كانت بيروت تتهيأ لتكون عاصمة عالمية للكتاب في السنة المقبلة بعدما سمّتها منظمة ال"يونسكو"بين مدن عدة، لكن قدرها المأسوي الذي تحدته مراراً انتصر عليها أخيراً. هذه المدينة التي يحبها العالم أكثر مما تحب نفسها والتي يحبها الغرباء أكثر مما يحبها أهل لبنان لا تستحق الذل الأهلي والمهانة الداخلية. صمدت بيروت طوال الحروب التي توالت عليها وقاومت الاجتياح الإسرائيلي وتلقت السهام من هنا وهناك، لكنها كانت تنتفض دوماً وكأنها مفطورة على الحياة، في معناها الأعمق. غريبة هذه المدينة في قدرتها على النسيان والمسامحة وعلى استعادة وقع الحياة وصخبها الجميل ولو على أنقاض الذكريات الأليمة. تنهض فجأة وكأن أمراً لم يحصل، تطوي الصفحات وتنطلق مرة تلو مرة. مدينة كأنما هي مشروع مدينة، حلم مدينة لا تتحقق. بيروت الآن ليست بيروت التي كانت ولا بيروت التي لم تكن من فرط ما كانت. انها على شفير الانتحار الأهلي، ملّت تاريخها وسئمت ذاكرة أهليها وشعرت بأنها وحيدة ومعزولة ومحاصرة. هذا البحر ليس بحرها، وهذه السماء ليست سماءها، والناس الذين يعبرونها ليسو اناسها، أولئك المسالمين، الهادئين، المنفتحين على رياح العالم. هذا الدخان الذي يتصاعد من نوافذها ليس دخان مواقدها، هذه الغيوم التي تعبرها ليست غيوم أطفالها. انها تحتضر اليوم كما لم تحتضر من قبل. كانت بيروت تحتضر دوماً لكنها لم تكن تموت مهما طال احتضارها. اليوم تحتضر بيروت كعادتها، حتى الرمق الأخير، حتى النفس الأخير. لن تموت بيروت حتماً لكنها لم تعد تستطيع أن تتقبل مثل هذه الطعنات. امتلأ جسدها بالجروح، لم يبق من موضع فيه لجروح جديدة. غير ان الطعنات لا تزال تنهمر عليها، تفتح ندوبها التي ما برحت ندية مثل هوائها. انه قدرك، مرة أخرى، أيتها المدينة - الأسطورة، أيتها المدينة - الحقيقة، قدرك الذي يصنعه الأبناء الضالون، بكراهيتهم الأهلية، بحقدهم وبغضائهم، بأيديهم التي لا ترتوي دماً وعيونهم الفارغة، بأنانيتهم وضغينتهم... قدرك مرة أخرى، أن تكوني جحيم الأرض المستعرة، أن تُذبحي وتُدمّري وتُهجري، أن يُعفّر وجهك المشرق بالدم والوحل، أن تُصلبي وتُقطّعي ويُرمى بك في البحر! بيروت تفتقد الآن بيروت. هذه ليست مدينتنا. هذه مدينة لا نعرفها، مدينة ننكرها، مدينة تنكرنا لأننا لم نكن أبناءها، لأننا خناها ونكثنا وعدنا لها... لأننا عدنا نتذابح ونتقاتل ونتصادم مع أننا نعلم جيداً أن ما من أحد سينتصر. حتى الذين سيرفعون راياتهم على شرفاتها يعلمون جيداً أنهم لن ينتصروا. في لبنان لا ينتصر أحد على أحد. حتى"الجلاد"في لبنان لا ينتصر على ضحيته مهما أمعن فيها قتلاً وقتلاً. لم يعد يليق بك الرثاء أيتها المدينة! القصائد التي ندبتك منذ فجر مآسيك سئمتها الذاكرة، والكلمات التي ناحت عليك سقطت كأوراق الخريف. علينا أن نرثي أنفسنا، أن نرثي أحلامنا التي تمزقت، أن نرثي حياتنا التي تهرق كخمرة فاسدة، أن نرثي ماضينا، أن نرثي أيامنا المقبلة. أنت الآن تحتضرين، قلبك مثخن بالجروح، روحك تنتقض كعصفور ذبح للتو، عيناك الفيروزيتان متشحتان بالرماد... كانت بيروت تتهيأ لتكون عاصمة عالمية للكتاب، فإذا بهم يجعلونها عاصمة للحزن والألم، عاصمة للصراخ يرتفع بين الأنقاض، للنواح والعويل... عاصمة الكتاب أغلقوا كتبها وأحرقوها، أقفلوا نوافذها لئلا تطل على العالم، ختموا أبوابها لئلا يقصدها أحد. مدينة الكتاب، أسقطوا الكتاب من بين يديها، طعنوا عينيها لئلا تقرأ، علّقوا حياتها على خشبة، بدّدوا أوهامها الأجمل من التاريخ. بيروت تفتقد بيروت، أهلها يفتقدونها، الرسامون والشعراء والروائيون، مقاهيها تفتقدها، مسارحها وحاناتها تفتقدها، أرصفتها وطرقاتها تفتقدها، الخطى والنظرات تفتقدها... هذه ليست بيروت! هذه ليست مدينتنا، هذه مدينة لا أحد، مدينة متروكة لقدرها، قدرها الذي يخونها مثلما خانها كثيراً. اتركوا لنا بيروت، انها فسحة الحياة الوحيدة التي علمتنا كيف تكون الحياة. اتركوا لنا بيروت، نحن الذين نعجز عن رفع أيدينا لنودّعها!