هل يمكن أحداً أن يحصي حقاً عدد الأفلام السينمائية أو التلفزيونية التي تتخذ لنفسها موضوعاً يتحلق من حول جزيرة غامضة ضائعة في ما يشبه"اللامكان"، ويصل اليها في شكل غير متوقع فرد ما أو مجموعة من الأفراد؟ لا ريب في أن العدد كبير جداً، وأكبر من أن يحصى، ذلك أن موضوعاً من هذا النوع لا يكف عن اثارة مخيلات البشر وتطلعاتهم، وربما منذ ولادة أسطورة أو حكاية جزيرة الأطلنطيد، مروراً بمغامرات أوليس والسندباد وما الى ذلك. ولئن كان روبنسون كروزو، في مفتتح العصور الحديثة، قد لجأ في مغامرته المشهورة الى رمزية الجزيرة، كما صاغها له مؤلف روايته دانييل ديفو، مطلعاً أو غير مطلع على حكاية حي بن يقظان كما وضعها ابن طفيل أو صاغها ابن سينا فلسفياً، فإن كاتب القرن التاسع عشر الأكبر جول فيرن، تمكن من استيعاب ذلك كله ليدمجه معاً في واحدة من رواياته الجميلة. ونعني بهذا، طبعاً، رواية"الجزيرة الغامضة"، التي نشرت للمرة الأولى عام 1874. جول فيرن، كعادته، وهو المعروف كواحد من كبار مجددي، إن لم يكن من مبتدعي، روايات الخيال العلمي، تمكن في هذه الرواية من أن يمزج بين الأنواع، فإذا بها رواية مغامرات، وعمل سياسي، ونص اجتماعي، ناهيك بما تتضمنه من أبعاد فلسفية تأتي، وأيضاً على عادة جول فيرن في كتاباته لتلك المرحلة، أشبه بأمثولة تقول علاقة الكاتب بزمنه وبالأفكار الكبرى التي كانت سائدة في ذلك الزمن. ومن هنا ما يقوله مؤرخو الأدب والحضارة، دائماً، من أنه اذا كانت الأوديسة افتتحت عصور العقلانية في تاريخ البشرية، وپ"روبنسون كروزو"العصور النهضوية، فإن"الجزيرة الغامضة"افتتحت العصور الحديثة، العصور التي سيكون من أهم سماتها المزج بين الحاجة الروحية الميتافيزيقية للإنسان، وبين انفتاحه التام، وغير المشروط، على عصر العلم. طبعاً لن يبدو هذا كله واضحاً على هذا الشكل لمن يدخل عالم"الجزيرة الغامضة"باحثاً فيها عن المغامرة ومتعة القراءة، وحسّ التشويق. وهذا كله موجود طبعاً، لكنه سرعان ما سيبدو جانباً فقط وإن أساسياً من جوانب دروس هذا العمل، إن أدرك القارئ انه يجب أن يقرأ الرواية على ضوء عصرها والتطور الفكري لذلك العصر. مثل هذه القراءة ستبدو وحدها قادرة على تفكيك العمل بكل عناصره وأبعاده، سعياً وراء إدراك امثوليته. ولعل أول العناصر التي يتعين الانتباه اليها هنا هو تاريخ الأحداث الذي جعله فيرن للرواية، ومن ثم ارتباطه بالحدث السياسي الأبرز على الصعيد العالمي. هذا الحدث هو، بالتأكيد، الحرب الانفصالية الأميركية التي استشرت عند بداية ستينات القرن التاسع عشر. ذلك ان أحداث الرواية تدور في ذلك الحين. بل انها ? أصلاً ? تنطلق من ذلك الواقع التاريخي. ان الشخصيات الخمس التي ستعيش"مغامرة الجزيرة الغامضة"إذ تتألف من خمسة أشخاص كانوا مأسورين لدى الجيش الجنوبي الذي كان يخوض الصراع، في الولاياتالمتحدة، ضد ابراهام لنكولن والشماليين الساعين الى إلغاء العبودية في ذلك المكان من العالم. من هنا لم يكن غريباً أن يجعل جول فيرن شخصاً أسود هو ناب بين الفارين الخمسة الذين ما إن يفروا من الأسر حتى يستولوا على منطاد يصعدون اليه ليهربوا به. وبالفعل يطير بهم المنطاد مسافة، قبل أن يسقط أخيراً على شاطئ جزيرة مجهولة غامضة لا يعرف أحد من الفارين عنها شيئاً، ولا يتذكر أي منهم ان لها ذكراً في كتب الجغرافيا. الفارون الخمسة، وهم - إضافة الى الأسود ناب - المهندس سايروس سميث وجدعون سبيليت والبحار بنكروف والفتى هربرت، يحاولون من فورهم السعي الى التعاطي مع الوضع الجديد، وغير المتوقع، الذي وجدوا أنفسهم فيه. وهم، على أية حال، سيكتشفون بالتدريج ان هذه الجزيرة التي اطلقوا عليها على الفور اسم لنكولن - ولهذا دلالته الكبرى هنا، كما يمكن المرء أن يتصور - غنية بالثروات وإمكانات العيش. كل شيء فيها متوافر، إذاً، ما عدا البشر... ولكن هذا غير صحيح، ذلك ان الفارين الخمسة سرعان ما سيكتشفون أموراً تدهشهم، لكن هذا لن يحدث إلا بعد مرحلة أولى يتفق فيها الخمسة، إذ يتأملون في وضعيتهم، وفي الكيفية التي نجوا بها حتى الآن من كل الصعوبات التي اعترضتهم، يتفقون فيها على ان ثمة، من دون أدنى ريب، قوة إلهية غامضة حفظتهم ونجّتهم وتحافظ عليهم حتى الآن. والحقيقة ان هذا الاتفاق لن يرتسم إلا بعد سجال مهم يدور بينهم وتدخل فيه عناصر مثل العلم والطبيعة والعناية الإلهية وما شابه. ثم بعد ذلك، وفي الإطار الميتافيزيقي نفسه يتلقى الأبطال الخمسة إشارات تنبههم الى وجود كائن في مكان ما في الجزيرة، هو آرنون، الآتي من رواية أخرى لجول فيرن هي"أطفال الكابتن غرانت"، والذي كان اللورد جينارفان، في هذه الرواية الأخيرة قد تركه متخلياً عنه في جزيرة صغيرة مجاورة. إذاً، يدرك الفارون وجود آرتون وينقذونه ضامينه اليهم. لكن هذا ليس كل شيء بل ان هذه البدعة الأدبية التي ابتدعها جول فيرن بإدخال"شخصية"من رواية سابقة له في هذه الرواية الجديدة، لن تكون الأخيرة... ذلك ان كشفاً ميتافيزيقياً ثانياً سيكشف أمامهم سراً، كان كثر منهم، ومن قراء جول فيرن الآخرين قد هجسوا به منذ زمن، أي منذ قرأوا روايته السابقة"عشرون ألف فرسخ تحت الماء": السر المتعلق باختفاء الغواصة نوتيلوس وقبطانها نيمو. ان ما حدث، بين صدور الرواية الأولى وكتابة الثانية هو أن نيمو قد لجأ الى هذه الجزيرة وجوارها، وها هم الفارون ورفيقهم الجديد في"الجزيرة الغامضة"يصلون الى مكان نيمو، تماماً في الوقت الذي يجعلهم يشهدون موته واحتضاره. وينمو، خلال هذا الاحتضار، سيقدم لزواره هؤلاء عوناً أخيراً: سيساعدهم على ان يعودوا الى ديارهم، سالمين معافين، بعد أن خاضوا تلك المغامرة الغريبة والمدهشة. واضح هنا مقدار الخيال الذي استخدمه جول فيرن لكتابة هذه الرواية، خصوصاً في مجال ادخاله، في شكل غير متوقع ولكنه فتن قراءه، أحداثاً وشخصيات من أعمال سابقة له... بل في شكل أكثر تحديداً، في العملين السابقين له واللذين كانا صدرا مباشرة قبل"الجزيرة الغامضة". غير ان هذا"التلاقح الأدبي"ان جاز لنا القول، ليس كل شيء في هذا العمل، إذ هناك أيضاً - خصوصاً طبعاً -"التلاقح"مع"روبنسون كروزو"وغيرها من النصوص التي قرأها جول فيرن واستوعبها جيداً في الماضي. غير ان الأهم من هذا كله هو، طبعاً، روحية هذه الرواية: إذ، وكما يؤكد الباحثون في أدب فيرن، تماماً كما ان شخصية كروزو، في الرواية الشهيرة تعتبر تجسيداً حقيقياً للبشرية عن مطالع العصور النهضوية الحديثة، كذلك فإن شخصيات"الجزيرة الغامضة"شخصيات تجسد البشرية الحديثة بدورها. ولكن، هذه المرة، البشرية العالمة المؤمنة بالعلم... ذلك انها شخصيات ترمز الى حضارة تمزج العلم بالأخلاق: وهم، لهذا فقط يتمكنون من الانتصار، بالعقل العلمي والإيمان معاً، على قوى الطبيعة العاتية طوال فصول الرواية. ومن هنا ما يراه الباحثون من أن هذه الرواية تكاد تكون، من بين أعمال جول فيرن كلها، الأكثر تعبيراً عن مواقفه من العلم والإيمان والأخلاق، حتى وإن كان لا يفوتنا ان نجابه مثل هذه المواقف في روايات أخرى لجول فيرن 1828 - 1905، غير ان هذه المواقف تأتي مبطنة ومتفرقة في معظم تلك الروايات. أما هنا في"الجزيرة الغامضة"، فإنها واضحة مركزة، تكاد تجعل من النص أمثولة فكرية متكاملة. [email protected]