قيل دائماً عن رواية"أوليفر تويست"لتشارلز ديكنز والتي اعاد رومان بولانسكي احياءها في فيلم أخير له انها مستلهمة مما عرفه ديكنز حقاً عن شوارع لندن البائسة وحياة المعدمين فيها، كما قيل عن شخصية بطلها الفتى نفسه، انها شخصية تجمع بين ما اختزنته ذاكرة الكاتب من طفولته، وبين ما روي له من حكايات عن أطفال مماثلين. والحقيقة ان في امكان المرء أن يصدق هذا كله، شرط ألا تكون قد وقعت بين يديه رواية للكاتب دانييل ديفو، عنوانها"تاريخ حياة الكولونيل جاك ومغامراته المفاجئة"، أو على الأقل القسم الأول من هذه الرواية. ذلك ان قراءة هذا القسم، ستكشف وجوه شبه مدهشة، بل مقلقة للأمانة الأدبية، بين ما يعيشه بطل رواية ديكنز وبطل رواية دانييل ديفو... كما ان الأمور تتجاوز هذا التشابه بين الحياتين، لتصل الى تفاصيل وصف حياة الحثالة اللندنية. طبعاً تبدو رواية ديكنز أكثر شهرة بكثير من رواية دانييل ديفو، خصوصاً ان العمل الأساس لهذا الأخير"روبنسون كروزو"قد طغى، سمعةً وشهرةً، على بقية أعماله بحيث ان هناك كثراً، يعرفون أن له، في الأصل، رواية بذلك العنوان. هذه الرواية التي كتبها دانييل ديفو وهو في الثانية والستين من عمره، أي بعد ثلاث سنوات من نشره"روبنسون كروزو"هي، على أية حال، رواية طويلة جداً... الى درجة ان بعض الناشرين والمترجمين، يكتفي أحياناً بنشر جزء أول منها، هو الذي يطاول طفولة بطلها، جاك، ونشأته، قبل أن يتحول ليصبح مغامراً وقرصاناً كبيراً، ذلك ان النقاد والباحثين، والقراء المعنيين رأوا دائماً أن أهمية الرواية تكمن في القسم الأول الذي تدور أحداثه في لندن... فهو الذي يحمل كل جديد وممتع وعميق ومفاجئ، أما بعد ذلك، فإن الأمر لا يعدو كون دانييل ديفو، استعاد في فصول وفصول مسهبة، أجزاء ومواقف ومغامرات كانت في الأصل تملأ رواياته الأولى... بل ثمة شخصيات تدخل في مجرى القسم الأخير من"الكولونيل جاك"مستعارة من تلك الروايات، اضافة الى ما تعمده دانييل ديفو، من أن يجعل بطله، حين صار شاباً، معادلاً ذكرياً، لبطلة روايته السابقة"مول فلاندرز"في مجالات عدة، منها ان هذه - في الرواية - تزوجت خمسة رجال، فإذا بجاك يتزوج من خمس نساء... وما الى ذلك. * والحقيقة ان الدارسين يعزون هذا التطويل، الى أن ديفو كان في كهولته يواصل عيش أزماته المالية الخانقة، التي لم تفارقه طوال حياته، على أية حال، وانه كما كتب نحو 500 نص في حياته، وبسرعة عجيبة لكي يقبض من أثمانها ما يعينه على العيش، كان في نهايات سنواته يتعمد الاسهاب في أي نص يكتبه، حتى يقبض مزيداً من المال، حتى ولو أدى ذلك الى نسف سياق رواية من أساسها وحرفها عن بداية تتسم أصلاً بقدر كبير من العبقرية. والحال أن رواية"الكولونيل جاك"هي من هذا النوع: تبدأ كعمل عظيم، لتنتهي مجرد رواية مغامرات عادية. ومنذ البداية لا بد من الاشارة الى ان ليس ثمة كولونيل في هذه الرواية ولا من يحزنون. فجاك، حين أطلق عليه هذا اللقب، كان مجرد مغامر أفاق، في طريقه الى أن يصبح قرصاناً مرعباً. أما قبل ذلك، فكان يتعثر في البحث عن حياته، هو الذي ولد طفلاً غير شرعي، لا يعرف أحد عن والديه شيئاً مثل أوليفر تويست، وترعرع في الشارع، حتى صار فتياً فراح يدخل في عداد عصابات الحثالة ممارساً شتى أنواع السرقات وضروب الاحتيال تحت رعاية لصوص شوارع أكبر منه سناً وأعمق منه تجربة. لكن الفتى تبدّى من الذكاء والطموح بحيث لن يرضى أن يكون مجرد فرد في عصابة، ومجرد صبي يخدم خطط الآخرين... وهكذا تفتّح وعيه الصغير على ضرورة أن يتجاوز سنه وإمكاناته، فراح يصادق الأكبر سناً ويتعلم منهم من دون أن يجعلهم يدركون تطلعاته، التي لم تكن بالنسبة اليه، على أية حال، خططاً مدروسة، بل تفاعلاً مع ما يحدث يوماً بيوم، وايجاد حلول في كل لحظة، لقضايا تواجهه. وهكذا يقوى عضده، هو الذي كان دائماً يقول عن نفسه لمحدثيه انه يعرف حقاً أنه، في الأصل، ابناً لسادة محترمين مرة أخرى نجدنا أمام روحية"اوليفر تويست". وفي سن بداية الشباب تصبح لجاك ثروة طيبة، في الوقت نفسه الذي يضطر الى مبارحة لندن طفولته الى اسكوتلندا هرباً من عدالة كانت بدأت تطارده. وذات يوم اذ يسعى للعودة على متن سفينة، يخدره تاجر من العبيد، ليجد نفسه حين يفيق على متن سفينة تأخذه الى العالم الجديد: الى أميركا. وهناك يباع كعبد في احدى مزارع فرجينيا، لكنه سرعان ما يصبح رئيساً للعمال. لكنه في الوقت نفسه يصبح مناضلاً حقيقياً ويرفض معاملة العبيد باحتقار أو عنف. ويزداد هذا التوجه لديه حين يساعده حاميه هناك على شراء قطعة من الأرض يستغلها فيثرى. وهنا يقرر العودة الى انكلترا، بادئاً حياة جديدة مدهشة: فمن زوجة الى زوجة، من مغامرة الى مغامرة، ومن مشاركة في حرب الى مساهمة في غزو أو في مشروع، يبدأ تجوال الكولونيل جاك بين البلدان والحروب، في وقت تقوى شخصيته وتتشعب مغامراته أكثر فأكثر ليضحي وكأنه اختصار واضح لعدد كبير من الشخصيات البطولية والأفاقة التي تسكن روايات دانييل ديفو السابقة، كما أشرنا. ان بطلنا هذا، خلال حياته الصاخبة تلك، يعبر تاريخ أوروبا كله، وكذلك تاريخ الفاصل البحري بين العالم القديم والعالم الجديد... اذ، حين يقرر أخيراً، وإثر اخفاقات نسائية متتالية، ان يترك المشاركة في الحروب، ليتجول في البحار، متاجراً حيناً، مقرصناً حيناً آخر، وملتقياً في طريقه بشتى أشكال الحياة والأخطار، يتحول من التجول في التاريخ الى التجول في الجغرافيا... ولكن أيضاً الى التجول وسط تاريخ كل أنواع أدب المغامرات التي كانت سائدة ورائجة في ذلك الحين. وهنا يحدث ذلك التلاقي المتواصل بين هذه الرواية، وروايات ديفو السابقة. من هنا اعتبر الدارسون والنقاد دائماً ان المهم في هذه الرواية الطويلة والمتشعبة، يبقى قسمها الأول، حين عرف ديفو كيف يقدم صورة أخاذة وتفصيلية لتلك المدينة التي كان يعرفها جيداً: مدينة لندن، التي عاش خصوصاً في أزقتها وأمضى حياته فيها متنقلاً بين البيوت الضخمة، والأكواخ البائسة... بل حيث عاش سنوات من حياته، كذلك، في سجن"تيو غيت"بسبب تحديه لكبار العصر في انكلترا الصاخبة، واحتيالاته. ونعرف ان السنوات التي أمضاها في ذلك السجن في أوساط الحثالة، هي التي حمّلت ذاكرته كل ذلك القدر الكبير من الحكايات وصور الشخصيات التي ملأت أعماله، ومنها"الكولونيل جاك"، حيث يروى انه كان يجمع من حوله اللصوص والمجرمين داخل السجن ليرووا له مغامراتهم ويستكشف هو حياتهم وسماتهم، مسجلاً اياها في تلك الذاكرة المذهلة التي ستعود وتوزع الشخصيات والأحداث على عشرات الروايات ومئات النصوص التي كتبها طوال حياته. ودانييل ديفو، الذي انبنى القسم الأكبر من شهرته على روايته الشهيرة"روبنسون كروزو"التي يجد باحثون عرب أوجه شبه بينها وبين"حي بن يقظان" عاش بين العام 1660 والعام 1731. وهو ولد في لندن ابناً لجزار يدعى جيمس فو، لكنه عاد وغيّر اسمه الى ديفو اعتباراً من العام 1695... وبدأ دانييل حياته راغباً في سلك درب اللاهوت، لكنه اذ تزوج باكراً، راح يخوض العمل التجاري ويسافر بين بلدان أوروبية عدة... ثم خاض الحروب ضمن حملة ويليام الثالث، ما أعطه تجربة غنية مكنته من أن يبدأ خوض الكتابة منذ العام 1697.... ومنذ ذلك الحين راحت حياته تتوزع بين المغامرات والكتابة والمشاريع التجارية الفاشلة. وهو خلّف حين رحل عن عالمنا عشرات الروايات والنصوص التاريخية الأدبية الأخرى، حتى وإن ظلت"روبنسون كروزو"أشهر رواياته وأكثرها ريادة.