يوقظ خبر وفاة التربوي والإعلامي الفلسطيني زهير الكرمي قبل أيام، عن 88 سنة، في ذاكرة كثر، صورةَ عالم أليفٍ إلى النفس، شائقِ الحديث، قريبٍ إلى الروح، باسم وجاد، أنيس ومحبوب الحضور، ييسر معرفته الثرية في علوم الإنسان والحيوان والطبيعة والبحار والنبات و... ببساطة عميقة وجاذبة، يفيد منها الجميع، الصغار والكبار، الأميون وأصحاب الشهادات العليا، في لغة رحبة ورائقة تنشدّ إليها الأخيلة والمدارك والعقول. إنها صورة الرجل على شاشة التلفزيون في تقديمه برنامجاً بديعاً اسمه"العلم والحياة"، ينتسب إلى زمن البهجة بالتلفزيون في منازلنا، في سبعينات وبعض ثمانينات القرن العشرين. كان يوفر لمشاهديه معرفةً واسعة بالحياة في خبايا المحيطات والبحار وقيعانها، بالطيور في فضاءات وسماوات الدنيا، بالحيوانات في الغابات والسهول والصحارى. كانت متعة شائقة أن نستمع إلى زهير الكرمي، وهو يشرح عن ذلك كله وغيره بنبرة الجليس والصديق، وفي صوته هدوء ولطف، فنتعلم ونبتهج، ثم ننتظر إطلالته في الأسبوع المقبل. مساهمة الراحل في تبسيط العلوم للمشاهد العادي يجدر أن تجد في التلفزات والفضائيات العربية من يحميها من النسيان، ليس فقط بالتذكير الدائم بها، بل أيضا بالانتباه إلى الغياب الفادح لبرامج عن المعرفة العلمية، تتصف بما كان عليه"العلم والحياة"، قبل الطفرة التي أغرقتنا بعشرات الفضائيات المتنوعة، وبالكاد، نقع فيها على برنامج تلفزيوني حميم، من الطراز الذي يقرّب العلم إلى الأفهام والمدارك، وفي وسعه أن يحبب إليه الكبار والصغار، من دون بهرجة أو تزيين لا لزوم لهما. يكفي أن يكون الإعداد متقناً، يقف على الجوهري في المعلومة العلمية، ولا يقع في التبسيطية المخلة، والسذاجة والسطحية إياهما، ولا يستغرقه البحث المكتبي، وتشتته اللملمة المرتجلة من الإنترنت، وفي البال أنه لم تكن لجهاز الكمبيوتر في عهد التلفزيون في سنوات عطاء زهير الكرمي غير المنسية سطوته الراهنة. كان الراحل تربوياً، وصاحب شهادة عليا في العلوم، وقبل ذلك وبعده، ظل شديد الإخلاص لرؤيته التي قامت على وجوب تحصيل الإنسان العربي، أياً كانت مجالات عملة ومشاغله، مقاديرَ كافيةً من المعرفة العلمية، تُعينه في استيعاب المستجدّ من المكتشفات والاختراعات. ومبكراً، أدرك أن لجهاز التلفزيون دوره التثقيفي بالغ الأهمية في سياق رؤيته تلك، فبالإضافة إلى مساهمته في تطوير مناهج تدريس العلوم في الكويت التي عمل فيها لسنوات طويلة، كان لدوره في"العلم والحياة"، بحلقاته التي نخمن أنها بالمئات، ومن إنتاج تلفزيون الكويت، على ما نظن، كبير الأثر والتأثير. ويحسن التذكير أيضاً بإنشاء زهير الكرمي المتحف العلمي في الكويت، والذي يضم أصناف الحيوانات الحية والمنقرضة، وبتأليفه كتباً شائقة، منها"العلم ومشكلات الإنسان المعاصر"، من أولى إصدارات سلسلة عالم المعرفة الكويتية، عدا عن ترجماته عدداً من الكتب، وإنجازه أكثر من أطلس علمي مصور. هي تحية واجبة للرجل، إذ يرحل عن الدنيا، بعد مسيرة ثرية، أضاء في أثنائها، في برنامجه التلفزيوني الناجح، والباقي،"العلم والحياة"، لكثيرين مساراً في حب المعرفة والانجذاب إلى التعرف إلى الدنيا وعوالم الكائنات الحية في مياهها وجبالها ووديانها. وفي استذكار ذلك البرنامج هنا ما يحرّض على محاولة الإجابة عن سؤال يطل، غصباً عنا في هذا المقام، عن سبب غياب أي برنامج علمي ناجح وجماهيري وقوي وممتع في أي من فضائياتنا العربية الوفيرة. بالضبط، ما الذي يجعل مطرح برنامج زهير الكرمي محترماً في ذاكرة ملايين العرب، وليس في وسعنا الإشارة إلى برنامج يشبهه، أو يتفوق عليه، في خريطة شاسعة من برامج شديدة التكرار والإثارة للملل في تلفزات عربية بالمئات؟ ... مجرد سؤال، أتاحه خبر وفاة زهير الكرمي. نشر في العدد: 17047 ت.م: 2009-12-06 ص: 34 ط: الرياض