أين يمكن أن نجد لائحة الأسعار هنا؟ يطرح هذا السؤال كل أوروبي يمر في شارع الجميزة وسط بيروت، من دون تردد. لا توجد أمام مدخل أي من المطاعم لائحة بالأسعار. الرسالة تبدو واضحة:"من يدخل إلى هنا يجب ألا يسأل عن المال"!. وبالفعل، فالسيارات المارة في هذه المنطقة تدل على الغنى الفاحش لأصحابها. رُكنِت هذا المساء في مكان واضح سيارة"لامبورغيني"في أول شارع غورو قبالة مقهى، و لا تلبث أن تصبح واضحة للجميع قواعد اللعبة. إنها لعبة، أو بالأحرى، هل علينا أن نقول: هجوم السيارات الفاخرة؟. تبدأ هذه اللعبة بعد العاشرة مساءً، من يصل قبل ذلك الوقت، يتنبّه الى المطاعم الفارغة إلى حد كبير وطاولاتها المعدّة في شكل جميل. ومن المستحسن للمرء أن لا يطأ تلك المطاعم، إلا بحجز مسبق إذ يسمع في عدد كبير من الأماكن عبارة:"عفواً، المكان كله محجوز". إذاً أنت محظوظ إذا وجدت مكاناً. هذا المساء دخلنا إلى مطعم"Louie"حيث الموسيقى الحية وزينة الحائط المكونة من الآلات الموسيقية. تعزف هذا المساء فرقة خريستو للجاز والروك. وها هم أعضاؤها يتأكدون من جهوزية آلاتهم. عندها يجلس المرء في مقهى شبه فارغ ليتناول طعامه، في حين أن الأماكن الأخرى الفارغة"محرّمة"لأنها محجوزة مسبقاً. لكن الصورة تتبدل كلياً نحو العاشرة والربع مساءً، حين تبدأ أحدث سيارات"بورش"و"مرسيدس"و"هامر"و"فولفو"و"بي أم"، بالتوافد كما لو كانت تستجيب لأوامر عليا!. العدد كبير جداً، بخاصة بالنسبة الى شارع صغير لا تزيد مساحته على 800 متر. النتيجة ازدحام يمتد إلى شوارع المنطقة الوسط التجاري، الأشرفية، الصيفي. لماذا لا يأتي هؤلاء بالتاكسي؟ هناك إجابة واحدة على هذا السؤال: لم يشتروا سياراتهم لقيادتها، بل لإبرازها. أما المطاعم فابتكرت فكرة حاجب المرآب"Valet Parking"كي لا يضطر زوارها للتفتيش عن مكان لركن سياراتهم. يأخذ الحاجب السيارات الفخمة، ولكن إلى أين؟ الفناءات الخلفية القليلة تكتظ بسرعة فيلتف الحاجب بالسيارة حول الأبنية، وفي بعض الأحيان، ولمجرد المتعة، يواصل القيادة بسرعة ما يؤدي إلى زجره وتبديله بحاجب آخر... وكل ذلك وسط"سيمفونية"أبواق السيارات التي أصبحت أمراً طبيعياً في بيروت. الأبواق تُطلق أيضاً في شارع المطاعم والمقاهي البيروتي القريب شارع الحمرا. الناس الذين يحاولون هنا ركن سياراتهم هم من ذوي الدخل العادي. ونلاحظ هنا وجود عدد أكبر من الدراجات النارية. شارع الحمرا، منطقة الطلاب في بيروت، وروادها من الأقل ثراء، ولكن بالنسبة الى إحياء الحفلات الراقصة لا فارق بين شارعي الجميزة والحمرا: يحتفل الناس كما لو أن الغد لن يأتي أبداً. المقاهي مثل"تاء مربوطة"أو"باروميتر"أو"سمرا"هي الأماكن الأكثر ارتياداً من شبيبة بيروت وطلاب الجامعات والصحافيين. أحياناً يأتيها أيضاً بعض السياح الأوروبيين. في مقهى"سمرا"تعزف فرقة"أقاربنا"التقليدية على العود والرق والكمان والبص. يتألف هذا النادي من غرفتين في إحدى البنايات القديمة القليلة التي نجت من الحرب الأهلية. من دون مقدمات أو أوامر عليا، يشبك الجميع ايديهم ليشاركوا في هذا المكان الضيق في الدبكة اللبنانية التي تشبه الرقصة الإرلندية المعروفة ب"Step Dance". شيئاً فشيئاً يتحمّس الساهرون، فتصبح الكراسي والطاولات مكاناً للرقص والتصفيق والغناء، وهو ما لا تراه في أوروبا، إلا في الحفلات الخاصة. فهناك، من يقف على كرسي في مقهى لا يلقى سوى اللوم. تتمشى بعض النساء المرتديات أحذية كعوبها عالية برفقة رجالهن أو المعجبين بهن في شارع"غورو"، على بلاط الرصيف ذي الحفر الكثيرة. الغريب أنهنّ لا يكسرن كواحل أرجلهن. يمكن أيضاً رؤية مجموعات من الشابات اللواتي يتدفقن إلى أماكن مثل 55-Lounge Bar، Copper، s"Hickey، Corleone أو Melting Pot الذي يمتد على طابقين من أحد الأبنية. أما كابلات الكهرباء الممتدة مباشرة فوق مداخل الأبنية العادية والتاريخية فلا تزعج أحداً. كما أن ارتفاع الأرصفة الشديد عن مستوى الطريق لا يزعج أحداً. صباح اليوم التالي، يعود شارع الجميزة إلى حاله الطبيعية بعد انتهاء"غزو"الثراء والجمال. محال الخضار والفاكهة التي لم تكن مرئية ليلاً وسط الازدحام، تفتح أبوابها مجدداً. على حافة الشارع يرى المرء باص"فولكسفاغن"مهترئاً يتعدى عمره 35 سنة، إذ تحل قطعة من الخشب مكان الباب، والضوء الأيمن يتدلّى خارج موضعه. ولو كان هناك مكان في موسوعة"غينيس"للأرقام القياسية لفن تبدل أحوال الشوارع، لكانت حظوظ شارع"غورو"في الجميّزة كبيرة. * صحافي في جريدة"فرانكفورتر روندشو"الألمانية، والنص ثالث المساهمات التي تنشرها الجريدة و"الحياة"في إطار برنامج"كلوز أب"للتبادل الصحافي بالاتفاق مع المعهد الثقافي الألماني غوته. تشارك في البرنامج صحف ألمانية وأخرى من افريقيا والشرق الأوسط، على مدى أسابيع، لتغطية شؤون سياسية وثقافية واجتماعية.