"نايف الراجحي الاستثمارية" و"مسكان" تطلقان شركة "ارال"    القيادة تهنئ رئيس أذربيجان بذكرى استقلال بلاده    مخفية في شحنة قوالب خرسانية .. ضبط أكثر من 4.7 مليون قرص من الإمفيتامين المخدر    ميتروفيتش يتفوق على جوميز في الهلال    أمانة القصيم والهيئة العامة للطرق توقعان مذكرة تفاهم بتطبيق كود الطرق السعودي    الشورى يطالب العدل بالتوسع بابتعاث منسوبيها والتوعية بالخدمات المقدمة لذوي الإعاقة    سلمان بن سلطان: رعاية الحرمين أعظم اهتمامات الدولة    محافظ طبرجل يفتتح مقر اللجنة الثقافية والفنون بالمحافظة    الركض بدون راحة يضعف الجهاز المناعي    رياح سطحية مثيرة للأتربة والغبار على أجزاء من وسط وشرق المملكة    تطبيق تقنية (var) بجميع بطولات الاتحاد الآسيوي للأندية 2024-2025    السجن والغرامة لمن يتأخر عن الإبلاغ بمغادرة مستقدميه    رونالدو: لم أنتظر الرقم القياسي.. وأتمنى "نهائيًا عادلًا"    بمشاركة 4 فرق .. "الثلاثاء" قرعة كأس السوبر السعودي    «الصقور الخضر» يعودون للتحليق في «آسيا»    قدوم 532,958 حاجاً عبر المنافذ الدولية    المملكة وسورية ومصالح العرب    تقدير الجميع لكم يعكس حجم التأثير الذي أحدثتموه في المجتمع    أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على سعود بن عبدالعزيز    تفقّد ميقات ذي الحليفة.. أمير المدينة: تهيئة الخدمات لتحسين تجربة الحجاج    صالات خاصة لاستقبال الحجاج عبر «طريق مكة»    «الاستثمارات العامة» يطلق مجموعة نيو للفضاء «NSG»    حلول مبتكرة لمرضى الهوس والاكتئاب    القاضي الرحيم يتعافى من سرطان البنكرياس    كوريا الشمالية تعلن فشل عملية إطلاق قمر اصطناعي لغرض التجسس    بولندا تبرم صفقة مع الولايات المتحدة لشراء صواريخ بعيدة المدى    نائب وزير الخارجية يحضر حفل الاستقبال بمناسبة الذكرى السنوية ليوم إفريقيا    شهادات الاقتصاد    إسدال الستار على الدوريات الأوروبية الكبرى.. مانشستر سيتي يدخل التاريخ.. والريال يستعيد لقب الليغا    ورحلت أمي الغالية    مكتسبات «التعاون»    إدانة دولية لقصف الاحتلال خيام النازحين في رفح    باخرتان سعوديتان لإغاثة الشعبين الفلسطيني والسوداني    نعم.. ضغوطات سعودية !        طلب عسير    سرقة سيارة خلال بث تلفزيوني    الديمقراطية إلى أين؟    أمير المنطقة الشرقية يستقبل أعضاء مجلس إدارة نادي الاتفاق    عبر دورات تدريبية ضمن مبادرة رافد الحرمين.. تأهيل العاملين في خدمة ضيوف الرحمن    الفيصل تُكرم الطلاب الفائزين في مسابقتَي «آيسف» و«آيتكس» وتشيد بمشاريع المعلمين والمعلمات    حفلات التخرج.. البذل والابتذال    بدء أعمال إنشاء مساحات مكتبية في "ميدان الدرعية"    الاحتيال العقاري بين الوعي والترصد    موجز    تعاون بين «روشن» و«سمة»    إخلاص وتميز    كيف تصف سلوك الآخرين بشكل صحيح؟    كشف رب الأسرة    القيادة تعزي حاكم عام بابوا غينيا الجديدة في ضحايا الانزلاق الترابي بإنغا    ولادة 3 وعول في منطقة مشروع قمم السودة    سكري الحمل    دراسة تكشف أسرار حياة الغربان    أمير تبوك يستقبل المواطنين في اللقاء الأسبوعي    مجمع إرادة بالرياض يحتفل بيوم التمريض العالمي.. غداً    فيصل بن بندر يؤدي صلاة الميت على سعود بن عبدالعزيز    سلمان الدوسري يهنئ جيل الرؤية على التفوق والتميز    نائب أمير مكة يطّلع على استعدادات وخطط وزارة الحج والعمرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العدوان على كنيسة الإسكندرية وما يسمى "معضلة الدين" في عالمنا الحديث
نشر في الحياة يوم 29 - 01 - 2011

ثمة إدراكان متناقضان للعقيدة الدينية طالما اشتبكا معاً عبر مراحل التاريخ، ومن جدلهما معاً يمكننا فقط تأمل تلك المفارقة الكاملة التي تدفع شخصاً إلى تدمير الآخر باسم الدين أو الإيمان، على منوال ما قام به ذلك الموتور الذي اعتدى أخيراً على كنيسة القديسين في الإسكندرية، فأودى بحياة عشرين شخصاً، وأصاب نحو ثمانين آخرين بجروح، الأمر الذي أحال احتفالاً بقداس الميلاد إلى مأتم كبير باسم الله، ولا أظنه عرف الله حقاً، أو أشرقت نفسه بإيمان، أي إيمان، مسيحياً كان أو إسلامياً، فالله في كل الأديان هو الحب والرحمة قبل أي معنى، وبعد كل مغزى. الإدراك الأول أصيل رائق يرى الدين حالاً روحانية أو جسراً وجودياً يربط عالم الشهادة بعالم الغيب، يدفع بالروح الإنسانية إلى تجاوز نفسها، والتعالي على وجودها، إذ ينمو ذلك الشعور بالتواصل مع المقدس بما يكفله من طمأنينة للنفس، وتسامياً على الغرائز كالجشع والأنانية والحقد، وشعوراً بالتناغم مع المبادئ الأساسية للوجود، على نحو يزيد من اليقين الإنساني بالحضور الإلهي في العالم، وبالعناية الإلهية بالمصير الإنساني، وليست تلك العناية سوى الحب والرحمة والغفران لكل من عرفه، جل شأنه، بأي اسم هو له، وبأي شريعة أنزلها.
غير أن هذا الإدراك أخذ يعاني باطراد من الذبول تحت ضغط الهجوم الطاغي للنزعات الدنيوية التي نالت من ضمير الإنسان المعاصر مع تزايد اندماجه في بنى وتنظيمات العصر الصناعي، ونمو العقلانية الحديثة في الإدارة والسياسة على النحو الذي صنع التصورات الباكرة للقرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين عن مستقبل الدين، والتي كان ذهب إليها إميل دوركايم وأكدها ماكس فيبر، حيث لا قدسية إلا للعمل، والملكية، والسلطة ولا وجود حقيقياً أو فعالاً لروابط التضامن الإنساني أو التعاطف المتبادل، في ظل سيادة نمط الحياة التعاقدي على ذلك النمط التراحمي الذي كان ساد العصر الكلاسيكي، بإلهام الأديان السماوية.
في كتابه الشهير"العلم المرح"سواء كان ذلك بدهاء كبير، أم بحدس فائق التجاوز، اختار نيتشه السوق مكاناً لتراجع القيم الدينية. لكن كثيرين من أهل السوق يحتفظون بسلوكيات عملية أكثر أخلاقية حتى من أولئك المؤمنين الممارسين لطقوس الإيمان التقليدي، على نحو يجعلهم أكثر تراحماً، وتعاوناً مع الآخرين، وحباً للحقيقة التاريخية، واحتراماً للحرية ورغبة في الدفاع عنها، إلا أنهم عادة لا ينسبون هذه الرؤى والمواقف الأخلاقية إلى الإيمان الديني، وإنما يرجعونها إلى ميتافيزيقيا حديثة كالنزعة الإنسانية، أو الحق الطبيعي، أو مبادئ العقل الكلية، وكل هذه الأنواع من الميتافيزيقيا تضع الأخلاق في إطار الواجب، سواء كان هذا الواجب ضرورة عقلانية تلهم الوعي الإنساني على نحو ما ذهب كانط، أم ضرورة سياسية على نحو ما ذهب هيغل، إذ اعتبر الدولة موطن الفضيلة التي يتوجب أن نتقدم نحوها بقرابين الطاعة والالتزام اللذين يفرضهما واجب الانتماء إليها.
غير أن الإمعان في العصر الصناعي، والولوج إلى العصر ما بعد الصناعي، كشف بشكل مطرد عن توترات غير مسبوقة داخل الروح الإنسانية، لدى كثيرين ممن لم يندمجوا في المجتمع الحديث، وقد دفع بهم التهميش المتزايد وما يصاحبه من شعور بالاغتراب وانعزال عن الفضاءات الاجتماعية المختلفة إلى التفكير على نحو أعمق في هويتهم الفردية، وقادهم في الأغلب إلى الالتصاق بمكوناتها الأولية، وبخاصة المعتقدات الدينية، ليس فقط ملئاً للفراغ الوجداني الشاسع الذي خلفه رحيل أو ذبول المجتمع الكلاسيكي بعلاقاته الحميمة، وإنما بالأساس بحثاً عن جذور وملامح للتميز تحت ضغوط عمليات التنميط والقولبة والعلاقات الكمية والتماثلات الشكلية المحيطة التي يفرزها مركز واحد يصير منظماً لمجمل النشاط الإنساني الحديث.
وبعد أن كان مفكرو التنوير تحدثوا عن تاريخ إنساني تجاوز مركزية الدين منذ القرن الثامن عشر، واعتقد فلاسفة الوضعية بالذات بتجاوز التاريخ للدين نفسه، وليس فقط مركزيته، منذ القرن التاسع عشر وإلى الأبد، نجد أنفسنا اليوم أمام مفارقة كبرى وهي أن القرن العشرين، الذي بدأ مفعماً بأحلام التقدم المتوثبة إلى بلوغ ذرى القمم التي قاربها سابقوه في كل المناحي بإلهام عقلانية الحداثة وموضوعيتها، وإلى صوغ دين إنساني يحتل موقع الدين الإلهي على نحو ما أراد أوغست كونت، إنما نجده، أي القرن العشرين، يلوي خطاه إلى بعض طرق ومداخل تقود إلى ما يسبقه، وليس ما يليه، حيث كان الدين قابعاً على الطريق هازئاً، عبر مظاهر شتى، بالمصير الذي رسم له سلفاً، مطالباً بحقه في الوجود، كاشفاً عن قدرته على التحدي، وهي قدرة يبدو أنها ستظل دائمة، في مواجهة كل محاولة قسرية لنفي الروحانية المتسامية المتولدة عن مركزية الحضور الإلهي في التاريخ الإنساني. غير أن الدين المنبعث هنا لم يعد هو الدين القديم الذي يعمل ك منظومة تراحم إنساني، بل هو الدين في أكثر إلهاماته ثورية، وصياغته راديكالية، أي الدين المسيس الذي يجسد النمط الإدراكي الثاني.
والنمط الإدراكي الثاني نفعي زائف يفهم الدين كاستثمار سياسي، كطقس من دون اعتقاد عميق، كظاهر من دون باطن منفعل، كنزوع إلى رفض الآخر إلى درجة استباحة وجوده، بدلاً من التعاطف والتراحم معه. مشكلة هذا النمط الحقيقية أنه يحتفي بالشكل ويغيب المضمون، وهكذا نجد أن الدين، كظاهرة اجتماعية وسياسية، يكاد يتفجر في كل مكان نافياً ذلك الادعاء بنهايته، ومتحدياً السلطة السياسية التي تصورت إنها تجاوزته، ولكنه يكاد يختفي كممارسة روحية حقيقية تعبر عن جوهره الأصيل.
إنه الإدراك الذي كان الملك البريطاني، والقائد الصليبي الشهير المُكنى بريتشارد قلب الأسد حاول استغلاله يوماً في حفز جنوده على العدوان علينا فدعاه ب الحقد المقدس، ولم يكن الحقد يوماً مقدساً، ولن يكون، بل هو جوهر لكل مدنس، ووعاء لكل شيطان بغي.
وهو أيضاً الإدراك الذي ينمو الآن باطراد لدى المجتمعات التي لا تزال، في الأغلب، تعاني من صدمة الحداثة، وتسودها نزعات التشدد الفقهي/ الحنبلي، والسياسي/ الخوارجي، تلك التي تقود إلى العنف والإرهاب الذي نال أخيراً من كنيسة القديسين في الإسكندرية.
ولعل هذا الحدث السكندري، ونظيره العراقي، وغيرهما، إنما تكشف كلها عن مفارقة كبرى بادية في مجتمعاتنا العربية الإسلامية، تتعلق بجوهر الصراع بين السلطة السياسية وتيارات المعارضة الدينية حول الدولة والمجتمع، وحالة النفاق المراوغ التي تسود على الجانبين.
فعلى الجانب الأول تنشغل الدولة العربية المعاصرة بحصار تيارات المعارضة الدينية، الأخطر عليها بعد أن تم لها تفكيك المعارضة السياسية المدنية بشتى أشكالها وألوانها، وذلك تحت لافتة تجديد الفكر الديني، سواء لدوافع ذاتية أم بضغوط غربية/ أميركية، وهو الأمر الذي يقود في ظل أجواء سياسية مغلقة ودرجة شفافية متدنية وسلوكيات مهادنة مع الغرب وأميركا بالذات إلى تحريض المسلمين المتشددين ضد"الفجور العلماني"، وتغذية جدل قوي على أرضية دينية يزيد من شرعية التيار السلفي، ويعمق درجة الاستقطاب الثقافي القائم لمصلحة التيارات المتطرفة، ما يكسبها أرضاً جديدة في الصراع على المستقبل العربي على رغم نهوضها على رؤية بالية للتاريخ.
وفي المقابل، وهنا جوهر المفارقة، لا تفكر الدولة العربية في أن تطرح على نفسها، حقيقة، ومن دون ممالأة للضغوط الخارجية، مطالب تجديد الفكر السياسي، وغالباً ما تستنكر أطراف النخب الحاكمة الحديث عن تغيير الدستور لمعالجة الخلل القائم في بنية نظمها السياسية التي لا تزال تعتمد مجرد الاستفتاء كآلية لاختيار رئيس الدولة أحياناً، أو تسمح بانتخابات صورية أحياناً ثانية، وتقود إلى، أو تسمح، بتوريث السلطة أحياناً ثالثة، أو باستمرار ملكيات مطلقة أحياناً رابعة، وذلك كمقدمة لإثراء الحركة السياسية وضخ حيوية جديدة فيها تقود إلى تجديد الفكر السياسي الراكد على رغم أن الدستور، كل دستور، ليس إلا عقد اجتماعي يرتبط بدرجة تطور المجتمع في لحظة معينة، ما يعني ضرورة أن يكون متغيراً بتغير المجتمع السياسي وإلا تحول إلى صنم مقدس وقيد تاريخي يعوق التطور الاجتماعي الشامل وليس السياسي فقط"حيث تعيش الدولة المدنية العربية حالاً من الفشل العام على شتى الصعد تقريباً نتيجة لترددها في المضي على طريق الحداثة السياسية واختزالها التحديث في قطاعات محدودة لا تقلص من مجال هيمنتها، وحتى في هذه القطاعات المحدودة تتم الاستعارة الشكلية للأبنية والقوالب الحديثة من دون المضمونات والجواهر.
وعلى الجانب الآخر، فإن تيارات الإسلام السياسي، ومن خلفها التيارات السلفية المتشددة، تطرح مطالب سياسية تنال من طبيعة الدولة المدنية، ومن تركيبة علاقاتها الدولية في آن، فهي مثلاً تطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية، وتتغاضى عن وجود أقليات غير إسلامية، وهي تكاد تتجاهل مفهوم المواطنة فيما تستدعي مفاهيم كلاسيكية كأهل الذمة في مواجهة الأقليات الدينية... الخ. وهي أيضاً تكاد تطالب بقطيعة مع العالم الذي يصير لدى بعضها مجرد دار حرب، وبصراع مفتوح مع الغرب الصهيوني أو المتصهين، ناهيك بحرب مفتوحة أو جهاد دائم مع إسرائيل.
ولا تطرح هذه التيارات الدينية وتجسداتها الحركية من الجماعات السياسية المتطرفة على نفسها، بشكل حر ومن خارج أسوار وضغوط السجون، مطالب تجديد الفكر الديني، بل أن جلها لا يعترف بالحاجة إلى ذلك التجديد أو تلك المراجعة منتشياً بما تحقق له في العقود الثلاثة الماضية، إذ تمكنت هذه التيارات من اختطاف الثقافة والمجتمعات العربية كلها بالتطرف، وأحياناً بالإرهاب الذي لا يعدو كونه استمراراً عبثياً لظاهرة الخوارج.
* كاتب مصري


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.