السوفياتي السابق ومعها الصين دخلت اخيرا الى "حلبة المنافسة"، ودليل ذلك المعرض الذي أقيم اخيراً في ايران للأسلحة الروسية، من طائرات ودبابات، كما ان الانباء ذكرت ان ايران اشترت 3 غواصات روسية الصنع، وهكذا لم يعد هناك من اعتبار للعامل الايديولوجي الذي كان يتحكم بمعاملات موسكو العسكرية، فالأولوية اليوم هي لكل ما من شأنه انعاش اقتصاديات روسيا الاتحادية وباقي دول الكومنولث الذي تقوده، وما يشجع على ذلك هو ان اميركا نفسها تبدو غير راغبة في نزع سلاح المنطقة او حتى خفضه، بل انها تريد فقط مجرد "ضبط التسلح"، وهذا يعني ان هناك "اتفاقات" تحدد الدول التي يسمح لها بامتلاك نوعيات معينة من الاسلحة وتلك التي لا ينبغي لها ان تمتلك هذه النوعيات، وذلك في ضوء التعرف على هدف كل دولة من التسلح، هل هو لرد عدوان محتمل؟ ام لتحرير ارض مغتصبة؟ ام لأسباب تتمثل في ان بعض الدول يحرص دائماً على شراء احدث "صيحة" من الاسلحة لمجرد الاقتناء ليس اكثر؟ ودول الكومنولث الروسي في طريقها لأن تصبح منافساً خطيراً للغرب في سوق السلاح في الشرق الاوسط وفي انحاء اخرى من العالم، فانتاجها يتميز بجودة عالية، بشهادة الدول الغربية نفسها، كما ان اسعارها منخفضة نسبياً. ومن العوامل المهمة التي تدفع بعض الدول التي تصنع السلاح الى العمل على ابقاء حدة التوتر على ما هي عليه في بعض اجزاء العالم، ان عائد بيع السلاح يلعب دوراً مهماً في معالجة مشاكلها الاقتصادية الداخلية. في هذا تستوي الولاياتالمتحدة ودول اوروبا الغربية مع روسياوالصين ايضاً، وأنا لا استبعد مطلقاً وجود اتفاق غير معلن بين هذه الدول الكبرى على ان تظل منطقتنا متوترة لتزداد تجارة السلاح رواجاً. والسباق على امتلاك المزيد من الاسلحة التقليدية من طائرات ودبابات وغواصات ليس مصدر القلق الآن لكن "الرعب" الحقيقي ينبغي ان يتملكنا جميعاً من انفتاح باب التكنولوجيا النووية على مصراعيه في الشرق الاوسط، في ظل اقتناع الغرب كله بأن لإسرائيل الحق في امتلاك سلاح نووي رادع تدافع به عن وجودها وفي ظل اطماع ايران المستمرة في منطقة الخليج، وأمل النظام العراقي الحالي في تعويض ما دمرته الحرب. ولا امل في زوال هذا الرعب الا بإيجاد حلول جذرية لأسس الخلافات بين دول المنطقة فعلاج ظواهر المشاكل لا يكفي واللجوء الى السلاح لا يحقق تقدماً يذكر، ومسألة الاكتفاء "بضبط التسلح" هذه ينبغي التصدي لها لأن المطلوب، لكي يسود الاستقرار، هو نزع اسلحة الدمار الشامل تدريجياً من كل دول المنطقة ومن دون استثناء. وهذا اقتراح تتبناه مصر في كل المحافل الدولية ودعا الرئيس حسني مبارك الى تطبيقه اكثر من مرة. * وزير خارجية مصر الأسبق وخبير بارز في شؤون الاتحاد السوفياتي السابق.