بعد غياب 17 عاماً، يصل الشاعر محمود درويش الى بيروت مساء اليوم لإحياء امسية شعرية في قصر "يونيسكو" الأربعاء المقبل، في اطار مؤتمر تنظمه هيئة المعماريين العرب بالتعاون مع نقابة المهندسين في بيروت تحت عنوان "القدس الآن - المدينة والناس: تحديات مستمرة"، وذلك بين 8 تشرين الثاني نوفمبر الجاري و11 منه. والأمسية الشعرية التي سيحييها الشاعر بمشاركة الفنان مارسيل خليفة تأتي في وقت يواجه فيه خليفة تهمة تحقير الشعائر الدينية في قصيدة لدرويش أنا يوسف يا أبي تضمنت فقرة من آية من القرآن الكريم. وفي حديث هاتفي اجري معه من باريس، علّق درويش على هذا التزامن قائلاً: "كان برنامج الأمسية محضّراً قبل ازمة مارسيل خليفة. لذلك فإن وجود مارسيل خليفة معي او وجودي معه في القاعة نفسها قد يرفع درجة الحماسة الى مستوى لا أريده. اريد الأمسية ان تكون شعرية محضة، غير مرتبطة بحدث او بقضية". وكان درويش أحيا في 1971 أول امسية له في العالم العربي في قصر "يونيسكو" ايضاً. ويقول عن تلك الليلة "كانت امسية عاصفة، وكان يوجد تعارض بين توقعات الجمهور وبين ما قدّمته. كنت حريصاً على تقديم جديدي في حين كان يرغب الجمهور في الاستماع الى صدى، ووقتها طلبوا مني القاء "سجل انا عربي" وأنا قرأت قصيدة "سرحان يشرب القهوة في الكافيتيريا". فكان أول صدام ودي بيني وبين الجمهور اللبناني. كنت حريصاً على ان اثبّت تجدد تجربتي، وهذا ما قد افعله في هذه الزيارة. سأحاول ان اقرأ جديداً". استقرّ محمود درويش في بيروت في 1972 وأقام فيها عشر سنوات، حتى 1982، عندما أُجبر على مغادرتها بعد الغزو الاسرائيلي. وعن الذكرى التي احتفظ بها لبيروت يقول درويش: "تركت بيروت في ظروف حرجة جداً. كنا خارجين من حصار صعب ومأسوي. وبالاضافة الى ذلك، كانت السنوات العشر التي امضيتها في بيروت سنوات حرب للأسف الشديد، فالذاكرة لم تتمكّن وقتها من تجميع صور مشرقة لأن جو الحرب كان سائداً على العلاقات وعلى اللغة وعلى الكتابة. لذلك، عندما خرجت من بيروت في اواخر 1982، بعد مجزرة صبرا وشاتيلا، لم اكن احمل الا ذكريات موحشة. الآن، بعد مرور الزمن، الذاكرة تتصفّى وتأخذ بيروت صورتها الحقيقية ويظهر بعض الجوانب التي كان يغطيها دخان الحرب. فأحتفظ لبيروت بصورة العاصمة الثقافية العربية الأولى التي جرى فيها اعمق الحوارات الثقافية والفكرية، وكانت ورشة تفكير وورشة تحديث وورشة اسئلة. من اهم صور بيروت هو هذا الجانب التعددي والديموقراطي الذي جعل منها فعلاً مركز تفاعل ابداعي عربي - عربي وعربي - عالمي. وهذا الحيزّ من الحرية والديموقراطية والتعددية هو ما يمنح بيروت خصوصيتها ومكانتها الخاصة، وليس القوقعة في داخل الهوية المغلقة وفي داخل الصَدَفة الطائفية. لذلك بيروت لن تكون ما هي الا اذا بقيت منفتحة وتعددية". ويضيف: "لم أتكلم عن جمال القوام الجغرافي لبيروت، وحوارها الدائم مع البحر، ونكهة خريفها الخاصة". أبعد من الذكريات، ما الذي شكّلته بيروت بالنسبة لنتاجه الشعري؟ يقول محمود درويش: "بالدرجة الأولى، كان لي أول لقاء مباشر مع حركة الحداثة الشعرية العربية والتعرف على شعرائها وفنانيها. ولكن، اذا نظرت بمسافة أبعد الى انتاجي في بيروت، فأنا اضعه في مجهر النقد. لا اظن ان افضل انتاجي كُتب في بيروت وبخاصة ان ظروف الحرب، كما قلت من قبل، كانت ضاغطة على الشعر. وكانت المطالبة بتفاعل مباشر مع الواقع تُبعد، الى حد ما، الاهتمام بجماليات ضرورية. وبالتالي، فأنا اعيد النظر بكل تجربتي الشعرية في بيروت ولا انظر اليها كلها بعين الرضا. طبعاً، هناك انتاج تجريبي وانتاج مختلف ولكنني لا اظن ان زمن الحرب قد سمح لأي شاعر بأن ينتبه اكثر الى عمله الشعري بقدر انتباهه الى خوض الواقع والى حركة الواقع". ونصّ "ذاكرة للنسيان" النثري صدر عام 1987، هل كانت كتابته وسيلة كي يتخطى الشاعر تجربته اللبنانية؟ يجيب درويش: "في الدرجة الأولى، كُتب هذا الكتاب كشهادة على حدث كبير في التاريخ العربي المعاصر. هذا الاعتبار العام، وأما في ما يتعلق بي، فقد كتبته لكي احرّر نفسي من الحنين المبالغ به الى بيروت لأن اي كتابة تحرّر كاتبها من موضوعه الى حد ما"... والحنين، على الرغم من ذلك، ألم يستمر؟ يفسّر الشاعر: "اخفّفه كثيراً لأنه ليس مسموحاً لمن هو مثلي ان يشتاق كثيراً الى بيروت، لأن حنيني يعطى تفسيرات سياسية وتوسعية عند بعض الذين يريدون او يحبون ان يحتكروا العاطفة". ولكن، كيف يمكن لمحمود درويش الذي سكن بيروت عشر سنوات ان ينسحب من تجربتها كلياً؟ يقول: "انا لا أنسحب، بل انا أناور. ومهما ناورت، لا استطيع ان أُخفي حبي الخاص لبيروت وشعوري بالامتنان لها ولأهلها. ولكن، كما قلت لك، ليس مسموحاً لي ان احمل التعبير عن حبي لبيروت الى مساحات اكبر أخذاً بالاعتبار خوف البعض من محاولة استيلاء جمالي على مدينة ليست لي". يصل الى بيروت مساء اليوم، ويمضي فيها خمسة أيام. ما هي توقعاته - ومخاوفه - بعد غياب دام 17 سنة؟ يقول: "درّبت نفسي منذ مدة طويلة على ان اخفّف توقعاتي دائماً، وان اذهب خاليَ القلب وخاليَ البال وغير مجهّز بتصورات مسبقة. لذلك، لا اخشى اي خيبة امل فأنا محصّن ضد خيبات الأمل. لا يخيفني شيء، ولكنني اخشى ان يكون الناس قد تغيّروا".