كتب محمود درويش خلال الحصار الاسرائيلي لبيروت عام 1982 في كتابه "ذاكرة للنسيان" عن استحالة "فهم" لبنان قائلاً: "لا أحد يفهم لبنان، لا أصحابه المجازيون ولا صنّاعه، لا مدمّروه ولا بُناته، لا الداخلون ولا الخارجون...". هذه الجملة قرأتها فيما كنتُ أتصفح الطبعة الجديدة من هذا الكتاب التي أصدرتها دار الريس قبل أيام، واصدرت معها أيضاً كتاب فواز طرابلسي"عن أمل لا شفاء منه"وهو عبارة عن"يوميات حصار بيروت 1982". ولم تصدر الدار طبعتين جديدتين من هذين الكتابين اعتباطاً أو مصادفة، بل أصدرتهما وفي ظنها أنهما يحتويان على ما يجيب عن الاسئلة المطروحة راهناً في بيروتولبنان، خصوصاً بُعيد الحرب التي شنتها اسرائيل على لبنان، ونجم عنها ما نجم من مآزق وأزمات، داخلية واقليمية. إلا ان اللبنانيين الذين وحدتهم - ولو ظاهراً - حرب"تموز"، لم يلبثوا ان تفرّقوا كعادتهم. بل هم سرعان ما انقسموا على أنفسهم كما يحصل عادة في المحن الأهلية. الشارع الواحد أصبح شارعين وأكثر، الساحة أصبحت ساحتين وأكثر، وتوالت التسميات الجماعية بحسب الأيام والتواريخ، حتى كاد المواطن العادي يضيع بين تاريخ وآخر، بين يوم وآخر. الآن لم تعد بيروت تحتاج الى مَن يحاصرها، إنها تحاصر نفسها بنفسها. تحاصر بيروت نفسها في قلب بيروت، في الساحات والشوارع والأزقة. تحاصر نفسها بالمعتصمين والخيم المضروبة في أنحائها، بالشعارات والهتافات، بالانقسام المعلن والكراهية... وهذا الحصار الأهلي لا يحتاج الى من يكتب عنه، والمدينة المحاصرة لا تحتاج أيضاً الى من يتغنى بها وببطولاتها مثلما فعل محمود درويش وبعض الشعراء اللبنانيين والكتّاب. هذا حصار مختلف، المحاصِرون فيه هم اللبنانيون، والمحاصَرون هم اللبنانيون أيضاً. حصار واقعي ومجازي في وقت واحد. حصار الضحايا الذين يظنون أنهم سينتصرون. حصار الجلادين الذين ينظرون الى الضحايا من وراء السياج. خلال حصار بيروت عام 1982 سأل صحافي أميركي محمود درويش في فندق الكومودور في الحمراء:"ماذا تكتب أيها الشاعر في الحرب؟"فأجابه:"أكتب صمتي". هذا ما ورد أيضاً في"ذاكرة للنسيان". تُرى لو سالنا الآن الشعراء في لبنان السؤال نفسه، ما تراهم يجيبون؟ إنهم يكتبون ما هو أكثر من صمتهم. يكتبون جراحهم الداخلية، آلامهم الخفية، قلقهم وحيرتهم، وذلك العبث الكبير الذي بات يُسمى وطناً. كتب برتولد بريشت بُعيد انتصار النازية في ألمانيا عام 1938 قائلاً:"لن يقولوا: كانت الازمنة رديئة، بل سيقولون: لماذا صمت الشعراء؟"في بيروت الآن لا يصمت الشعراء وحدهم، بل المثقفون جميعاً، المثقفون الحقيقيون الذين يحيون على"الهامش"، هامش الوطن، هامش الانتصارات والأوهام، هامش الحروب الداخلية المشتعلة ولكن من دون سلاح ولا رصاص. تسأل بعضاً من هؤلاء المثقفين عن أحوالهم وآرائهم ومواقفهم ازاء ما يحصل، فيترددون في الاجابة، لا خوفاً ولا حيرة فقط وإنما إحباطاً. إنهم محبطون، يائسون، متعبون مثل كل المواطنين الذين اختاروا موقع"المتفرجين"أو موقع"المشاهدين"الصامتين! الأمل الذي لا شفاء منه كما يفيد كتاب فواز طرابلسي لم تبق له فسحة ولو صغيرة في القلوب. أصبح الأمل"مريضاً"كما يقول عباس بيضون. أمل متوهّم يلوح كالسراب في صحراء هذا الوطن. لقد سئمنا حقاً. لم نسأم الحياة في لبنان فقط بل سئمنا السأم نفسه. سئمنا السياسة التي لا تشبه السياسة، سئمنا المدينة التي لم تبق مدينة، سئمنا مشهد الاعتصام والخيم والهتافات. سئمنا نحن، أقول، وليس هم. إنهم لا يسأمون، جميعهم لا يسأمون، جميعهم أياً كانوا. المعتصمون الآن، المعتصمون غداً وبعد غدٍ. الهاتفون، الصارخون في هذا الليل الذي يظنونه نهاراً. ليس أسهل من لبنان وليس اصعب منه. قد لا يكون لبنان صعباً ولكن لا أحد يفهمه. لا نحن ولا الآخرون. لا الأعداء ولا الإخوة. كم أصاب محمود درويش عندما قال:"لن نفهم لبنان الى الأبد". وقد يكون عدم القدرة على فهم لبنان أحد أقداره التاريخية. لقد قدّر لنا حقاً ان نعيش في وطن هو وطن وليس وطناً في الحين عينه. وطن هو خلاصة الأوطان وغيابها أو انتفاؤها. وطن حائر بين ان يكون حقيقة أو وهماً، ان يكون واقعاً أو مجازاً. هذا الحصار الذي تضربه بيروت على نفسها خير دليل على أنها مدينة لا تقوم الا في نقض نفسها. كأن التاريخ هنا سلسلة من الاخطار. وكذلك الجغرافيا، والبحر الذي يواجه الشهداء والسماء التي تكاد تسقط فوق بيروت. اللبنانيون الآن لا يحاصرون انفسهم فقط، إنهم يحاصرون حصارهم الذي هو أكثر من حصار. لقد سئمنا حقاً، نحن القلّة القليلة، ترى متى يسأمون هم، هم الكثرة الكثيرة؟