هل هو قدر الشاعر محمود درويش ان يعود الى بيروت في ظلّ المأساة الفلسطينية مستعيداً صرخته التي أطلقها قبل عشرين عاماً في بيروت المحاصرة حينذاك "حاصر حصارك"؟ أم أنّه قدر فلسطين المحاصرة الآن يدفع شاعر القضية الى استرجاع صوته الغاضب ليعبّر عن بطولة شعبه المناضل وحماسة الشعوب العربية التي نزلت الى الشوارع تظاهراً واحتجاجاً؟ لم يتردد محمود درويش في تلبية الدعوة التي وجهتها اليه النقابات والجمعيات اللبنانية لإحياء أمسية شعرية تحمل عنواناً صارخاً هو "حاصر حصارك" بعدما كان اعتذر قبل أسبوعين عن عدم احياء أمسية شعرية في دمشق ضمن "أسبوع المدى". الأمسية الشعرية التي يحييها مساء اليوم الأحد في بيروت تحمل الكثير من المعاني في هذه المرحلة الحرجة التي تجتازها فلسطين والعالم العربي. ولم يكن اصرار محمود درويش على اطلاق ديوانه الجديد "حالة حصار" من بيروت وبحضوره شخصياً الا تأكيداً على تلك المعاني التي ما برحت بيروت تختزنها أو تمثلها في وجدانه. فالمدينة التي حال ظرفها السياسي أخيراً دون اذاعة خطاب الرئيس ياسر عرفات ستحتشد اليوم في المدينة الرياضية لتصرخ مع محمود درويش وماجدة الرومي وأحمد قعبور: "حاصر حصارك لا مفرّ...". ستغصّ المدينة الرياضية اليوم بجمهور لبناني يؤمن بالقضية الفلسطينية ايمانه بقضيته وبالحرية والحق والكرامة والعدل وبقية "المفردات" لا الشعارات التي تصنع "المعجم" السياسي الحقيقي. علاوة على الجمهور الفلسطيني الذي سيزحف من المخيمات. عودة محمود درويش الى بيروت الآن تختلف عن عوداته المتقطعة التي التقى خلالها جمهوره اللبناني والفلسطيني. انها العودة تحت شعار "حاصر حصارك" الذي أطلقه حين خروجه من بيروت بُعيد الاجتياح الاسرائيليّ. خروج العام 1982 أصبح له الآن معنى العودة لا الى بيروت بل الى فلسطين من بوابة بيروت، هذه المدينة التي كانت خيمة الفلسطينيين ونجمتهم كما قال درويش في احدى قصائده. يلتقي محمود درويش جمهوره بل جماهيره في بيروت، في المدينة العربية التي تعيش اللحظة الفلسطينية الراهنة كما لو انها رام الله نفسها أو نابلس وسواهما من المدن المقاومة، وكما لو أن اللبنانيين المتحمسين الذين يتظاهرون كل يوم ويعتصمون بحرية تامة هم أهل القضية أيضاً. فلسطينيو المخيمات الذين يدركون كل الادراك ان وجهتهم هي الأرض الفلسطينية سيجدون في هذه الأمسية الفرصة الملائمة ليعلنوا حنينهم الى العودة ما دامت فلسطين ستنتصر ولو بأنقاضها ورغماً عن النازيّ الجديد آرييل شارون. أما قصيدة محمود درويش "مديح الظلّ العالي" التي ستغني ماجدة الرومي مقطعاً شهيراً منها بصوت عالٍ ونبرة بطولية فستكون حتماً أشدّ فعلاً من الصواريخ التي تطلق سرّاً من الأراضي اللبنانية الى كريات شمونة وسواها. فالصرخة الجماهيرية المنطلقة من بيروت ستؤازر كلّ الصرخات التي انطلقت في العواصم العربية والعالمية واستطاعت ان تحرّك الرأي العام العالميّ كما لم يتحرك في السابق ولمصلحة فلسطين والفلسطينيين. وقصيدة محمود درويش الجديدة "حالة حصار" التي كتبها تحت وطأة الحصار في رام الله تشهد حقاً على قدره النضاليّ. وإن حملت بعض ملامح المرحلة الحديثة من مساره وبعض سمات التجديد الشعري فهي لم تخلُ من النبرة العالية مذكّرة بقصائده التي كانت بمثابة الحدث السياسي وفي طليعتها قصيدته "عابرون في كلام عابر". فها هو يجاهر بصوت ملؤه الحماسة: "أيها الواقفون على عتبات البيوت/ أخرجوا من صباحاتنا" مسترجعاً صرخاته المدوية: "أيّها العابرون/ بين الكلمات العابرة/ أخرجوا من دمنا/ اخرجوا من ملحنا...". وكانت تلك القصيدة أحدثت أزمة في اسرائيل. الا أنّ محمود درويش، يمضي في قصيدته "حالة حصار" صدرت عن منشورات رياض الريّس وريعها يعود الى دعم الفلسطينيين في الداخل نحو المزيد من الغنائية "الموضوعية" والترميز والتأمل والتخييل من دون أن يتخلّى عن نزعته الواقعية التي جعلته يتنبأ بما سيحلّ من مآسٍ وبطولات كأن يقول: "خسائرنا: من شهيدين حتى ثمانية كل يوم/ وعشرة جرحى/ وعشرون بيتاً. وخمسون زيتونة". وإن اعتاد محمود درويش مثل هذا الجوّ المأسوي المشحون بالألم والحماسة فهو لا يتوانى في قصيدته الجديدة عن المجاهرة بحق الفلسطينيين لا بأرضهم أو وطنهم فقط بل بوجودهم في ما يعني من تجذّر وكينونة: "ولنا هدف واحد واحد واحد: أن نكون". أما السؤال الذي طرح عشية الأمسية فهو: لماذا تغيّب عن الغناء الفنان مرسيل خليفة الذي أطلّ أكثر من مرة مع محمود درويش ليحلّ محلّه أحمد قعبور؟